مركب محمد الوزاني، إلنيني، زورقا سريعا يعرف في هذه الأرجاء ب«الكاسكو»، وغادر المرفأ الترفيهي لمدينة سبتة نحو منتجع مارينا سمير بالقرب من مدينة المضيق. لم يصل إلنيني إلى وجهته أينما كانت؛ لأن أشخاصا آخرين، قتلة محترفين، كانوا يطاردونه دون هوادة حتى توقف في مسعى نهائي لتهدئة النفوس. على مبعدة من القاربين المتواجهين في عرض البحر، كان قارب سريع ثالث يطوّق فرص إلنيني في الهروب نحو مرفأ مارينا سمير. «كانت مصيدة متقنة»، حسبما أعلن رجل يدعى حميدو، كان مع إلنيني على زورقه في تلك المعمعة، وهو يخبر الشرطة برواية وحيدة تقريبا لما حدث في الساعة السابعة من مساء يوم الأحد 3 غشت الفائت. لم يتحدث الطرفان في شيء، ولم يعلنا لبعضهما عن أي شكوك أو حس بالخداع. كل ما جرى هو أن دار الزورق الثاني نصف دورة من حول زورق إلنيني، ثم شرع رجل في إطلاق النار. أصيب إلنيني على الفور، وسقط في المياه، فيما تجمّدت الدماء في عروق صاحبه المغربي. قرر القاتل أن ينهي حياته هو الآخر؛ لكن رجلا كان يقود زورق المطاردة أوقفه. تفرّقت الزوارق بعد إطلاق النار، فعاد زورق القتلة إلى سبتة، فيما قاد رفيق إلنيني زروقه من دونه حتى مارينا سمير، وتركه هنالك وغادر. وحتى هذه اللحظات، لم يظهر أثر لجثة إلنيني. لقد اختفى ببساطة في البحر. هنالك تفصيل صغير يورده رفيق إلنيني: «حينما قتلوه، لم يكفهم ذلك، لقد كنت أنظر من حول الزورق وهم يقودون قاربهم فوق جثته، كنت أعتقد أنهم يريدون حملها معهم؛ لكن ما فعلوه كان أسوأ: لقد قطعوه إربا بمحرك القارب.. ولما تحوّل المكان إلى بركة دم، غادرا وهما يتلفتان نحوي». لا يستطيع الرفيق المغربي أن يحدد وجهة القتلة، لأن قاربا آخر اقترب من المكان، ثم لحق بهما، وهو لا يعرف ما إن كانا معا أو استبدلا الأماكن فحسب. وفي غالب الأمر، فإن الرجل الذي قرر أن يغلق كتاب «إلنيني» لم يغادر في ذلك القارب. ولكن هل يقول كل الحقيقة؟ بحسب تحليل الشرطة، فإن تدبير مكيدة عظيمة مثل عملية اغتيال وهمية، ربما كلف إلنيني الكثير من الوقت والتخطيط. بيد أن هنالك بعض الصعوبات في الإقناع بهذه النظرية، إذ كيف يمكن إذن تفسير التصريحات الرسمية لرجاله لدى الشرطة في سبتة، أو شكاوى والدته وزوجته؟ وكيف نفهم التصميم غير الرسمي لشهود الحادث على سرد القصة كاغتيال مقضي؟ بل – وهذا مهم بالدرجة نفسها- كيف يمكن تفسير هروب زورق المطاردين، وإخفاء زورق إلنيني، واختفاء المتهمين الرئيسيين المفترضين في العملية من كل الأماكن الاعتيادية لإقامتهم؟ لقطة من فيلم "النيني" خلال مطاردة في عرض البحر المتوسط غشاش الموت نجح إلنيني طويلا في غش الموت؛ وحتى حينما تحوّلت جثته إلى أشلاء في البحر، فإن الناس تجد صعوبة في تصديق أن إلنيني قد مات، وبهذه الطريقة بالضبط. لقد تحوّل إلى أسطورة حضرية لسبب وحيد: قدرته المذهلة على مراوغة الموت، والسجن أيضا. إن قصة إلنيني يمكن تلخيصها في سطرين أو ثلاثة؛ وحتى إن أمكننا القول إن الرجل نفد رصيده من الحظ، فإن اسمه لا يمكن محوه ببساطة. لقد حوّل إلنيني حياة بارونات المخدرات في مضيق جبل طارق إلى جحيم؛ لكن ما حدث كان أقرب إلى نكتة سمجة. لنتذكر يوم طالبت السلطات المغربية، في سنة 2008، الإسبان بأن يسلموه إليها عقب فراره من السجن المركزي بالقنيطرة. لقد كان إلنيني يحارب بلا هوادة لمنع ذلك وهو يلوّح بأوراق جنسيته الإسبانية في المحكمة؛ لكنه لم يخدع أحدا. في سنة 2003، طالب الإسبان السلطات المغربية بأن تسلمهم إلنيني عقب فراره من سجن بالعاصمة مدريد في 2001؛ لكن السلطات المغربية رفضت ذلك القرار، لأن إلنيني كافح بمرارة ضده، ولوّح في المحكمة وقتها ببطاقة تعريفه وجواز سفره المغربي. بين تاريخين بينهما فجوة صغيرة من خمس سنوات، لعب إلنيني على الحبلين معا؛ لكن بطاقة المغادرة كانت قد مُزقت، وهو لم يفطن إلى ذلك. وما أراده، على نحو جلي، هو أن يستمر في هذه اللعبة؛ لكنه صدم في سنة 2008، حينما أعلن الإسبان أنهم لم ينسوا بعد يوم وقف في المحكمة يلوح فخورا بأوراق جنسيته المغربية. إن إلنيني، منذ ذاك، أصبح مواطنا مغربيا خالصا. وحينما قُتل، فإن الأمر كان يتعلق بمواطن مغربي؛ بيد أن الجميع ربما سهُوا عن ذلك؛ لأن إلنيني تمسك بالتصرف كإسباني، حتى وإن لفظوه. لما تأكد الجميع، في نحو الساعة الثامنة والنصف، من أن شيئا ما حدث لهذا إلنيني في عرض البحر، كانت الشرطة في محيط مارينا سمير تتعامل بارتباك؛ فهم لا يريدون التورط في استنتاجات غير مبنية على أدلة. ومن ثم، فإن الانتباه العام عند مصالح الشرطة كان موجها نحو مشافي سبتة؛ غير أن محصلة الاستعلام كانت سلبية: «إن أي مشفى في سبتة لم يسجل ولوج أي شخص باسم محمد الوزاني أو بأي اسم آخر ويحمل في جسده آثار أعيرة نار». في تلك الأثناء، لم يكن هنالك أي وجود لمركبات السلطات المغربية في مكان الحادث، أو في أي إحداثيات قريبة منه. وكما أخبرني ضابط شرطة، فإن الهاجس الرئيسي كان لديهم هو أن يكون الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خدعة: «قد تختفي جثة في البحر؛ لكننا لا نستطيع أن نحدد كيف حدث اختفاؤها.. ليس لدينا أداة جريمة، ولا شهود عيان يمكن التحقق من أقوالهم على نحو جدي. وفي نهاية المطاف، ليست لدينا جثة. كان من الصعب أن ننساق نحو نظرية يطوّرها الناس حول اغتيال مفترض.. وحتى الآن، ما زلت مقتنعا بأن هذا القول صالح للتمسك به». وفي كل الأحوال، فإن الناس لا تثق في إلنيني كثيرا، فهو يستطيع تنفيذ مناورة كهذه. وكما قال ضابط شرطة، فإن المخرج الوحيد كان عنده هو تصميم عملية الاغتيال لأن رأسه كان مطلوبا بشدة. لم يكن إلنيني مبحوثا عنه لا من لدن السلطات المغربية ولا الإسبانية، لكن الكثيرين كانوا يسعون إلى التخلص منه. احدى عمليات تهريب الحشيش من شمال المغرب الجريمة الكاملة ربما كان لكل ذلك التكاسل من لدن السلطات المغربية بعض النتائج السلبية، لأن كل العناصر المفترضة في جريمة كانت قد تبخرت في صباح اليوم الموالي، وحتى القتلة لم يعترض قاربهم أحد وهم يمخرون البحر متوجهين نحو سبتة. وبصفة متأخرة، وتحت وطأة الانتباه العام نحو الحادث، قررت السلطات المغربية أن تلتقط بعض الأجزاء من الفراغ. وبهذه الطريقة في التفكير، حاولت مروحية للدرك الملكي أن تعثر على شيء في عرض البحر؛ لكنها فقدت القدرة على تحديد موقع الاغتيال. ثم قررت فرقة من الشرطة مداهمة فيلا في مارينا سمير يملكها بارون مخدرات غير مبحوث عنه، يدعى «سوكاتو»؛ لكنها لم تجد أي شخص. كانت الشرطة، بكيفية ما، تسعى إلى تطويق منافذ الإشاعة فحسب، وحينما تدوول اسم الرفيق المغربي في زورق إلنيني، سارعت إلى إيقافه، ثم أطلقت سراحه بالسرعة نفسها. ولا يعرف، بالضبط، مضمون تصريح هذا الرجل؛ لكن الشرطة طلبت منه ألا يغادر مدينة الفنيدق إلا بإذن. ويظهر أن الرجل قد راعه ما شاهد، فأقام ليلة في منزله حشد إليها قراء القرآن، وأكرمهم في وليمة. ولأن جثة إلنيني بلعها البحر، و«سوكاتو» تبخر في البحر أيضا، وفق شهادة الرفيق المغربي، فإن أيا من عناصر البحث لم تعد قائمة: «في نظري، فإن أروع ما أقدم عليه إلنيني هو هذا: لقد أقنع الجميع بأنه لم يعد موجودا»، يقول ضابط شرطة متحمس لرواية أن كل ما قيل عن الاغتيال مجرد أسطورة. وشيئا فشيئا، أرادت الشرطة أن تقنع الناس بأن لا شيء قد حدث، ومالت إحدى الروايات إلى القول إن القصة مجرد تلفيق سياسي فحسب؛ لكن لا أحد صدّق هذا. إن اسم «سوكاتو» لم يطرح هباء في هذه القضية، وحتى والدة إلنيني صممت على أن تذكر به الشرطة لما قدمت شكاية في تطوان. وما بين الرجلين من شر أعمق من أن يفهم على نحو سطحي، وكأنه يتعلق بمجرد تصفية حسابات بين عصابتين. وحسبما يقول مساعد عمل لفترة مع إلنيني، فإن «سوكاتو» على وعي تام بأن المشاعر العدائية التي يكنّها إلنيني نحوه تجاوزت ما هو محتمل: «بالرغم من كل العدوانية المعروفة عن إلنيني، فإن الرجل كان يمتلك مشاعر رقيقة نحو فتاة معينة؛ لكن، لسوء حظه، فإن «سوكاتو» خطفها منه، وتزوّجها. لقد كرههما معا منذ ذلك الحين. وحتى لما تزوج غيرها، وربما كانت أجمل بحسب رأي بعض رجاله، لم تنجح زيجته، وسرعان ما وقع الفراق، لكنه لم يستمر طويلا على هذه الحال، فقد تزوج عقب مغادرته السجن بامرأة أخرى، لكن أمره لم يكن يوحي بأنه يأخذ الزواج على محمل الجد أو كمصدر سعادة بالنسبة إليه. وقبل فترة قصيرة، أغار إلنيني على مقهى تديرها زوجة «سوكاتو» ليظهر لها أنه هو الأبقى؛ بينما زوجها، الذي سرقها منه، لا يستطيع أن يطأ بقدميه مدينة سبتة، ولو من أجل حمايتها». لا يستطيع «سوكاتو»، فعلا، أن يطأ بقدميه سبتة؛ فهو مبحوث عنه هنالك، من قبل الشرطة ومن لدن إلنيني أيضا. لكنهما يستطيعان أن يتجاورا في مكان واحد بأقل قدر من المحاذير: منتجع مارينا سمير. في إحدى أغرب أشكال الجوار، يتراصف بارونات المخدرات مع بعضهم في هذا المنتجع، وكأنهم جيران يعيشون بسلام؛ لكن قدر البغض بينهم يدفعهم، في أحيان كثيرة، إلى تصفية حساباتهم هنالك. «في مارينا سمير، نعثر على توليفة غير مفهومة عند بارونات المخدرات؛ فهم يسمحون لأنفسهم بمشاركة زقاق واحد من الفلل، بالرغم من أن أعمالهم حوّلتهم إلى أعداء لبعضهم»، يقول ضابط شرطة. حينما قرر إلنيني أن الوقت مناسب كي يزيح منير الرماش من الصورة، فقد فعلها على مبعدة مترين من باب منزله في مارينا سمير. كان مثل أي تذكير ضروري بأن الأشياء ستتغير. الوزاني بالقرب من سيارته بمدينة سبتةالمحتلة «الكارتيل» الموؤود صرخ منير الرماش، ذات مرة، من وسط زنزانته في تطوان، مثل أي شخص يحس بالهزيمة، أو بالأحرى كرجل لم يشعر بما كان يخطط ضده حتى كان كل شيء قد حسم: «إني أتهم إلنيني بتدبير مكيدة ضدي، بأمر من الشريف بين الويدان.. كانا يريدان مني أن أكون مجرد خادم في مجموعة يبنيانها على مهل.. ولأني رفضت، فقد رميا بي في السجن». لم يفهم الرماش ما حصل له حتى شنف أذنيه بمنطوق حكم ضده بعشرين عاما من السجن. وما لم يدركه الرماش، وقتها، هو أن اللعبة تغيّرت؛ لأن لاعبا جديدا ولج المضمار. كان الرماش يعتقد أن جدران «مملكته» صلبة، حتى أسقطها فوقه إلنيني: «كنا نعرف الرماش وقتها في تلك السنوات المجيدة، ولم نكن نرى في أي شخص آخر قدرة على أن ينافسه؛ كان عليك أن ترى موكبه وهو يقطع الطريق من تطوان نحو مارينا سمير، وكيف كان يتحلق من حوله الحراس الخاصون.. لقد كان كثير الزهو بالنفس، وملؤه اليقين بأن ما يمتلكه من قوة لا يمكن أن يعبث به أي شخص»، كما يقول واحد من مساعدي الرماش في تلك الحقبة. وعلى كل حال، فقد كان يقين الرماش يتعزز أكثر بفضل تاريخ من الضمانات المقدمة من لدن بارونات آخرين؛ لأن الخلافات بينهم لم تكن تصل يوما إلى مستوى عدائي قد يهدد وجود أحدهم. وبالنسبة إليهم، ظل العدو الوحيد بهذه العلامات هو الشرطة فحسب. في أكتوبر 2001، قرر إلنيني أن يغادر سجنه في مدريد بدون رجعة. فقد منحته السلطات هنالك ترخيصا مؤقتا بالمغادرة، وهو إجراء معتاد بعد قضاء السجين لفترة من محكوميته؛ لكنه لم يرَ أي سبب يدعوه إلى القبول بشروط الترخيص. كانت وجهة إلنيني هي المغرب. وبفضل ما راكم من أموال، فقد شرع في بناء قاعدة جديدة لعملياته. هذه المرة في بلدة واد المرسى. في تلك الفترة، أعلن إلنيني أن ما يمتلكه من ملايير يفوق عدد سنين عمره. كان، وقتها، يبلغ 28 عاما فحسب. وأصبحت تلك العبارة عنوانا مرعبا لما يمثله إلنيني؛ لكنه لم يكن يرغب في أن يقف عند حدود تلك الملايير، فما كان يشغله هو أن يزيد في تنمية ثروته حتى لا يستطيع أحد حسابها.. وحتى يفعل ذلك، عليه أن يسيطر على طريق تهريب المخدرات بشكل غير مسبوق: «كما كان يفكر، فإن إلنيني أراد أن يقضم حصة أكبر من حجم الحشيش المصدر نحو أوربا.. وفي بعض المرات، كان يتهكم من قضية أن يكون كل كيلوغرام من عشرة تُصدّر من نصيبه، لقد كان يريد أكثر»، يقول مساعد عمل معه. كان الهدف عنده هو أن يزيح خصومه الأكثر قوة. وفي واد المرسى حيث أسس قاعدته، لم يجد صعوبة في التعرف على خصمه: «الطاحونة» نفسه. في تلك الأوقات، كان هذا البارون ذو السمعة الحسنة يستطيع أن ينفذ أكثر العمليات خطورة؛ وحتى حينما يتراجع الباقون نحو الوراء، كانت زوارقه تهرول نحو الضفة الأخرى من مضيق جبل طارق. ولم يكتسب لقبه جزافا، بل سُمي كذلك لأنه كان قادرا على «طحن» كل المعيقات، وشحن أي شيء تحت أي ظروف. وشرع إلنيني، في أول الأمر، في إظهار حنكته. وكان يميل إلى تنفيذ عمليات خرق المراقبة، أو كما تسمى هنالك ب«الحَيْحة». ورغم أن الرجل كان يسعى من خلالها إلى إثبات جرأته وشجاعته، إلا أن بعض نتائجها لم تكن موضع قبول من لدن البارونات الآخرين؛ غير أن أسوأ ما فعله إلنيني هو أن جعل من «الطاحونة» شيئا صغيرا. كانت الكميات التي تشحن من واد المرسى كبيرة للغاية، وخيف أن يغرق إلنيني السوق؛ بل إن ما قام به كان هو سرقة الزبائن من بارونات آخرين. وعندما يلتف الحبل حول عنق البارونات بهذه الطريقة، فمن الصعب توقع وقوفهم مكتوفي الأيدي. لقد قرر «الطاحونة» أن يطرد إلنيني من واد المرسى، وكما أعلنها فعلها. وبحسب القصة، فإن «الطاحونة» كلّف عناصره الأشد بأسا بمداهمة فيلا إلنيني في واد المرسى؛ لكن الرجل القادم من سبتة قرر أن يقاوم الهجمة عليه بالرصاص. بيد أن مقدراته على المناورة هنالك لم تكن كافية؛ فهو، في نهاية المطاف، كان رجلا غريبا عن البلدة، ولم يلقَ تأييدا أو دعما. ركب سيارة «ميرسيديس 500L»، وضغط على دواسة المحرك، فيما تبعه رجال «الطاحونة» في سيارة رباعية الدفع من نوع «شيروكيه». كانا، خلال المطاردة، يتبادلان إطلاق النار؛ لكن إلنيني كان يفر بنفسه. بعدها، عاد رجال إلنيني إلى واد المرسى لاستلام معدات الشحن، ووقع الطرفان ما يشبه هدنة بينهما؛ لكن بشرط وحيد: على إلنيني ألا يعود إلى واد المرسى مرة ثانية. وكما على إلنيني الهارب من الإسبان ألا يرجع إلى واد المرسى، عليه أيضا أن يبحث عن وجهة أخرى لتأسيس قاعدة جديدة. في طنجة، شكل منصة أخرى. ولأنه شخص على قدر من الذكاء، فقد تعلم درسه من واد المرسى، وكان هدفه هو أن يجد حليفا محليا يحميه من المنافسين المحتملين لطريقة إدارته لأعماله. هنالك، بحث عن اسم يناسب آماله، فعثر على واحد: محمد الخراز، المعروف باسم الشريف بين الويدان. في إحدى الروايات، فإن إلنيني كان يعمل مساعدا لدى بين الويدان في وقت ما بين 1993 و1995، حينما كان مجرد مهرب سجائر. وربما شكلت تلك الوظيفة قاعدة صلبة لبناء علاقة عمل بعد ذلك. كان على إلنيني، بالطبع، أن يفهم أن بين الويدان أكبر من أن يقبل بوجود شريك مثله. ولذلك، كان عرض إلنيني أن يكون تحت تصرفه: بارون تحت بارون. كانت عند إلنيني مشكلة مؤرقة، فهو مواطن إسباني هارب في المغرب، وكان يجب أن يحصل على أوراق هوية جديدة. ولأن والده مغربي، فقد كانت وسيلة مناسبة كي يحصل إلنيني على هوية مغربية لأول مرة في حياته، كي يتجنب في حال وقوع الأسوإ: ترحيله إلى الإسبان. هنا، كان لمحمد الخراز (بين الويدان) دور؛ فقد تكلف باستصدار أوراق هوية إلنيني، وهو من كان صاحب مقترح تسميته ب«الوزاني». في 2002، أصبح إلنيني، أو محمد أحمد الطيب، كما يعرفه الإسبان ويعرف نفسه، محمد الوزاني بفضل بين الويدان. ورغم ذلك، لم يغير إلنيني طبيعته الأصلية، لأن زهوه بنفسه لم يكن يطاق، وتحولت الاستعراضات التي يقوم بها رجاله في طنجة إلى موضع شكاوى بارونات آخرين، وتفهم بين الويدان شكاويهم؛ لأن السماح بتلك التصرفات كان يؤشر على توقع تصرف طائش قد يكلفهم جميعا الكثير. وقبل أن يقع ذلك، أرسل بين الويدان إلنيني في مهمة خاصة، بدت مستحيلة حينها. كان منير الرماش يستأسد بالساحل الشرقي، وقد راكم أموالا هائلة؛ لكنه لم يكن يثير مشاكل كبيرة. وقد ظهر للشريف بين الويدان أن وجود الرماش، وقد تحوّل من تهريب السجائر نحو المخدرات، إلى جانبه وفي عصابته الخاصة سيعزز كثيرا قدرته على إعلان نفسه بارونا عظيما. وقد كانت تلك هي الخطة: «كان يريد أن يؤسس «كارتيلا» في منطقة الشمال، حيث لا يصدر كيلوغرام من المخدرات إلا بإذنه وأمره. وكان إلنيني متفهما لهذه النوايا؛ لأن بين الويدان قدم كل الحماية الضرورية لخدامه، بمن فيهم إلنيني»، يقول ضابط شرطة. اقتنى إلنيني فيلا في منتجع مارينا سمير، وأصبح جارا لمنير الرماش، وما أخطأ فيه الرماش هو أنه تجاهل وجود هذا الصبي الصغير بجانبه. في غشت 2003، وغشت عادة هو الشهر المعتاد لتصفية الحسابات هنالك، حدث ما كان متوقعا. حرّض إلنيني بارونا صغيرا يُدعى هشام حربول على تصفية حساب قديم مع مساعد لمنير الرماش. وكان الرصاص شاهدا على تلك المواجهة. وبشكل ما، فإن كل مشاهد العنف بين عصابات تهريب المخدرات التي يسمع فيها صوت الرصاص يكون إلنيني موجودا. ولم يكن ذلك معتادا قبلها. لقد حمل إلنيني معه الرصاص من سبتة كأداة فعالة لترويع المنافسين؛ لكنه أساء تقدير عواقب استعماله في المغرب. في المحصلة الأخيرة، ولما أنهت الشرطة حملتها عقب الحادث، كان الرماش وإلنيني معا في السجن؛ الأول مدان ب20 عاما، والثاني ب8 سنوات فحسب. وهما في السجن معا في بلدة واد لاو، قررا أن ينتقما من كل من أساء إليهما سابقا. جر الرماش اسم الشريف بين الويدان، بينما جر إلنيني اسم «الطاحونة». لم ينس إلنيني ما فعله به «الطاحونة» في واد المرسى، ولم يصدق الرماش غدر بين الويدان به؛ فهو ما زال مصمما على الاعتقاد بأن إلنيني لم يكن سوى يد تنفيذ عند بين الويدان. في 2006، سيقع «الطاحونة» في شباك الشرطة. وبعدها بعامين، سيسقط الشريف بين الويدان أيضا. محمد الوزاني الشهير ب"النيني" السجن أحب إليه قليلا.. السجن لم يكن يشكل أي عائق في وجه إلنيني؛ بل ولم يكن سجنا في أصله. لقد حوّل إلنيني السجن المركزي بالقنيطرة إلى مكان لأخذ القيلولة فحسب. وبما أن التفاصيل معروفة، فإن بعض الأجزاء يمكنها أن تساعد في فهم إلنيني أكثر. حينما كان إلنيني في سجنه تقنيا، بالقنيطرة، بينما هو عمليا كل ليلة تقريبا في سيدي عبد السلام ناحية واد لاو، يشرف على أعماله. كانت والدته الحلقة الرئيسية في التغطية المالية على هذه التصرفات. كان إلنيني حينما يصل ليلا في سيارة «داسيا» يقودها حارس سجن، وبرفقته حارس ثان، إلى سيدي عبد السلام، يتحلق من حوله معاونوه، ويشرع الجميع في الاحتفال؛ فقد كان إلنيني شخصا محبا للمرح. كانت أعمال صيانة تجري في فيلا جديدة هنالك، وهو كان يتتبع مراحل الأشغال يوما بآخر؛ حتى إنه كان يؤدي أجور العمال بنفسه ليلا. ومن غشت 2003 حتى دجنبر 2007، كان إلنيني يراكم خصوما جددا داخل سجنه؛ لأن المعاملة التفضيلية من لدن الإدارة كانت مصدر غضب عند بارونات آخرين. من جانبه، تجاهل إلنيني أولئك الحساد تماما؛ فهو كان يعتقد نفسه أهم من أشخاص مثل «الوراقيين» أو «الكولالي». وكما أعلن في جلسة في سيدي عبد السلام، فإن «وقتا قريبا سيحين حينما لن يجد هؤلاء أو أولئك أي شيء ليفعلونه في سواحل واد لاو». فجأة، قرر إلنيني أن يرتكب المعصية الكبرى: الفرار النهائي من السجن. شاهد كان يترقب وصول إلنيني في تلك الليلة من شهر دجنبر إلى سيدي عبد السلام يروي بعض التفاصيل: «كنا هنالك ننتظره في المنزل، وكان بعض مساعديه يجهزون قاربا نفاثا. لم أكن أعرف، بالضبط، ماذا سيحصل».. ويضيف الشاهد: «ما كنت أعتقده هو أن إلنيني سيحضر كالعادة، ثم سيعود؛ لكنه هذه المرة قرر ألا يعود. هذه المرة، لم يأت في سيارة حرس السجن، بل في سيارة معاونيه، دلف إلى المنزل وهو يبتسم، ثم رمى على كل واحد منا رزما من المال، وطلب منا أن ندعو له، ثم غادر.. لقد أحصيت المال، فوجدت نحو نصف مليون سنتيم، وأنا لم أكن هنالك سوى بالصدفة فحسب». قاد إلنيني زورقه النفاث وغادر نحو سبتة، ثم أعلن « وداعا أيها الأوغاد». «الأوغاد» في كل مكان الحظ لم يحالف إلنيني كثيرا. لقد فعلها، وغادر نحو مدينة مالقة. وبعد عشرة أيام من فراره، كان قد استصدر أوراق هوية إسبانية جديدة لنفسه. وكانت خطته هي أن يمنع المغاربة من تنفيذ أي إجراء لترحيله نحوهم؛ لكنه نسي أمرا مهما. إن الإسبان وإن ليس لديهم شيء ضده حينها، فإنهم سيتعاملون معه على نحو مختلف. خاض إلنيني معركة في المحاكم من أجل وقف تنفيذ أمر دولي بالقبض عليه؛ لكنه، في نهاية المطاف، خسر كل شيء، وحتى جنسيته الإسبانية. رمى به الإسبان إلى المغرب، فأدين بثلاث سنوات من السجن. لم ينتهِ إلنيني، كما عرفه المغاربة، في تلك اللحظة؛ لأنه رجل لا يموت كما قالت الأسطورة. وسرعان ما غادر أسوار السجن، وعاد إلى سبتةالمحتلة. كانت الأوضاع قد تغيرت في تلك المدينة، بعدما غادرها إلنيني قبل عشر سنوات. لقد بزغ اسم جديد: حسن الشاقور. كان على إلنيني أن يتعامل مع رجل قاس مثل الشاقور؛ لكنه كان يضمر شرا نحوه، وقد جمعتهما لا محالة بعض المصالح، لا سيما حينما أذن الكبار بقتل مصطفى د السعدية، وقد كان إلنيني في غالب الأمر واحد من الحلقة الضيقة التي قررت تصفية رجل مزعج ومهاب الجانب مثل مصطفى. ولم يكن إلنيني ليقبل بوجود رجل أقوى منه في سبتة. وهكذا، شرعت عصابتاهما في حرب شوارع. وفي نحو عامين، سجلت السلطات في سبتة نحو 45 عملية إطلاق رصاص، و6 قتلى؛ غير أن الحرب بينهما ستستعر أكثر مع دخول بارون آخر يدعى «سوكاتو» على الخط، وبينه وبين إلنيني الكثير من الدماء القذرة. في عمليتين غير مسبوقتين، تنسب واحدة منهما إلى إلنيني، اختطف رجل محسوب على عصابة الشاقور، وجزّ رأسه، وقُطعت جثته إلى أجزاء ثم رميت إلى الكلاب. وفي رد على هذه العملية، اختطف شابان والدهما في الغالب محسوب على إلنيني، قبل شهور، ولم يظهر لهما حتى هذا الوقت، أي أثر. حوّل إلنيني سبتة إلى حمام دم بعد