يثير التوتر الذي تعرفه الحدود المغربية مع مدينة سبتة مجموعة من التساؤلات حول طبيعته وأسبابه، وعن المستفيد من التهريب الذي يُميز هذه الحدود. هل حقيقة أن اقتصاد المدينيتين يتوقف على التهريب؟ وهل حقيقة أن التهريب يُجنِّب الأقاليم المغربية المجاورة أزمة اجتماعية بقدر ما ينخر اقتصاد المغرب؟ وهل التوتر يعود أساسا إلى قرار مغربي أو قرار إسباني أو باتفاق بين الطرفين ؟ لا شك في أن التهريب بين المدينة والحدود الشمالية للمغرب له دور في تنشيط الاقتصاد بالمدينتين السليبتين، وفي خلق مناصب شغل وتنشيط المدينة اقتصاديا، كما أنه يساهم في التخفيف من حدة البطالة على الحدود الجنوبية للمدينة بالرغم من الشروط اللاإنسانية التي يتم فيها عبور الحمالات والمهربين، والذي أصبح يثير انتقادات المنظمات الحقوقية على الضفتين وعلى المستوى الدولي. ولا شك أن هذه المصالح كانت إلى غاية بداية هذا القرن تؤثر بشكل كبير في علاقة المدينيتن بمحيطها المغربي، بقدر ما كانت مصدر حركة اقتصادية منعشة للمدينتين، لكنها لم تكن أبدا العمود الفقري لاقتصاد المدينيتن، وبالرغم أنها كانت مصدر عيش مئات العائلات المغربية، ظلت بالأساس مصدر اغتناء لوبيات ومافيات التهريب سواء في الفنيدق وتطوان أو في سبتة وكذلك في مدينة الناظور المجاورة لمدينة مليلية. وبالتركيز على مدينة سبتة كنمودج (عدد سكانها 74.771 نسمة ومساحتها 19 كلم) نجد أن صفتها كمنطقة حرة لا تستفيد من الضرائب على السلع التي تصل إليها متوجهة إلى المنطقة الحدودية أو ما يعرف بفضاء “المضربة” المحادي للمغرب، والذي تنطلق منه جحافل الحمالات الناقلات للبضائع، وإلى غاية أواخر القرن الماضي كان الاقتصاد الاسباني يستفيد من وصول سلع إسبانية وأوروبية إلى المدينة، لكنها تراجعت بشكل كبير امام منافسة السلع الصينية، ويشير تقرير مستشارية المالية بمدينة سبتة برسم سنة 2018 أن حجم السلع الصينية يفوق 78 في المائة من السلع التي تصل إلى المدينة. مشروع ميزانية المدينة برسم 2018 والمصادق عليه في برلمان المدينة بتاريخ 5 اكتوبر 2017 يكشف بما لا يدع مجالا للشكل في قسم المداخيل المحتملة أن مصادرها من الضرائب غير المباشرة لا تتجاوز في مجملها 37 في المائة، وأن فصول التصدير والاستيراد وعبور السلع لا يتجاوز 3,59 في المائة. على خلاف جهات الحكم الذاتي في اسبانيا تفتقر مدينة سبتة لصلاحيات التشريع، وفقط يمكنها الإدارة والتدبير في المجالات التي ينص عليها البند الثاني من نظامها الأساسي. كانت سبتة آخر جهة حصلت على صفة مدينة مستقلة إلى جانب مدينة مليلية بقانون 13 مارس 1995. ومداخيلها التي لم تتجاوز سنة 2019 30 مليون أورو لا تغطي أكثر من 27 في المائة من مصاريفها ، وهو العجز الذي تغطيه ميزانية الدولة المركزية عبر صندوق الموازنة، بمعنى أن المدينيتين يشكلان عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة، ولا تخفي بعض جهات الحكم الذاتي، وبالخصوص كاطالونيا والباسك انزعاجها من ذلك واعتبار الحفاظ عليها تحت السيادة الاسبانية يُرهق مالية الدولة ومساهمة الجهات في صندوق الموازنة دون طائل، باستثناء دورهما الاستراتيجي والعسكري، ويعتبر بعض المحللين الاسبان أن هذا الدور لم يعد بنفس الأهمية في عالم اليوم وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، وبالخصوص بعد التحاق إسبانيا بالسوق الأوروبية الموحدة (1986)، الاتحاد الأوروبي اليوم، وقبلها بالحلف الأطلسي. منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني وعلاقات المغرب واسبانيا بشأن المدينيتين يشوبها بعض الغموض، تبدو من أول وهلة متوترة، وتكاد احيانا أن تبدو كأنها ستعصف بعلاقات البلدين وبتعاونهما، لكنها تنتهي في المقابل ودائما بالتفاهم والتعاون، ورغم أن المغرب يرفض التواصل والتعامل رسميا مع سلطات المدينة، لكن الملفات الساخنة غالبا ما يتم تداولها والتعاون بشأنها بشكل منتظِم. التعاون بين الدولتين بشأن الحدود بين المدينيتين والمغرب تطور بشكل لافت في العقود الأخيرة إلى تفاهمات حول الهجرة السرية والإجرام والمخدرات وبالضرورة طال تنظيم التهريب الحدودي، وتبادل المعلومات في مجال الشأن الديني داخل المدينة. هذا الأخير تتخلله أحيانا بعض التجاذبات لها علاقة بلوبيات اقتصادية اخترقت المشهد الديني وأصبحت نافذة في تأثيرها على الدولتين بقدر ما تستعملها سلطات الدولتين في حساباتها الداخلية. بعض المتتبعين لشأن المدينيتين يعتبر أن الاتفاقيات الثنائية بين الدولتين تحمل بنودا سرية تنظم علاقة المدينتين بالدولتين، وأن التوترات التي تبرز بين الفينة والأخرى على الحدود هي في الأصل اتفاقات لتدبير السيطرة على المعابر الحدودية، وفي الأمن المشترك، وهذا ما يفسره التعاون المستمر في بناء الحواجز الحدودية وفي مراقبة الحدود، تعاون يتخلله بالضرورة بعض المناوشات والمنافسة في تدبير بعض الملفات على المستوى الاقليمي، وناذرا ما تكون مؤثرة في العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. المدينتين لا يمكن قياس أهميتهما بالمصالح الاقتصادية، ووضعهما كثغرين عسكريين يحظيان باهمية استراتيجية استثنائية ضمن المنظومة الدفاعية الاسبانية يجعله يفسِّرُ السلطات الواسعة التي تحظى بها المؤسسة العسكرية في المدينيتين ووصايتها شبه الكاملة على القرارات السياسية في المدينتين، بما في ذلك قطاع العقار الذي يخضع لوصاية وزارة الدفاع حيث شراء العقارات وبيعها للخواص يتطلب ترخيصا خاصا من وزارة الدفاع بموجب قانون 8/1975، وغالبا ما ترفض هذه الأخيرة الترخيص للسكان من المسلمين الاسبان شراء العقارات بتبريرات واهية، وأسباب ذلك تكمن في النزاع القائم بين الدولتين على السيادة، والتخوف من امتلاك عقارات المدينة من طرف أغلبية مسلمة يحوم الشك في ولائها لإسبانيا، وكذلك الأمر بالنسبة لملفات طلب الجنسية التي تنتهي في أغلبها بعد التسويف بالرفض إذا تعلق الأمر بالمسلمين من سكان المدينتين. المزيد من التفاصيل في الحلقة القادمة حول هذا الموضوع وأخرى تشرح الوضع الحقيقي للمدينتين، وعن أسباب توترات علنية بين الدولتين تُخفي في أغلب الأحيان تعاونا وتنسيقا متزايدا بشأن تدبير علاقاتهما الحدودية.