مؤشرات كثيرة تؤكد أن قرار المغرب بإقفال معابره الحدودية مع سبتة ومليلية أمام كل أنواع التهريب المسمى بالمعيشي كان بتنسيق أو تشاور مع الحكومة الاسبانية، وربما دون علم الحكومات المحلية في المدينتين. ولا شك أن القرار اقتصادي بالدرجة الأولى قبل أن يكون سياسيا. عبد الحميد البجوقي شمال المغرب عرف قفزة مهمة على مستوى البنية التحتية خلال العشرين سنة الأخيرة، ومن أهمها بناء ميناء طنجة المتوسطي و فتح أول خط للقطار السريع في إفريقيا، وأصبح من الضروري بالنسبة للمغرب أن يحسم في موضوع التهريب ومراجعة العلاقة بحدوده مع سبتة ومليلية. وهي قرارات لم تفاجئ في اعتقادي الحكومة الاسبانية رغم ما أثارته من غضب على مستوى الحكومة المحلية وأحزاب اليمين الاسباني. طبعا للقرار تداعيات على الساكنة الشمالية وبالخصوص الحمالات وسلسلة من المهن التي ترتبط بالتهريب، لكن تداعياته كانت أكبر على الشبكات المُسيطرة على سوق التهريب سواء في المغرب أو في سبتة.. إيجابيات التهريب ارتبطت منذ وجود هذا المعبر بتحقيق الاستقرار الاجتماعي لشريحة من سكان المدن المجاورة لسبتة،والتخفيف من البطالة في حدود لقمة العيش، لكنه لا يُحقق اسقرارا دائما، ويؤثر سلبا على الاقتصاد الوطني والمحلي ويعيق تطوره، وفي المقابل تستفيد مدينة سبتة إلى حد ما بتنشيط المدينة ماليا واقتصاديا، ويستفيد بشكل كبير الماسكون بسوق الجملة في التهريب وسلسلة من النافذين سواء في سبتة أو في المدن المجاورة، وهي الجهات التي تمارس ضغطا قويا على الحكومة المحلية بسبتة وتحاول الضغط على المغرب. الكل يعرف أن سلبيات ما يسمى بالتهريب المعيشي أكبر بكثير من إيجابياته، وأن السلع المهربة إلى المغرب لا تدخل أسواق سبتةالمدينة، وأن بعض السلع مُنتهية صلاحيتها ويتم تزوير ورقة معلوماتها، وسلع أخرى مُسرْطنة وممنوعة من الاستهلاك في فضاء الاتحاد الأوروبي يُسمح بتهريبها للمغرب، والحمّالات يذقن كل أنواع القهر والاستغلال والذل أثناء العبور في مشاهد يعرفها العالم.. وتبقى الايجابية الوحيدة أنها مصدر رزق محدود لفئة مهمة من سكان المدن المجاورة وسلسلة من المهن المرتبطة بها، وهذه الفئة هي الحلقة الأضعف التي على المغرب أن يُسرع بإيجاد حلول لها.. صمت الحكومة الاسبانية في موضوع منع التهريب واستمرار التعاون بين البلدين يؤكد أن القرار المغربي لم يؤثر على متانة هذه العلاقات إلى حدود اليوم، وعناصر قوة هذه العلاقات من الحيوية بالنسبة لاسبانيا والاتحاد الأوروبي ما يجعل من قرار المغرب بمنع التهريب غير مؤثر، كما نلاحظ أن التعاون الأمني في تطور، ودور المغرب في محاربة الهجرة السرية وعبور المهاجرين الأفارقة جعل منه حليفا استراتيجيا، ويجب أن لا نُغفل عودة المغرب إلى منظمة الوحدة الافريقية وتطور تعاونه وعلاقاته مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وهي عناصر قوة بالنسبة للمغرب في علاقاته الاقليمية، ولا يمكن أن نُغفل كذلك ما يمكن أن تُسفر عنه مفاوضات اسبانيا وبريطانيا بعد البريكسيت حول جبل طارق ومطالبة إسبانيا بالسيادة المشتركة على الجبل، مثل هذا الوضع سيُحدث تغيُّرا جيوسياسا في المنطقة، ولا يمكن للمغرب وحلفائه أن يقبلوا باستمرار الوضع كما كان عليه منذ ماقبل الحرب الباردة، وسبتة ومليلية جزء من هذه الخريطة الجديدة المُحتملة. أعتقد أن هذه العناصر والمستجدات حاضرة في تقديرات المغرب، وبدون شك ساهمت في تحركات المغرب الأخيرة، سواء فيما يتعلق بسبتة ومليلية، أو فيما يتعلق بترسيم المغرب لحدوده البحرية. وفي ظل التعاون بين البلدين هناك منافسة ومراجعة هادئة لقواعد اللعب يتداخل فيها الشأن الداخلي لكلا البلدين(انشغال اسبانيا بأزمة الانفصال في كاطالونيا، وموضوع الصحراء بالنسبة للمغرب)، والثنائي والإقليمي، وحتى الدولي. الوضع لم يعُد كما كان عليه سابقا في المنطقة برمتها، والمغرب كان غالبا ما يُحسن اختيار الزمن المناسب لاستعمال أوراقه، ونرى إلى حد الآن أنه أحرز بعض النتائج الايجابية بعد تصريح وزيرة الخارجية بعدم اعتراف إسبانيا بالجمهورية الصحراوية وما أثاره من ردود فعل جزائرية برفض الجزائر استقبال وزيرة الخارجية الاسبانية. بعض التحاليل من الجانبين، المغربي والاسباني تُشير إلى علاقة تشكيل حكومة ائتلافية في إسبانيا بمشاركة حركة بوديموس اليسارية وموقف هذه الأخيرة المساند لجبهة البوليساريو بقرار المغرب إقفال المعبرين أمام التهريب وخنق المدينيتين، وكما سبق أن أكّدت في حوارات ومقالات رأي سابقة، بوديموس لا تُشكل أية عقبة في العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا، والآن وهي جزء من التحالف الحكومي الاسباني لن تكون أقل براغماتية من الحليف الاشتراكي، رغم ضعف التواصل المغربي مع هذه الحركة وبالخصوص أحزاب اليسار المغربي.. ربما نجد هذه الحركة أكثر بابوية من البابا فيما يتعلق بسياسة الدولة ومصالح إسبانيا الحيوية.. هذا عكس التهديدات التي يُمثلها صعود حزب فوكس اليميني المتطرف الذي ينافس حاليا الحزب الشعبي في قيادة اليمين ، ما أثّر في مواقف هذا الأخير الذي يضطر حاليا إلى تصعيد خطاباته المُعادية للمهاجرين وللمغرب.