يدخل محمد دحلان منتفخا كالطاووس اجتماعا كبيرا لأنصاره في القاهرة ملوحا لهم بيديه فتدرك بمرارة حجم القاع الذي تردت إليه القضية الفلسطينية. إطلالة بطولية على مسرح متهالك! قضية ربما لم تصل قط إلى مرحلة من التيه كالتي تمر بها حاليا، التقى عليها أبناؤها وإخوانها فيما لم يقصر أعداؤها في زيادة وضعها سوءا على سوء. لنكتفي هنا بأبنائها. هؤلاء، سواء في قيادة السلطة الفلسطينية أو في مجمل فصائل منظمة التحرير أو تلك الفصائل الإسلامية خارجها، أصيبوا جميعا، بدرجات متفاوتة، بما يشبه العقم السياسي الشامل. القيادة لم تعد ترى لها من سبيل للتحرك خارج المراهنة الكاملة على الاتصالات الدبلوماسية والقانونية في المحافل الدولية، وهو توجه، على أهميته، غير قادر وحده على فرض معطيات جديدة على الأرض ناهيك عن قدرته عن وضع حد للاحتلال. هذه القيادة تحقق مكاسب لا يستهان بها في منابر الأممالمتحدة، آخرها قرار مجلس الأمن الخاص بالاستيطان لكنها تبدو وكأن تراكم هذا النوع من المكاسب يغنيها عما سواه متجاهلة أن التاريخ، القديم منه والحديث، لم يشهد أن أعيد حق لأصحابه لمجرد أن قضيتهم عادلة، إن لم يصاحب مثل هذه السياسات تحرك ضاغط بأشكاله المختلفة يجعل تكلفة الاحتلال باهظة فلن يتغير شيء على الإطلاق. زاد هذا الوضع بؤسا تلك التهديدات التي تطلقها القيادة بين فترة وأخرى حول وقف التنسيق الأمني أو سحب الاعتراف بإسرائيل أو الانسحاب الكامل والنهائي من العملية السياسية ليتضح بسرعة عدم جدية ذلك كله. أما الفصائل فلكل منها أزمته، «فتح» تعاني الأمرين، ليس فقط في تبني خيار سياسي مقنع يوفق بين الإرث النضالي المشرف والقدرة على استيعاب المتغيرات المختلفة، بل كذلك من صراعات داخلية أضاعت الكثير من تأثيرها وهيبتها. وقد كان ذاك الدخول المسرحي المدروس للقيادي المفصول من الحركة إلى اجتماع القاهرة مستفزا وكأنه يضع أبناء هذه الحركة أمام الاختيار بين قيادة مترددة وبديل مشبوه. بقية الفصائل تكاد تكون مجرد يافطات، لم يعد لها من ألق الماضي سوى اسم الفصيل مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية الغارقتين في عجز واضح عن الحسم بين شعارات لم يعد لها مكان، وواقع بدت عاجزة عن ابتكار أدوات التعامل معه دون القطع مع ثقل الموروث الأيديولوجي. ويبقى للفصائل الإسلامية، وأساسا «حماس»، نصيبها الثقيل في ما آلت إليه الأمور. هذه الحركة تحديدا لم تقدّر خطورة قرار دخولها مؤسسات حكم السلطة الفلسطينية فلا هي خضعت لمنطق هذه السلطة، رغم نواقصه المعروفة، ولا هي امتلكت القدرة على تغييره. الذي حصل نتيجة ذلك أن الحركة أضاعت مشيتها وأربكت مشي تلك المؤسسات، خاصة بعد انقلابيها في غزة قبل عشر سنوات. المحصلة الآن أن لدينا سلطة رسمية منهكة في الضفة، وسلطة أمر واقع في غزة، رغم وجود حكومة وفاق وطني لا حول لها ولا قوة في القطاع بعد أن تبخر حلم المصالحة الحقيقية. وإذ نقول إن «حماس» أضاعت مشيتها فالمقصود أن الحركة لم تفلح لا في الحفاظ على نفسها قوة مسلحة مناضلة لا علاقة لها بأي سلطة، ولا هي وفقت في تعديل عقارب ساعتها على استحقاقات سلطة، دخلتها أو تورطت فيها، فكان أن أضاعت الاثنين معا. هذا الوضع الفلسطيني امتدت آثاره المدمرة على كل أبناء الشعب الفلسطيني، من هم في الشتات لم تعد منظمة التحرير بتلك التي تحتضنهم وتحفزهم، ومن هم في الضفة يعانون من تقطيع الاحتلال لأوصالها ومن سلطة لا تتردد أحيانا في اللجوء إلى القمع وسط فساد وتبعية استشريا في أوساط مختلفة فأوهنا قدرة الشعب على التحدي والصمود. أما من هم في غزة فلا يكادون يخرجون من عدوان إسرائيلي حتى يدخلوا آخر بحيث تحولت عملية إعادة الإعمار المتعثرة في القطاع إلى القضية الوطنية الأولى، وسط قبضة أمنية لم تستوعب بعد أن الناس لم تتق إلى التحرر من نير احتلال غاشم لتوضع تحت طائلة ممارسات غير ديمقراطية لحركة دينية مهما كانت. مر الفلسطينيون في العقود الماضية بمراحل قاسية عديدة لكن لا سوء يضاهي هذه المرحلة، مروا ب «أيلول الأسود» عام 1970 والخروج المر من بيروت عام 1982 بعد حرب أهلية مدمرة واجتياحات إسرائيلية عديدة، ثم مرحلة الانشقاق التي تجلى فيها تورط النظام السوري في سفك الدم الفلسطيني. كل ذلك لم ينه الحلم الوطني أو يشوهه كما هو الشأن الآن، وسط انشغال القيادات بمعارك وهمية لا قيمة لها فيما ينهش الاحتلال الأرض نهشا. المفارقة أنه رغم كل ذلك تحققت هذه السنوات مكاسب في أكثر من محفل، لا يجوز نكرانها، ولكن من لها بتحويلها إلى قوة فعل وتأثير حقيقية؟ ٭ كاتب وإعلامي تونسي