شيد بارون المخدرات، إلنيني، صرح كارتيل على ضفتي مضيق جبل طارق في 20 عاما، لكن السلطتين المغربية والإسبانية هدمتاه بسرعة في يوم واحد. كيف نجحت شرطتا البلدين في تدمير بنية تحتية صلبة؟ وكيف فشل ورثة إلنيني في الاستمرار كقوة مزلزلة في شمال المملكة؟ في 30 يوليوز المنصرم، خرج محمد الطيب الوزاني، بارون المخدرات الشهير بلقب «إلنيني»، من منزله، وركب سيارة BMW سوداء اللون، يقودها شخص يدعى حسن الشاقور. وصل إلى مرفأ سبتة، ثم ركب زورقا سريعا يسمى في تلك النواحي ب«الكاسكو»، يقوده شخص يسمى أحمد البالاس. الشاقور، مواطن إسباني من أصول مغربية يقيم في سبتة، والبالاس مواطن مغربي يقيم في مدينة الفنيدق المحاذية للحدود مع سبتة. وهما معا يشكلان آخر الشهود على إلنيني قبل أن يتعرض لإطلاق نار على بعد 500 متر من مرفأ مارينا سمير بمدينة المضيق. مات إلنيني كما أُعلن بحذر في فاتح غشت، لكن لم يكن أحد متأكدا من أن البارون القادر على مراوغة الموت انتهى بتلك الطريقة. ومع ذلك، عاشت مافيا إلنيني بعده، وتصرف أتباعه المخلصون وكأنه مازال حيا. شكّل «إلنيني» كارتيل مخدرات بكل ما تعنيه المفردة من مضمون مخيف، فقد دفعت سمعته الدموية إلى إجبار جميع شبكات تهريب المخدرات الأخرى في شمال المغرب على الخضوع لطلباته، و«إذا لم يعمل إلنيني، لن يعمل أحد آخر»، كما تقول القاعدة الرئيسة هنالك. ترك إلنيني وراءه بنية تحتية ملائمة لاستمرار كارتيل «لالينيا» في الحياة والعمل. ولم يكن أحد آخر يمكنه أن يقود الكارتيل بعد إلنيني إلا الرجل الذي يثق به، حسن الشاقور. الشاقور.. سلاح ذو حدين كسب حسن الشاقور سمعته من دمويته، وكما يحكي الحسين، وهو شاب يبلغ من العمر 22 عاما، ويقطن بحي «خادو» بسبتة، فإن أعمال إلنيني كان يقودها دوما الشاقور في غيابه، عندما كان في السجن، أو حين كان في حالة فرار من الشرطة. «كان شخصا مخيفا في هذه النواحي، وكثير من العمليات غير النظيفة كانت تنفذ تحت إمرته، ولم يكن أحد يستطيع أن يقترب منه»، لكن الشاقور، الذي لم يظهر في أي صورة من قبل، عكس إلنيني المهووس بالظهور، كان رجلا مخلصا لسيده. وكما يقول الحسين، فقد كان بإمكان الشاقور أن يكون هو عراب المافيا في سبتة، لكنه لم يفعل وبقي تحت ظل إلنيني، لكن الناس كانوا يعرفون أن الجزء الأكبر من السمعة الرهيبة لمافيا إلنيني ككل تستمده من سمعة الشاقور نفسه. عندما قرر منافسون لمافيا إلنيني، غير الراضين عن سيطرة كارتيل «لا لينيا» في تلك النواحي، تصفية رأس الحربة «النيني»، كانت خطتهم تنطوي على تحد ضروري: ألا تنفذ العملية في سبتة، وألا يكون الشاقور موجودا. كان مطلوبا من إلنيني كل يوم طيلة سنتين، بعد الإفراج عنه من سجن القنيطرة، أن يوقع على ورقة الحضور في مقر مفوضية الشرطة بسبتة، وكان الشاقور هو من يتكفل بمستلزمات نقله. كانت سيارة الBMW مصفحة بالكامل، ونوافذها الزجاجية مظللة بالسواد، فقد كانت تلك الاحتياطات ضرورية بالنسبة إلى شخص مثل إلنيني تعرض أكثر من مرة لمحاولات تصفية وسط سبتة. تدهورت الأوضاع قليلا بالنسبة إلى إلنيني حينما جرى الاتفاق بينه وبين عرابين آخرين يتمركزون في إسبانيا، على تصفية رجل خطر عاد لتوه من إسبانيا بعدما كان ممنوعا بحكم قضائي من ولوج سبتة لسنوات، يتعلق الأمر ب«طافو د السعدية»، وهو رجل دموي للغاية، وهنالك شكوك في وجود روابط بينه وبين ما لا يقل عن 20 عملية تصفية جسدية وقعت في سبتة منذ التسعينات. في 2013، عاد «طافو د السعدية» إلى سبتة، وكان مصدر قلق بالغ بالنسبة إلى مافيا إلنيني. ويتذكر بلال، وهو مواطن يقيم في حي «برنيسبي»، أن طافو أخبر أتباعه بأن ما يقع في سبتة لا بد أن يتغير. «قال بوضوح إن لعب الأطفال في سبتة يجب أن ينتهي، وسيعود كي يعيد زمام الأمور إلى أيدي الرجال كما كان عليه الحال من قبل». كان طافو يكره إلنيني، لأنه كان متيقنا بأنه كان سببا في الحكم عليه بالنفي من مدينته بعدما دفع ببعض أتباعه إلى الشهادة ضده في المحاكم، لكن إلنيني كان يتصرف بحس استباقي إزاء التهديد المعلن من لدن «طافو د السعدية». يوما واحدا بعد وصول طافو إلى سبتة، أعطى إلنيني الضوء الأخضر لتصفيته.. وكانت الخطة المرسومة محكمة. وكما يحكي محمد، وهو سبتاوي لديه معارف في المافيا هنالك، فقد استثمر إلنيني بعض الأحقاد القديمة بين طافو وبين ضحايا لعملياته السابقة. أتى بشاب بالكاد بلغ من العمر 24 عاما، كان طافو قد قتل شقيقه، وأخبره بأن الوقت قد حان للانتقام. يتكفل إلنيني عادة بالقتلة المأجورين لديه الذين دخلوا السجن، كما يتكفل برعاية عائلاتهم وحمايتهم من أي عملية انتقام. في اليوم الثاني لوجود طافو في سبتة، وبينما كان في جولة برفقة زوجته، وسط سبتة، ناداه الشاب من خلفه، وبمجرد أن استدار، أفرغ في رأسه رصاص مسدسه، ثم غادر. قبضت الشرطة على القاتل فيما بعد، لكنه لم يخبرهم بشيء، وتلك عادة لدى هؤلاء القتلة، لأن مصيرهم سيكون الموت إذا تكلموا. بداية النهاية شكلت تصفية طافو بداية النهاية بالنسبة إلى إلنيني، حتى وإن قدمت وقتها كعلامة بارزة في مسلسل تصفية الأجواء بالنسبة إلى «كارتيل لالينيا». في سبتة لم يعد هنالك اسم سوى إلنيني وقرينه الشاقور، فيما غادر باقي المنافسين المكان، محتمين بقدرة السلطات المغربية على احتواء مخططات الاغتيال. «صوكاطو» كان واحدا من هؤلاء، فهو بارون شهير، يملك فيلا في مركب مارينا سمير، وعمارات بمدينة الفنيدق، وثلثا أتباعه من الشبان المغاربة المقيمين في بلدان الساحل الممتد من مارتيل حتى باب سبتة. كان «صوكاطو» هدفا رئيسا بعد «طافو» بالنسبة إلى «إلنيني»، لكن هروبه إلى الفنيدق جعل تنفيذ العملية بالسلاسة المطلوبة أمرا متعذرا، لكن إلنيني فوض إلى الشاقور تنفيذ عمليات ترهيب جانبية، وهكذا، جرى إحراق سيارة زوجته، والهجوم على مشاريعه في سبتة، وإطلاق النار على واجهة مقهى تُسيره زوجته. لم تكن زوجة «صوكاطو» سوى بنت البارون الأشهر، محمد اليخلوفي، الذي توفي في السجن في التسعينات. وسريعا، أصبحت المواجهة مفتوحة. وحسب رواية غير رسمية، فإن «صوكاطو» طلب النجدة من شركاء كبار في أعماله مقيمين في فرنسا، لتنفيذ عملية التصفية الكبرى ضد إلنيني نفسه، وقيل إن البارون وضع يديه في الأيدي غير المناسبة: ما تبقى من شبكة «طافو». صممت الخطة على مهل كي لا يحدث أي خطأ في التنفيذ. كان لدى المنفذين الوقت الكافي لمراقبة حركة إلنيني، وضبط جدولة مواعيده، وبوصفهم غرباء عن منطقة سبتة، فقد كانوا غير مكشوفين، لكن العملية الرئيسة تكفل بها أتباع «طافو». اقتنى إلنيني علبة سجائر وزجاجة مياه من متجر مجاور للمرفأ، فيما كان الشاقور ينتظره في السيارة، ثم ذهبا معا إلى الزورق الذي امتطاه إلنيني، فيما قفل الشاقور راجعا إلى سبتة. بعد عشر دقائق، لحق زورق ثان ب«إلنيني»، وفي عرض البحر، تقدم زورق ثالث ليعترض إلنيني. ما حدث بعدها، يرويه أحمد البالاس بكثير من الحذر، حيث قال إن رجالا من الزورق الأول أطلقوا النار على إلنيني، وبعد تأكدهم من موته، غادروا المكان. أما الزورق الثاني، فقد عاد إلى سبتة سريعا، ثم ألقي القبض على من كان يمتطيه فيما بعد من لدن الشرطة. بقي الزورق الثالث لغزا محيرا، لأن لا أحد يعرف من أين خرج، حتى وإن كانت بعض الروايات تشير إلى أنه خرج من مارينا سمير، لكن لم يظهر له بعدها أي أثر. زورق إلنيني أعيد إلى مرفأ مارينا سمير، فيما حجزت السلطات الإسبانية القارب الثاني في مرفأ سبتة الترفيهي، وأفرج فيما بعد عن الذين كانوا على متنه. ميراث ثقيل انتهى إلنيني في تلك الليلة رسميا، حتى وإن ظلت الشكوك تصاحب عملية تصفية رجل راوغ الموت كثيرا. وكان يعتقد أن «كارتيل لالينيا» كله سينهار. لكن، وكما يؤكد الحسين، فإن إلنيني، رغم كل جبروته، ربما لم يكن ممكنا أن يستأسد في سبتة لو لم يكن الشاقور بجانبه، وبالتالي، كان من الطبيعي أن تؤول إليه أمور تسيير الكارتيل بعده. قُتل «طافو»، وانتهى «إلنيني»، واختفى «صوكاطو»، وبقي «الشاقور» وحده. ولم يكن هناك اسم آخر يمكنه أن ينافس على ملء الفراغ. شرع الشاقور في العمل، وفعل ما كان يفعله إلنيني عادة في مثل هذه الحالات، أي الانتقام. ما بين 2010 و2014، وقعت نحو 15 عملية تصفية ضد رجال عصابات في سبتة، كانت مرتبطة بإلنيني. كان حمام دم ضروريا، كما يروي أشخاص من سبتة، لأن إلنيني أراد ألا يكون هنالك رجل عصابات غير موال ل«كارتيل لالينيا». ولكن، كما يشير أفراد كانت لديهم علاقات بالمافيا هناك، فقد كانت الخطيئة الأصلية ل«إلنيني» هي أن عمليات التصفية زادت على الحد المعقول، حيث تضرر الجميع، وأصبحت أعمال الكارتيلات مهددة بسبب رقابة الشرطة، وخسر إلنيني كثيرا من رقم معاملاته، لأن الشرطة حاصرته كثيرا، لكنه وجد الوقت كي يستمر في تنفيذ عمليات التصفية، حتى أصبح هو أيضا هدفا لعملية مشابهة. سقط الشاقور سريعا في مثل هذه الأفخاخ، لأنه كان يؤمن بأن موت إلنيني لا يجب أن يمر دون رد فعل. نُفذت خمس عمليات تصفية ضد رجال عصابات مرتبطين بمافيات محلية مناوئة لكارتيل إلنيني، وسقط ثلاثة أشخاص صرعى بسببها. لكن العملية التي أفاضت الكأس، كانت تلك المتعلقة برجل العصابات المعروف بلقب «إلكانيش». كان هذا الرجل من أتباع «طافو»، وتعتقد مافيا إلنيني أن له دورا في تصفية زعيمها. نفذت العملية بأفضل الطرق الممكنة؛ فهو يمتلك سيارة Audi مصفحة، ولم يكن بالمقدور الوصول إليه من دون عنصر ثقة، وهو زوجته ، فقد أقنعها الشاقور، عن طريق شقيقتها، بخيار يتضمن طريقين: موت زوجها وحده، أو موتهما معا. أراد الشاقور أن يقدم درسا بقتل «إلكانيش»، عبر تنفيذ الجريمة الكاملة، وتصويرها مثل انتحار، لكن المنفذين أخفقوا في تفصيل صغير: لقد تركوا الرصاصات في جسده. بعد أسبوعين من العملية، أطلقت الشرطة سلسلة من المداهمات أنهت في ليلة واحدة كارتيل إلنيني. رجال العصابات هنالك لديهم ألقاب مرعبة: «الغرانا»، أي الضفدع، وهو قاتل متخصص في تنفيذ أوامر القتل، والعربي الطيب، شقيق «إلنيني» الذي كان له دور ثانوي بعد مقتل شقيقه في إدارة الكارتيل، و«باخاريتو»، وهو قاصر، لكنه معروف بقسوته في تلك النواحي، و«كواطرو»، ثم «فيريتي»، وهذان معا لا يتجاوز عمراهما على التوالي 19 و18 سنة. وتمتد القائمة لتشمل 8 عناصر آخرين. الضربة المغربية لكن العمليات المنفذة ضد كارتيل إلنيني كان يجب أن تشمل الجانب المغربي أيضا. عندما وقعت تصفية «إلكانيش» في 15 دجنبر الماضي، فهمت السلطات المغربية، حسب ما يشير ضابط شرطة في تطوان، أن هناك حمام دم وشيكا، وشرعت، بعدها بيوم، في تنقية الأجواء داخل التراب المغربي. أعادت الشرطة المغربية توقيف أحمد البالاس، الذي كان مرافقا ل«إلنيني»، ثم شرعت في البحث عن «صوكاتو» في تطوان، لكنها لم تعثر له على أثر. وبدل ذلك، اكتفت بالرجل الثاني في مافيا «صوكاطو». كان البالاس قد أوقف بعد يومين من إطلاق النار على إلنيني، لكن سرعان ما أخلي سبيله، وأقام وليمة احتفالا بنجاته من موت محقق. وقدم البالاس إلى السلطات بوصفه الشاهد الأخير على حياة إلنيني وقتله، وقدم أوصاف من يحتمل أنهم نفذوا عملية التصفية، لكن ليس هناك مصدر بالشرطة يؤكد ذلك. وكما تشير مصادر بالشرطة فقد يكون قدم معلومات عن القتلة إلى ورثة كارتيل إلنيني، وربما استنادا إليها شرع الشاقور في تنفيذ مخطط التصفيات. لكن ما هو جوهري في هذه العمليات، هو أن كارتيل إلنيني كان يجب أن ينتهي بالنسبة إلى السلطتين المغربية والإسبانية، لأن صداعه لم يعد محتملا. في 15 يوما، هدمت الشرطتان الإسبانية والمغربية صرح كارتيل استغرق تشييده من طرف إلنيني نحو 20 عاما. في سبتة، كما في تطوان ونواحيها، يسود تساؤل: من سيملأ الفراغ؟ بالنسبة إلى رجال العصابات، فإن سبتة، بوصفها محور عمليات تهريب المخدرات وما يصاحبها من جرائم، لم تشهد في تاريخها، طوال 30 عاما على الأقل، فراغا في القيادة. ومع تحطيم كارتيل إلنيني، وإضعاف المافيات الأخرى على الجانب المغربي، سيكون من الضروري الانتظار قليلا لكي يبزغ «نجم» جديد.