جرت رياح مضيق جبل طارق، وأمواج البوغاز، حيث يلتقي المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط، بما تشتهيه جغرافيا القارة الأفريقية، لتنحت قوى الطبيعة في مدينة طنجة، نافذة على أوروبا أخذت شكل القارة السمراء. هذه النافذة، ليست سوى فوهة مغارة تقع بمدينة طنجة في أقصى الشمال الغربي للبلد الأفريقي الذي لا تفصله عن إسبانيا سوى بعض الكيلومترات. وقد اختارت الأوساط الثقافية في مدينة طنجة المغارة لتنظيم ملتقى شعري خلال شهر غشت الماضي، وذلك في إطار تنويع الفعاليات، وتنشيط هذا الفضاء الذي يعدّ رمزا للمدينة. ودشنت المغارة بحلتها الجديدة في 2015 بعد أن خضعت لإعادة تهيئة ساعدت على حمايتها من الدمار، وتطويرها لاستقبال الزوار. وما إن يدخل الزائر من الفوهة حتى يشعر وكأنه داخل منزل مكيف بهواء طبيعي، تنبعث إليه سيمفونية تؤلف ألحانها حركات المد والجزر، وتلامس الأمواج بالصخر القريب، وإيقاع الرياح. تجدر الإشارة إلى أنّ موقع المغارة الاستراتيجي في مدينة طنجة رفع من رصيدها السّياحي لتكون هدفا دائما للسياح وقبلتهم من شتى بقاع المعمورة، فهي تجمع بين السهل والجبل؛ يزيّنها شاطئ رملي لا يفتقد للمنشآت السياحية المجهزة بكل الأدوات الترفيهية والرياضية. ويعدّ الغروب من أجمل اللحظات التي يستمتع فيها الزوار كثيرا، حين تمتزج المياه الأطلسية بأشعة الشمس الأرجوانية الذابلة، يقول السائح الإسباني مانويل ليناريس حول سحر لحظات الغروب "أنا من عشاق الطبيعة، أحب منظر غروب الشمس، ولكنه في مغارة هرقل يبدو مميّزا.. كلما دخلت إلى المغارة أشعر بإحساس عظيم، وأطلق العنان لمخيلتي التي ترجع بي إلى حكايات قرأتها عن أسطورة هرقل". وفي تناغم بين التاريخ والجغرافيا، تحمل المغارة اسم هرقل، وزائر المكان لا يفرق بين الحقيقة والأسطورة، مثلما لا يفرق هرقل في استقطاب الملوك والمشاهير أو عامة الناس. وقال عنها الفنان المصري حسين فهمي إن زيارة مدينة طنجة لن تكتمل من دون زيارة مغارة هرقل، مشيرا إلى أنها تنتمي إلى مجموعة من المغارات التي يعود تاريخها إلى الآلاف من السنين قبل الميلاد، وتستقطب العشرات من الزائرين يوميا. ونسجت حول المغارة الكثير من الأساطير، التي يعود معظمها إلى الثقافة الإغريقية، منها ما يقول إن هرقل كان سجينا في الكهف، فحاول ذات يوم الخروج منه، وضرب الحائط، فأحدث به ثقبا كبيرا يراه السائح شبيها إلى حدّ كبير بخارطة أفريقيا، ومن أثر الضربة انفصلت القارتان الأفريقية والأوروبية. ويشكل الدخول إلى المغارة عالما من الغموض تغذيه الأسطورة القديمة حول تاريخها والتي تقول، إن أفريقيا كانت متصلة بأوروبا، وكان يفصل هذه المنطقة المتوسطة بحر الروم (البحر المتوسط) عن بحر الظلمات (المحيط الأطلسي). ولما كان لأطلس ابن نبتون ثلاث بنات يعشن في بستان يطرح تفاحا ذهبيا ويحرسهن وحش، قاتله هرقل (ابن جوبيتر) وهزمه، وفي غضبة من غضبات هرقل ضرب الجبل فانشق لتختلط مياه المتوسط الزرقاء بمياه الأطلسي الخضراء، وتنفصل أوروبا عن أفريقيا، ثم يزوّج هرقل ابنه سوفاكيس بإحدى بنات نبتون ليثمر زواجهما بنتا جميلة أسمياها طانجيس، ومنها جاء اسم مدينة طنجة. ومن الروايات الأخرى، "إن هرقل كان يستلقي في المغارة، وعندما كان يتقلب فوق فراشه، ضرب الحائط برجله، فوقع الحائط وأحدث بذلك جرفا يطل على المحيط". وبمثل هذه القصص وغيرها من الأساطير، يرافق المرشدون السياحيون المئات من الزوار الذين يأتون إلى المغارة بالموازاة مع زيارتهم لمدينة طنجة. يقول المرشد السياحي أحمد الهشطي، إن المغارة إرث يعود تاريخه إلى ما يزيد عن 2500 سنة قبل الميلاد، منذ عهد الفنيقيين والرومان، وتشمل مغارة طبيعية وأخرى اصطناعية منحوتة. ولفت الهشطي إلى أن المغارة كانت ملاذا لعيش السكان القدامى الذين كانوا يمارسون أنشطة حياتهم اليومية في هذا المكان. وتعتبر مغارة هرقل التي تم اكتشافها عام 1906، من أكبر مغارات أفريقيا، حيث يوجد في الأساطير القديمة ما يشير إلى أنها كانت مقر هرقل، الذي اشتهر بمحاربة قراصنة البحر. وتوجد بها سراديب تمتد على مسافة 30 كلم في باطن الأرض، ويرجح الباحثون أنها كانت تُستغل كمعمل لصناعة الرحى (مطاحن تقليدية للحبوب) منذ الفترة الرومانية حتى العصر الحديث. وتضم الآثار المكتشفة بها تماثيل آدمية وأدوات حجرية وخزفية تدل على أهمية الحضارة التي عرفتها المنطقة خلال العصر الحجري الحديث. وعن هذا المعلم، قال أحمد الهشطي، إن مغارة هرقل عرفت زيارات العديد من الشخصيات السياسية والفنية من مختلف بلدان العالم، أبرزهم رئيس الوزراء الإسباني السابق "خوسي رودريكث ثباتيرو"، ووزير خارجيته "ميغيل أنخيل موراتينوس"، وقبلهما زار المكان الكاتب الأميركي الشهير بول بولز، الذي كان صديقا للكاتب المغربي العالمي محمد شكري. وأضاف الهشطي أنه من أبرز المسؤولين الذين يترددون على المكان أيضا، العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي يختار باستمرار قضاء عطلته في قصره الذي لا يبعد سوى أقل من كيلومتر عن المغارة. وأشار إلى أن العاهل السعودي يداوم على زياراته لهذا المكان منذ أن كان وليا للعهد، حيث كان يسجل حضوره مرتين أو ثلاث مرات في السنة. عن صحيفة العرب اللندنية لقراءة المقال في موقع العرب اضغط هنا