باتت ظاهرة الترحال السياسي تشتد وتتكرر كلما اقترب موعد انتخابات جديد، وهي ظاهرة تسائل تجذر الأسس المرجعية مقابل إغراءات المقاربة البرغماتية النفعية المحضة، كما تطرح للنقاش حضور الوعي بتبعات ونتائج السلوك السياسي على ثقة الناخبين وعلى المشهد السياسي العام بالبلاد، هي أسئلة من بين أخرى سيطمح "شمالي" من خلال هذا الحوار مع الأستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بطنجة إبراهيم مراكشي، من أجل التعمق فيها وتحليلها بالدقة والموضوعية اللازمة لفهم الظاهرة. حاورته: أمل عكاشة انطلاقا من زاوية قانونية صرفة، هل تعتقدون أن التأطير القانوني لظاهرة الترحال السياسي كان موفقا لضبطها وتنظيمها؟ المشرع المغربي كان حريصا على منع الترحال السياسي بين الأحزاب، بمعنى آخر، منع القفز بالمظلات، كما يقال، للتنقل من حزب سياسي لآخر، بعد الانتخابات، وليس قبلها. وهدفه من ذلك كان الحفاظ على استقرار العمل البرلماني، وقبل ذلك استقرار التحالفات التي تسمح بتشكيل الأغلبية والمعارضة، وقبل هذا وذاك صون مصداقية المؤسسات التشريعية التي تضررت صورتها كثيرا بعد استفحال هذه الظاهرة بشكل مبالغ فيه، خلال عهد الملك الراحل. وهنا المشرع لم يكن موفقا، إذ أن التأطير القانوني ضبط عملية الترحال بعد الانتخابات، وفشل قبلها، لأنه تعمد عدم تنظيمها بقانون يمنعها قبل الانتخابات، وله في ذلك مبرراته الوجيهة. إن منع الترحال السياسي خلال الفترة التي تسبق الاستحقاقات الانتخابية من شأنه أن يصيب النسق الحزبي بالجمود لصالح الأحزاب النشيطة والتي تتوفر على كفاءات ونظام داخلي شفاف لمنح التزكيات. ذلك أن جل الأحزاب السياسية تنتعش بهذه الظاهرة، فمعظمها أشبه بدكاكين انتخابية، تفتح أبوابها، أي تنشط خلال الانتخابات، وتغلق أبوابها بعد ذلك. فهذه الأحزاب ليس لها برنامج عمل سنوي، ويكاد لا يسمع لها صوت فيما عدا ذلك، كما أنها تفتقر للأطر ولا تعترف بالكفاءات. إن منع الترحال السياسي يجعل من الصعب التنبؤ بنتائج الاستحقاقات الانتخابية، فمن خلال حركية وتنقلات "الكائنات الانتخابية"، التي احترفت العمل الانتخابي واحتكرته نتيجة استخدامها الكثيف للمال، ولطرق أقل ما يقال عنها بأنها غير أخلاقية، يمكن التأثير في نتائج الانتخابات. ففي الكثير من الأحيان يكون تنقل هذه الكائنات بين أكثر من حزب ليس فقط نتيجة أطماع تحركها مصالح خاصة ضيقة، وإنما أيضا امتثالا لتعليمات تأتي من جهات عليا. إنها نخب فاسدة، لا يمكنها أن تعترض، لأن في سجلها خروقات كثيرة. نسمع في هذه الأيام على المستوى المحلي عن كائنات انتخابية تنقلت بين ثلاثة أحزاب في ظرف وجيز، وهذا ما ينفي أية مصداقية عن هؤلاء الأشخاص، والخطير في الأمر أن ذلك يضر بمصداقية الانتخابات في أعين الناخبين، مما يقوي وجهة نظر التيار الداعي لمقاطعة العملية برمتها على المدى البعيد تأثير ذلك سلبي على صورة الديمقراطية في البلاد، وشفافية مؤسساته. يبرز في الحياة السياسية المغربية انتقال نخب معينة من السياسية لمجال التكنوقراط، في اعتقادكم، ما خلفيات هذا السلوك ولأي أجندات يخدم؟ والعكس صحيح أيضا، هناك نخب معينة انتقلت من مجال التكنوقراط ودخلت المشهد الحكومي بحلة حزب سياسي معين، حتى صارت من نجومه على الساحة السياسية. إن الأمر تحكمه خلفيات متباينة، بعضها مرتبط بأسباب ذاتية شخصية، وبعضها نتيجة تدخل نافذ من الدولة. في فترة سابقة، كانت الدولة توظف التكنوقراط كبديل عن نخب الأحزاب. ولقد ناضلت الأحزاب اليسارية من أجل إبعاد التكنوقراط عن المشهد السياسي، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، والآن مع استفحال ظاهرة الترحال السياسي، وتهميش جل الأحزاب، مع استثناءات قليلة، للكفاءات، بدأ تيار يظهر إلى العلن من يطالب بالعودة إلى التكنوقراط. في هذه النقطة تحديدا نحن ندور في حلقة مفرغة. من جانب علاجي، ما المقترحات الممكن تقديمها في سبيل تجاوز سلبيات ظاهرة الترحال السياسي؟ الحل واضح، والطريق إليه سالك، ألا وهو كما تم منع الترحال داخل قبة البرلمان، بالإمكان أن يتم منع الترحال بين الأحزاب السياسية قبيل الاستحقاقات الانتخابية، لكن تخريج ذلك يبقى صعب. فضمن أي إطار؟ وأية آلية تعتمد؟ وهل من شأنه أن يقيد حرية الأفراد؟ وهل الفكرة في حد ذاتها ديمقراطية في صميمها وجوهرها؟ ويبقى الحل في يد الناخب، وهو حل عقابي، بعدم التصويت على أباطرة الانتخابات والتي تعودت على تغيير لونها السياسي كما تغير من جواربها. في الأنظمة العريقة ديمقراطيا السياسي يضرب ألف حساب قبل أن يغير من لونه السياسي، إنه انتحار سياسي إن هو انتقل من اليمين إلى اليسار، لأن المنظومة بأكملها تحكمها أعراف وأخلاقيات لا يمكن القفز عليها، وهذا ما يفتقره المشهد الحزبي بالمغرب. ويبقى الترحال مقبولا بين أحزاب تتقاسم نفس التوجهات الإيديولوجية إذا احتكمته اعتبارات موضوعية وذات مصداقية.