إن الهدف الأسمى من الصحافة الاستقصائية الاحترافية، ليس البحث عن النجومية، أو الثأر، أو الابتزاز، وإنما كشف المستور، وتوثيق المشكلة على أمل لفت نظر الجهات المتسببة لمعالجة القضية، وتحقيق العدالة، والشفافية، والمساءلة، وهذه أساسيات عمل السلطة الرابعة، ومن ثم تُعد الصحافة الاستقصائية أمراً حيوياً لديمقراطية سليمة . أصبحت الصحافة الاستقصائية مهنة لها عائلة منتشرة حول العالم، متى تقرر أن تصبح صحفيًا استقصائيًا ستجد نفسك داخل هذه العائلة التي تحتضنك وتقدرك؛ فقد تأسست شبكة الصحافة الاستقصائية العالميةGlobal Investigative Journalism Network ، عام 2001 كمنتدى لتبادل أفضل الممارسات في عالم الصحافة الاستقصائية، وقد تم تعزيز عملية التطوير الجماعية بإنشاء مركز لندن للتغطية الاستقصائيةCentre for Investigative Reporting of London، ومدرسته الصيفية Summer School السنوية ساعد بتفحّص طرق جديدة لتعليم عملية تأليف القصص بناء على أسلوب الفرضية، حيث ظهر أن أسلوب التحقيق الصحفي الاستقصائي القائم على قصة أساسها فرضية كان منهاجًا يجرب بشكل مستقل في عدة بلدان، واكتشف الهولندي ليوك سنجرزLuuk Sengers أن التحقيق الصحفي على أساس فرضية يمكن أن يُطبّق على إدارة مشروع من ألفه إلى يائه، وطوَّر الدنمركي فلمنع سفيث Flemming Svith أدوات كومبيوترية فعَّالة، وبسيطة لتنظيم الاستقصاءات، وقام المُغترب الأمريكي في البلقان درو سوليفان Drew Sullivan بتقنين ممارسات تغطية تدور حول الجريمة المنظَّمة يمكن أن تُطبّق على أوضاع أخرى عديدة، ولعل المنطقة العربية تشهد الآن اهتمامًا من قبل منظمات، وهيئات دولية ممولة لتشجيع الصحافة الاستقصائية بها، ينخرط فيها القاصي، والداني لتشجيع هذا اللون من الصحافة الذي التصق به حلم التغيير، كما تقول مارينا ووكر جيفار التى تعمل في الإتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ): "إن فكرة الصحفي الاستقصائي وهو يعمل لوحده في ركن منعزل في مكان ما من العالم لا تمت للواقع بصلة الآن. من بين الأعضاء المؤسسين لتلك الشبكة نلز ميولفاد Nils Mulvad من المعهد الدانمركي للتغطية الإعلامية المدعومة بأجهزة الكمبيوتر-Danish Institute for Computer Assisted Reporting ، برانت هيوستن Brant Houston من منظمة محررون وإعلاميون استقصائيون،Investigative Reporters and Editors، مارك لي هنتر أستاذ الإعلام والصحافة الاستقصائية في جامعة باريس الثانية، وبيا ثوردسون عضو مجلس إدارة جمعية الصحفيين الاستقصائيين في الدانمرك، الصحافة الاستقصائية تشمل كشف أمور خفيّة للجمهور- أمور إما أخفاها عمداً شخص ذو منصب في السلطة، أو اختفت صدفة خلف رُكام فوضوي من الحقائق والظروف التي أصبح من الصعب فهمها، فالصحافة الاستقصائية ليست فقط صحافة تقليدية جيدة، وحسنة التنفيذ، لكنها أيضًا صحافه متميزة فنيًا، ففي الصحافة الاستقصائية لا يتم تطوير العناصر كميّاً فقط، بل ونوعياً أيضاً فتجد: •§ "من": شخصية لها صفة، وأسلوب مميز وليست مجرد اسم ولقب. •§ "متى": سياق تاريخي للسردً، وليس فقط حاضر وقوع الأخبار. •§ "ماذا" ظاهرة لها أسباب ونتائج، وليست مجرد حدثٍ. •§ "أين" مكان تصبح فيه إمكانية وقوع أحداث معينة ممكن أكثر، وليس مجرد عنوان. •§ "لماذا"، تتحول إلى عنصر "كيف" في الاستقصاء. هذه العناصر، والتفاصيل تمنح الصحافة الاستقصائية، في أفضل أحوالها، ميزة فنيَّة تُعزز أثرها العاطفي على المتلقي، وفي هذا الفصل ستعرض الباحثة شرح لمفهوم هذه المهنة ونبذة عن تاريخها، وكذلك عرض المنهاج الذي وضعه عدد من الأكاديميين، والممارسين لهذا العمل، والتعرض لأهم المواصفات التي يجب أن تتوفر في محرريها، ونماذج لصحفيين عالميين بارزين في الصحافة الاستقصائية. وقد اتفق معظم المتخصصين الذين حاولوا وضع تعريف للصحافة الاستقصائية على أنها نمط من الصحافة يتجاوز التغطية المعتادة للحوادث، والمؤتمرات، والبيانات الصحفية، ويسعى إلى كشف المعلومات الخفية. ومصطلح "الصحافة الاستقصائية "investigative reporting لم يستخدم حتى وقت متأخر من أربعينيات القرن الماضي، إذ كانوا يطلقون عليها صحافة الكشف أو التحديد.revealing disclosing, or uncovering ، يصف مؤرخ الصحافة جيمس Aucoin James L. أنها صحافة تأخذ نظرة شاملة واسعة النطاق في القضايا التي لها تأثير كبير على حياة الجمهور، "ويقترح خمسة عناصر هي: التعرض للمعلومات والمصلحة العامة، ومحاولة من قبل شخص لإخفاء الحقيقة، والجهد الإخباري، والإصلاح كهدف. يعرف رئيس المركز الدولي للصحفيين ديفيد نابلDavid Nabeul الصحافة الاستقصائية أنها مجرد سلوك منهجي، ومؤسساتي صرف، يعتمد على البحث، والتدقيق، والاستقصاء حرصًا على الموضوعية، والدقة، وللتأكد من صحة الخبر، وما قد يخفيه انطلاقًا من مبدأ الشفافية، ومحاربة الفساد، والتزامًا بدور الصحافة ككلب حراسة على سلوك الحكومة، وكوسيلة لمساءلة المسئولين، ومحاسبتهم على أعمالهم خدمة للمصلحة العامة، ووفقًا لمبادئ قوانين حق الإطلاع، وحرية المعلومات. بينما يرى ديفيد كابلن أنها نهج منظّم لحدْس، يتطلّب الغوص في العمق، والبحث الفعلي الذي يقوم به الصحفي بنفسه، بالإضافة إلى التغطية الصحفية يتناول طريقة علمية في البحث، معتمدة على وضع فرضية اختبار مدى صحتها، التأكّد من الحقائق المحاطة بهذه الفرضية، نبش الأسرار المغمورة، وضع ركائز العدالة الاجتماعية والمساءلة، بالإضافة إلى الاستخدام المفرط للتسجيلات المعلنة، وعادةً ما تكون على شكل بيانات. كما يعرفها ديفيد سبارك"David Spark" : أنها الصحافة التي تسعى إلى جمع الحقائق التي يريد شخص ما حجبها، بحيث تكون هذه الحقائق مثيرة للجدل، والقلق بما يكفى للكشف عنها. ويرى كريس :Chris Horrie أنها شكل عام يبدأ به الصحفيون قصتهم بناء على اشتباه بأن هناك خطأ ما قد وقع، ولا يكتفون فيه بمجرد التغطية البسيطة، والأكثر سلبية للأحداث كجزء من الروتين اليومى للعمل الصحفي. ويرصد ديفيد راندال :David Randallأن هناك مذهب صحفى يستهزئ، ويستخف بما يدعى التقرير الاستقصائي، ولا يقبل حتى بوجوده، حيث يقدم الحجة على أن العبارة خالية من المعنى، نظراً لأن التقارير الصحفية جميعها تحقيقات استقصائية، نتمنى لو كان ذلك صحيحاً، لكن بعض التقارير استقصائية فقط في معنى الكلمة. ويرى يوهانس فون دوهنانيي Johannes Von Dohnanyiأن التحقيقات الاستقصائية هي الشكل الأكثر تكلفة في مهنة الصحافة، كما أنه لا يوجد ضمان للنجاح، وفى ظل ندرة الموارد المالية، فإن قرار مشاركة أي محرر في التحقيقات الاستقصائية تكون بحاجة إلى قدر كبير من الشجاعة. والصحافة الاستقصائية نوع من أنواع التحقيقات الصحفية التي يقصد بها التحقق، والاستقصاء، والتأكد من المعلومات التي يتم جمعها قبل نشرها، والتي تتناول قضية، أو قضايا لا يرغب الآخرون في الإطلاع عليها، أو إظهارها إلى الواجهة الإعلامية، أو المجتمعية، وتقول رنا صباغ: إن الصحافة الاستقصائية أفضل طريقة للوصول إلى قلب الحقيقة، والخروج من دائرة التأثير المبرمج الذي يتم ضمن حلقات صناعة الإعلام، وتمرير المعلومات، وأن الصحافة الاستقصائية تكشف التجاوزات، والممارسات الخاطئة، وتُفعِّل مبدأ المحاسبة والمساءلة بما يؤدي مبدئياً إلى تصويب الأوضاع. ويرى فاضل البدرانى أن الصحافة الاستقصائية هي ذلك العمل المنهجي المنظم الذي تتوافر فيه ملايين المعلومات، والوثائق الرسمية، بجانب توفير الحريات اللازمة من قبل الجهات الرسمية، وإعدادها في تحقيقات محكمة قانوناً، لتجّنب الإشكالات، وأية تبعات تعرقل عمل، وجهود المؤسسة، والمحرر المكلف، ولكل منها مصادره، وكذلك نُقَّاده، يستهدف التحليل، والتعمق في حيثيات الظاهرة أياً كان نوعها؛ اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً، كما أنها إحدى الأجناس الصحفية الأكثر موضوعية، وتوازناً في تصوير الواقع، تقوم على أساس توثيق المعلومات، والحقائق بخطوات منهجية علمية بغية كشف المستور، وخدمة المنفعة العامة. ويعرفها "كامل القيم" إنها نمط من العمل الإعلامي الذي يتميز بالبحث، والتنقيب عن مجريات تهم المجتمع، ومصلحته العليا، بغض النظر عن سياسة الممول، أو المؤسسة، أو أوجه التصادم مع متضرر جراء نشره، أو ترويجه بالشكل الذي يستند على وثائق، وأسانيد قابلة للنشر، والعرض، وأن حالة الكشف تؤدي إلى تصحيح مسار، أو سياسة فورية، أو إستراتيجية تعود بالنفع على المجتمع. فالتحقيقات الاستقصائية هي أعلى مراتب المهنية الإعلامية، ولكن في نفس الوقت هي أصعبها، والصحافة أو الإعلام الاستقصائي هو الذي يحدد قوة، ومكانة الإعلام في أي مجتمع، ويجسد التحقيق الاستقصائي دور السلطة الرابعة لوسائل الإعلام في المجتمعات، أو ما يمكن تسميته بوظيفة المراقبة التي تنتهجها وسائل الإعلام في إطار من الاحترافية المطلوبة من مؤسسات الإعلام. وتتمتع الصحافة الاستقصائية بأهمية كبيرة نظراً لإسهامها في تثبيت الحكم الديمقراطي، ويمكن فهم تأثيرها من خلال نموذج السلطة الرابعة التي تتولاه الصحافة، ووفقاً لهذا النموذج تقع على الصحافة في هذه السلطة مهام محاسبة الحكومة بنشرها المعلومات المتعلقة بالشؤون العامة، حتى ولو كانت هذه المعلومات تكشف تجاوزات، أو جرائم ارتكبها من هم في السلطة. فالهدف الأسمى من الصحافة الاستقصائية الاحترافية، ليس البحث عن النجومية، أو الثأر، أو الابتزاز، وإنما كشف المستور، وتوثيق المشكلة على أمل لفت نظر الجهات المتسببة لمعالجة القضية، وتحقيق العدالة، والشفافية، والمساءلة، وهذه أساسيات عمل السلطة الرابعة، ومن ثم تُعد الصحافة الاستقصائية أمراً حيوياً لديمقراطية سليمة، وبدونها فإن أخطاء المسئولين التنفيذيين، أو أخطاء المؤسسات لن تستمر فقط، ولكن يمكنها أن تُفسد الهيكل السياسي، ويعتبرها البعض جزء من العمل الرقابي التخصصي، الذي من الممكن أن يصنع رأي عام بين الجمهور خاصة إذا تبنت نتائجه بعض الجهات السياسية، ووسائل الإعلام، والصحافة الاستقصائية كاشفة لجرائم، وفضائح، وفساد الساسة، والمسئولين، ويقال في الغرب: أن للصحافة الاستقصائية قدرة لا تضاهى على ربط مسئولين بجرائم معينة. img class="rg_ic rg_i" style="width: 298px; height: 169px; margin-left: 0px; margin-right: 0px; margin-top: 0px;" src="https://encrypted-tbn0.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcS1AojY01PGRcqRfnfwLCR8g3BHIlSYPp5bQ9s4z00TtBdzFkGSrQ" alt="Résultat de recherche d'images pour "الصحافة"" name="5uurkBEaWr8H3M:" data-sz="f" / المراجع : (1) جسيكا وايس، الصحافة الاستقصائية فى عصرالتكنولوجيا والتطور السريع، شبكة الصحفيين الدوليين، 10/ 6/ 2009 Available at: http://ijnet.org/ar/stories/54637 (2) محمد نجيب السعد: الصحافة الاستقصائية.. سلاح ذو حدين، جريدة الوطن العمانية، 19 يناير2011 Available at: http://www.alwatan.com/graphics/2011/01Jan/16.1/dailyhtml/qadaia2.html (3) Jim Onyango Ongowo; Ethics of Investigative Journalism, A study of a tabloid and aquality newspaper in Kenya, A dissertation submitted in partial fulfillment of the requirements of the Master of Arts in International Journalism, Institute of Communications Studies, The University of Leeds, September, 2011. (4) Lanosga, The Press ,Prizes And Power: Investigative Reporting In The United States 1917-1960, Unpublished Dissertation Doctor of Philosophy, op.cet. (5) James L. Aucoin, The Evolution of American Investigative Journalism, Columbia: University of Missouri Press, 2005, p 91. (6) ألاء حسن حمودي العزاوي، الدور الرقابي للصحافة الاستقصائية في كشف الفساد، موقع النور، تم الإطلاع عليه في 22/11/2014Available at: http://www.alnoor.com/ (7) مارجريت لوني Margaret Looney، أربعة أمور لا تنطبق على الصحافة الاستقصائية، شبكة الصحفيين الدوليين IJnet ، تم الإطلاع عليه في 24/ 1/ 2015 Available at: https://ijnet.org/ar/blog/167210#.UQE0OL0LQjI.facebook (8) David Spark, Investigative Reporting, A study in Technique, 1st ed, London: Focal Press, 1999, P 6. (9) Chris Horrie, Investigative Journalism and English Law In, Hugo de Burgh et.al, Investigative Journalism, 2nd ed, London and New York: Routledge, 2008 pp 114-129. (10) ديفيد راندال، الصحفي العالمي، ترجمة: معين الإمام، الرياض: مكتبة العبيكان، ط1، 2007، ص 165 (11) Dohnanyi Von Johannes; The Impact of Media Concentration on Professional Journalism Vienna: The OSCE Organization for Security and Co-operation in Europe, Representative on Freedom of the Media, 2003, P77 (12) Alan Knight, On line investigative journalism, available at: http://www.ejournalism.au.com/ (13) صحيفة الوسط، الصحافة الاستقصائية، أفضل وسيلة للوصول إلى قلب الحقيقة، 2010 available at: http://www.alwasatnews.com/2741/news/read/377262/1.html (14) فاضل محمد البدرانى، الإعلام .. صناعة العقول، بيروت: منتدى المعارف، ط1، 2011 ، ص202 (15) كامل القيم، الإعلام الاستقصائي عصف لديمقراطية الفضاء، جامعة بابل: مركز حمو رابي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية، تم الإطلاع عليه فى 2/6/2014 . available at: http://www.alsahfe.com/index.php?id=2|2388&task=show (16) مها فالح ساق الله، تقرير حول ماهية الصحافة الاستقصائية، كلية الآداب، قسم الإعلام، الجامعة الإسلامية غزة، 2013 م. available at: http://mahasaqallah.blogspot.com/2013/10/blog-post_6.html (17) نجاح العلي، غياب التحقيقات الاستقصائية عن الصحافة العراقية، جريدة الاتحاد، 2005 available at: http://www.alitthad.com/ (18) عبد المطلب صديق مكي، توظيف التقنيات المعلوماتية والاتصالية الجديدة في إعداد التحقيق الصحفي، الرياض جامعة، نايف العربية للعلوم الأمنية، 2010 ، ص ص 165- 166 (19) Steven Barnett, Opportunity or threat? The BBC, investigative journalism and the Hutton Report, England: Open University Press, 2005, Pp320-321, available at: www.books.google.com.eg (20) كاظم المقدادي، الإعلام الدولي: تصدع السلطة الرابعة.. إعادة تشكيل الخارطة الإعلامية، بغداد: مطبعة البحر الأبيض، الطبعة الأولي 2011 ، ص 96.