{} تحاول هذه الدراسة رصد شروط المقايضة و حدودها و عوائقها في النظام السياسي المغربي بين الملكية و جزء من معارضة الإسلاميين المتمثل في جماعة العدل و الإحسان . فهذه المقايضة من وجهة نظر الملكية و وفق خبراتها التاريخية تتضمن تخلي جماعة العدل و الإحسان عن أكثر مواقفها راديكالية و قبولها العمل بالقواعد السياسية الرسمية المعمول بها . في مقابل ذلك ، تعتبر جماعة العدل و الإحسان أن خضوعها لهذه المقايضة كما تطرحه الملكية سيجعلها لا محالة تفقد هويتها الإديلوجية و السياسية و يجعلها بدون خصائص متميزة . و هو أمر ليست مستعدة للتضحية به بدون ضمانات و اشتراطات قبلية تجعل أمر مشاركتها ذي مغزى . بقلم : الأستاذ عمر الشرقاوي * القاعدة الثانية : الإقرار بالملكية الدستورية التنفيذية يعتبر النظام الملكي الدستوري في المغرب أهم مكونات الواقع السياسي وأبرز الفاعلين فيه حيث تتضافر المرجعيات المعتمدة تقليدية كانت أو حديثة، على تكريس محوريته.ويتجلى ذلك من خلال الصلاحيات الواسعة التي يتمتعبها الملك دستوريا فهي ملكية تسود وتحكم، وليست بالملكية المقيدة، حيث يمارس الملك سلطات مهمة ولكنها مقيدة بسلط الأرستقراطية، كما هو الشأن بالنسبة للملكيات الغربية. إن الملكية بهذا المعنى تتوفر لاإضافة إلى خلفيات تتجاوز المنطوق الدستوري، لتستحضر جوانب مستمدة من الثقافة السياسية السائدة اعتمادا على شرعية تقليدية تمزج بين الدين والتاريخ وتتوفر على كل إمكانيات التحرك الدستوري في مختلف مناحي الحياة السياسية. على الرغم من أن جماعة العدل والإحسان، تميز بين المشروعية الدينية للملكية ومشروعيتها السياسية. بحيث لا تعترف بالأولى ولكنها تقر بالثانية، وعمل الجماعة يظهر ذلك، إذ إن الجامعة منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي وهي تطالب السلطة السياسية بالترخيص لها باعمل بشكل قانوني في إطار القوانين والأنظمة الجاري بها العمل). إلا أن هذا الإقرار الواقعي البرغماتي للنظام الملكي، لم يوازيه إقرار للنظام الملكي داخل البناء النظري للجماعة. فكتابات عبد السلام ياسين تطابق بين الملك وفساد الحكم، انطلاقا من تبني الجماعة لما أقره ابن خلدون الذي اعتبر أن (إن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظؤر العقلي وفي جلب المصاح الديونية ودفع المضار. والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والديونية الراجعة إليها، إذ أحاول الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسية الدنيابه). أكثر من ذلك فالنزوعات الجمهورية لدى أطر جماعة العدل والإحسان، أضحت أكثر وضوحا وعلنية من ذي قبل. ضمن هذا المنحى تدخل دعوة نادية ياسين إلى تبني النظام الجمهوري، وتجاوز الملكية القائمة ، وهي في ذلك لاتخرج عن بعض النزاعات الجمهورية التي عرفها المغرب منذ الإستقلال، والتي كانت ترى أن طريق التغيير تمر بالضرورة عبر إسقاط النظام القائم. القاعدة الثالثة : الإقرار بالوحدة المذهبية - تستمد هذه القاعدة شرعيتها الدستورية من الفصل السادس من دستور 1996 الذي يعتبر الإسلام دين الدولة والذي يمثل فلسفة وطبيعة السلطة كما أنها تتجسد على المستوى العلمي من خلال الثالوث المتمثل في المذهب الماكي والعقيدة الأشعرية والصوفية الجنيدية التي تتواقف مع المبادئ الأساسية للإسلام. وازدادت ضرورته نتيجة التأثيرات المذهبية الآتية من المشرق بعد الثورة الإيرانية وصعود السياسي والاجتماعي للتيارات الوهابية التي تستقي مرجعيتها المذهبية من المذهب الحنبلي ، والتي أصبحت تهدد الأمن الروحي للمغاربة. وإذا كانت جماعة العدل والإحسان تبدو منتوجا فكريا مغربيا محضا، بالنظر إلى كونها تستقي جانبا من فكرها من التصوف المغربي ومن اجتهادات المذهب المالكي والعقيدة الأشرعية، وهو ماقد يوحي بتمثلاها ظاهريا مع قاعدة الوحدة المذهبية للنظام السياسي المغربي. إلا أن هذا الإيحاء سرعان ما يتبدد، عندما تقدم لنا كتابات الجماعة مذهبا مالكيا ذو نفس ثوري، بمسموح صوفية نضالية. فعبد السلام ياسين يستدعي المذهب الماكي بشكل متواتر في كتاباته، خصوصا إذا تعلق الأمر بوقائع تتوخى نزع المشروعية عن الحاكم. وهكذا لايتردد في استدعاء مواقف الإمام مالك المقترنة بعلاقته المتوثرة بالسلطان، كما هو الشأن حينما يستحضر نازلة فتوى الإمام مالك ببطلان بيعة المكره حيث أفتى ببطلان بيعة العباسيين وأعلن أن بيعة المكره لا تجوز ، فجلده والي المدينة جعفر بن سليمان وهدت يده حتى انخلعت كتفه. كما أن كتابات عبد السلام ياسين تقدم مشروعية فقهية لفكرة الخروج عن الحاكم من داخل الفقه الملكي. بالنظر إلى أن مالك شجع قومة الإمام محمد الملقب بالنفس الزكية لزكاوة أخلاقه وشرف محتده، وأفتى الناس بالخرج معه. إن أخذ الجماعة بهذا النفس الثوري للمذهب المالكي، يخالف تماما التأويل الدولتي ذو السمة الليبرالية لمقومات هذا المذهب المتسم بالمرونة في الأخذ بمقاصد الشريعة والانفتاح على الواقع وعنوانا للوسطية والإعتدال ، والذي يجعل منه القادر على الحرص على استقرار ضمير العامة، زيادة على مايوفره للمجتمع من وحدة وتماسك في مجالات الروح كما في مجال التشريع والاجتماع. إلى جانب مايمكن عده حضورا للنفس الثوري للمذهب المالكي، أعطت جماعة العدل والإحسان بعدا نضاليا للعمق الصوفي ، فعلى الرغم من الاستمرارية القوية لبعض الثوابت التنظيمية والإيديولوجية المتوارثة عن تنظيم الزوايا والزاوية البودشيشية تحديدا، خاصة فيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين الشيخ ومريديه. فقد اتجهت مؤاخذات عبد السلام ياسين للتيار الصوفي الذي انشغل بالجوانب الروحية وسلك سبيل الخلاص الفردي ، في المقابل طرح مرشد جماعة العدل والإحسان نمطا صوفيا نضاليا يتسامى إلى مقام وراءه أولو العزم من الرسل فتلتمس جهادا، وتجتهد بخلاص الجماعة وتصل الصحبة بالجهاد) مقاربة الشيخ ياسين إذن للتصوف، تختلف عن مقاربة الدولة للتصوف. فصوفية الدولة تقوم على القول بأن من فيه بقية نفس أي أنانية لا يجوز له أن يتصدى للتغيير، والمعرفة بالنفس أي القضاء على الأنانية يقتضي التعمق في التصوف أي تجميع شتات الباطن بتحقيق التوحيد الخالص لله الواحد. أما صوفية جماعة العدل والإحسان فهي جزء من البرامج البيداغوجي لترقية المناضل أو العضو الحركي حتى تكتمل شخصيته، ويجمع بين الإحسان والقدرة على مقارعة المخزن تمهيدا للقومة ، فهو جزء من كل وليس هو كل مهيمن ، بينما التصوف عند الصوفية القدماء يبدأ وينتهي في حدود جوانية تختزل الوجود الإنساني وتسحقه في التاريخ، فهو غائب باطن مقبوض، أي على هامش التاريخ. إن أخذ جماعة العدل والإحسان بالعمق الصوفي، و إن كان يبدو في مظهره يتماشى مع رغبة المؤسسة الملكية في الحد من التأثيرات الداخلية ، إلا أن التكييف السياسي الذي أضفته الجماعة على وظيفة التصوف ، خلف بشكل جوهري "الفكر الصوفي السني الذي يتوخى الإستيعاب الشامل للمجتمع ، والإدماج الكلي للناس في حضنه الدافئ"، بينما اتجهت صوفية الجماعة إلى العمل على إنتقاد السياسات العمومية المنتهجة من قبل المؤسسة الملكية، وتبتعد بنفسها عن الموالاة للسلطات القائمة. * في الحلقة القادمة : القاعدة الرابعة : الإقرار بفصل الديني عن السياسي .