قبل اندلاع ما سمي ب "الربيع العربي" في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، سادت أطروحات نظرية في العلوم الاجتماعية، وفي السوسيولوجيا السياسية بشكل خاص، حاولت الترويج لظاهرة الاستثناء العربي من عملية التغيير والتحول الديمقراطي، بحيث اتجه أغلب الباحثين المدافعين عن هذا الطرح (الاتجاهات الاستشراقية بالخصوص) نحو قدرة الأنظمة العربية على التكيف مع المتغيرات الداخلية والخارجية، وكذا وجود تناقض صارخ بين قيم الديمقراطية والإسلام، إضافة إلى غياب التجانس المجتمعي والثقافي، وموقع القرب جيوسترايجي من مراكز الصراع . فهذه المبررات التي نفت قدرة المجتمعات العربية قابلتيها للتغيير تم دحضها أواخر عام 2010 وبداية 2011، بعد اندلاع الحراك العربي الذي بدأت شرارته من تونس، وانتقل إلي باقي الأقطار العربية الآخرى. بحكم التقاطع بين دول الحراك العربي والمغرب، تقاطع في التاريخ والدين، في الثقافة والمصير المشترك، وحتى في انتشار ظاهرة السلطوية، انطلقت دعوات تأسيس حركة اجتماعية من طرف الشباب المغربي، حدد لها يوم 20 من فبراير 2011، مست النظام السياسي المغربي من خلال مطالبها، والذي بدوره لم يتوان في كبح جماح قوة الحركة الاجتماعية عبر نهجه لتكتيكات متنوعة، مما أظهر إشكالية التجاذب بين طرفي المعادلة (حركة 20 فبراير/النظام). في تاريخية الحراك الاجتماعي في المغرب : الحراك الاجتماعي في المغرب ليس وليد سياق ما اصطلح عليه "بالربيع العربي"، بل هو عملية ضاربة في القدم، كان محركه احتدام التناقضات الاجتماعية، التي أفرزت اصطدامات عديدة بين السلطة السياسية والمجتمع في التاريخ المغربي القديم والحديث والمعاصر. لقد عاش المغرب على إيقاع مجموعة من الانتفاضات الجماهيرية، بدءا من انتفاضة الدباغين بفاس عام 1873، انتفاضة "بوحمارة" 1902، انتفاضة الإسكافيين بمراكش 1904، انتفاضة الدارالبيضاء 1952، مرورا بانتفاضات مغرب الاستقلال كانتفاضة الريف 1958، انتفاضة مارس 1965، وانتفاضات سنوات 1984، 1990، وصولا إلى انتفاضة سيدي إيفني 2008، وحراك حركة 20 فبراير في 2011. بروز حركة 20 فبراير ومطالبتها النظام السياسي بعملية الإصلاح والديمقراطية : بعد تفجر الأوضاع في تونس ومصر، ونجاح الحركات الاجتماعية في إسقاط رؤوس أنظمة الحكم، بدأت مجموعات شبابية تحضر لعملية انطلاق الاحتجاج في المغرب، حدد له على المجال الافتراضي يوم 20 من شهر فبراير 2011، بعد أن ظهرت عدة أرضيات/أوراق تأسيسية كالبيان التأسيسي لحركة "حرية وديمقراطية الآن"، الأرضية التأسيسية لحركة "الشعب يريد التغيير"، وثيقة مطالب الشعب المغربي: النقاط 20 الملحة. اندمجت هذه الأرضيات فيما بينها مشكلة ما بات يعرف بحركة 20 فبراير. يمكن إرجاع بروز هذه الحركة الى سياقين: سياق إقليمي وآخر وطني. فالأول تميز باتساع رقعة موجة الحراك الاجتماعي الذي اجتاح مجموعة من الدول العربية، مما أفرز فرصة سياسية لظهور مطالب جمعت بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، استثمرتها هذه الحركات الاجتماعية لتنادي بالتغيير السياسي، أما السياق الثاني الذي انبثقت في ظله الحركة، فتمثل في وجود تراكم تاريخي في السياسة المتبعة في البلاد: فقد حدث أن تحكم النظام في القرارات السياسية، وتم الخروج عن المنهجية الديمقراطية بعد حكومة التناوب، تسجيل العجز في الميزان التجاري، محدودية الحصيلة الاجتماعية خلال مرحلة الحكومات المتعاقبة . إن هذا النهج أظهر وجود خلل في العلاقة بين الحقل السياسي الرسمي والمجتمع، هذا الحقل الذي اتسم بضعف الفاعلين السياسيين ومحدودية صلاحياتهم وولائهم وتبعيتهم لأجندة النظام السياسي، لينتج عن هذا الوضع شللا في الحياة السياسية المغربية. وفي هذا السياق، تدخلت حركة 20 فبراير لإعادة ترتيب توازنات الحقل السياسي من جديد، الذي لم تكن له القدرة على رسم مشروع سياسي للمجتمع والدولة، بحيث رفعت شعارات تطالب من خلالها بمراجعة علاقة الفاعل السياسي بالمواطنين، رافضة بذلك أطروحة الانتقال الديمقراطي التي اعتبرتها شعارا فارغا من أي مضمون سياسي حقيقي، ليكون خروج المتظاهرين آنذاك نابعا من مسلمة مفادها أن الوضع السياسي في المغرب تغيب عنه آليات المحاسبة والمساءلة، وفاقد لمقومات الممارسة السياسية كما هو متعارف عليها في الدول الديمقراطية. من هنا طالبت الحركة النظام السياسي بعملية الإصلاح والديمقراطية عبر العديد من المطالب لخصها البيان التأسيسي للحركة في تسع نقاط: دستور ديمقراطي، حل الحكومة والبرلمان، قضاء مستقل، محاكمة المتورطين في قضايا الفساد، الاعتراف باللغة الأمازيغية لغة رسمية، إطلاق المعتقلين السياسيين، توظيف المعطلين، خفض الأسعار، توفير الخدمات الاجتماعية. استراتيجية النظام السياسي المغربي لكبح قوة الحركة : استطاعت حركة 20 فبراير أن تنظم، في أولى خرجاتها يوم 20 فبراير 2011، مظاهرات حاشدة في أزيد من 54 مدينة مغربية، شارك فيها العديد من الفئات الاجتماعية والتنظيمات السياسية، رافعة شعارات عديدة ولوحات مكتوبة حملت طابع السخرية في الغالب، وقد كان لرموز حزب صديق الملك (حزب الأصالة والمعاصرة) النصيب الوافر من التنديد والمطالبة بإبعادهم ومحاكمتهم. وفي الوقت الذي راهن فيه النظام السياسي على ضعف الاستجابة الشعبية لنداء الحركة، كما راهن أيضا على حدوث اصطدامات أفقية بين مكوناتها، نظرا لاختلافاتهم الإيديولوجية والسياسية، ومحاولته اللعب مند البداية على وتر بث التشويش وتشويه سمعة المناضلين، لكنه خسر كل الرهانات، مما زاد من فعالية القوة التنظيمية والتأطيرية للحركة. هذا جعل النظام السياسي يفكر في تغيير تكتيكاته للتعامل مع الو ضع، كان أولها الخطاب الملكي الاستباقي ل 9 مارس 2011، الذي أعلن من خلاله محمد السادس عن تعديل دستوري، متجاوزا بذلك مطالب الحركة، نافيا أن قوة الاحتجاج هي من دفعت بهذا الإجراء الدستوري، بل إن هناك دوافع أخرى محركة انخرط فيها المغرب منذ الاستقلال، في مقدمتها الملائمة مع متطلبات الجهوية المتقدمة. لقد شكل إذا الخطاب الملكي لحظة مفصلية في بداية ضعف الحركة، نتيجة بروز خلافات وانقسامات سياسية، بحيث اعتبرت مجموعة من الأحزاب السياسية المشاركة في الحراك أن الهدف من الاحتجاج قد تحقق، في حين رأت الحركة والمكونات الداعمة لها عكس ذلك، وعارضت الإجراءات الإصلاحية واعتبرتها إصلاحات فوقية، تنفيسية، لم تخضع للقواعد الديمقراطية، منتقدة بذلك أسلوب التعديل الدستوري، ودعت إلى مواصلة ااحتجاج. فبعد خطوة التعديل الدستوري، لجأ النظام مباشرة إلى إجراءات أخرى كإحداث المندوبية السامية لحقوق الإنسان، إنشاء مؤسسة الوسيط، وإقرار مجموعة من مشاريع القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد، إضافة إلى إطلاق سراح حوالي أزيد من 200 معتقل سياسي. لقد شكلت هذه التحولات بداية ضعف حركة 20 فبراير، رغم استمرارها في خرجاتها الاحتجاجية، لكن النقطة الفارقة الأخرى التي أضعفت التنظيم هي احتدام الصراعات الإيديولوجية بين مكوناتها (اليساريين- الإسلاميين)، نتج عن هذا انسحاب جماعة العدل والإحسان المعارضة من الحركة، لتساهم عوامل أخرى في تراجعها كالتضييق على أعضائها والاعتقالات المتتالية، مجيء حكومة بقيادة حزب إسلامي، وكذا الانعكاس السلبي الذي أفرزه تعثر التجربة الثورية المصرية، والوضع الغامض في ليبيا، وحالة الدمار التي عرفتها سورية. ليكون لتطورات السياق الإقليمي النصيب أيضا في جعل النظام السياسي ينجح في شرعنة عدة أطروحات تم الترويج لها إعلاميا كالاستثناء المغربي، والتغيير في ظل الاستمرارية . عموما، وفي خضم علاقة التجاذب بين طرفي المعادلة (النظام السياسي وحركة 20 فبراير)، يمكن القول إن الطرف الأول كبح قوة الطرف الثاني، مستغلا مركز قوته ورجوح ميزان القوة لصالحه، مستفيدا من بعض الأخطاء الاستراتيجية للحركة، وكذا خبرته في خوض الصراعات التاريخية الطويلة مع الحركات الاجتماعية السابقة والمعارضة (جيش التحرير، الحركة الوطنية، الاسلاميين، اليساريين)، لكن هذا لا يعني أن الفعل الاحتجاجي قد توقف، بل مازالت شروطه ضاربة في النسيج الاجتماعي للمجتمع المغربي، مادامت هناك تناقضات سياسية واقتصادية واجتماعية. *باحث في السوسيولوجيا السياسية- جامعة محمد الخامس بالرباط