ها هي اليوم ورقة أخرى من أصدقاءنا ؛ تسقط في هدوء وتسلم روحها للواحد الديان ؛ من (طنجة) المبدع – جمال العبراق- بعد سقوط – الفنان – ع الهادي توهراش – من مراكش. غياب أبدي للطرفين؛ تاركيْن مخزون الذاكرة تعْتصر وترتب صورها وأحداثها التي صنعتها الصُدف؛ صدف اللقاء وحتمية العلائق . فبين الصدفة والحتمية ؛ من أي زاوية وموقع يمكن أن أنطلق بقول يفرض نفسه؛ بعْد غياب أبدي؛ للمسرحي ؛ المبدع- جمال العبراق- إيفاء لوفاء الصحبة والمعاشرة أكثر من ثلاث عقود ونيف؛ معاشرة تحمل توهجها وإشراقاتها وخفوتها حَسب مقتضيات الظروف؛ وتفاعل الأحداث التنظيمية والإبداعية ؛ هل البوح سيستقيم في قول حق في سلوكه الإنساني وأخلاقه العالية وروحه الرحبة التي كانت ترسل المحبة وصدق الإخاء بين رفاقه وأصدقائه ومعارفيه المجاورين له في المدينة القديمة؛ والتي كان يفضل الوصول لسكناه بزنقة – الجديدة- إلا باختراق جزء من السوق الداخلي؛ الذي كان يهيم في عشقه . فأغلب الليالي كان الراحل عنا؛ يسرق جلسة في إحدى مقاهيها؛ ليلتقط فيها مشاهِده وأحداثه وحركيته؛ ليس توظيفا لرؤية مسرحية؛ بل مقياس خاص : أين وصلت طنجة الساحرة لزوارها وله من حمقها وصوابها ؛ طنجة التي سكََنتْه وسَكناها ؛ إذ كان لا يفارقها إلا أسابيع ويعود لها مُلهما هائما في عِبقها ؟ يحتسي قهوته المفضلة بمقهى – زاكورة – وتلك لها ذكريات ؛ لا يعرفها سوى محمد الزايدي/ محمد الزين /عماد بوطالب /هشام أزرياح/ المرحوم : مكروم الطالبي / سعيد البشراوي/…/ ثم مقهى – ميتروبول – التي لا يتذكرها سوى الشاب اللطيف – الزبير بن بوشتى ؛والشاب الشيخ – عبدالسلام بوحديد – محمد الزين- عبد العزيز الناصري ؟ أم في جديته وصرامته وحُرقته المشتعلة بين ضلوع ديونيزوس؛ الذي سحَر العديد منا بطقوسيته ؛ وصرخاته نحْو الخصب وحُب الحياة عبر صراع وجود ؛ وجود يغتزل فعله في المذبح/ المسرح؛ فأصبحنا قربانا له قبل تقديم القرابين؛ ومعاقرة كؤوس الربيع ؟ فالراحل انغمس هوسا في معانقة الركح ابتداء من 1978 على يَد السينمائي – جيلالي فرحاتي – في مسرحية (جدران الظلام) ثم مسرحية (لقمة الغذفان) ومن خلالهما تعرف على الراحل مؤلف العملين -عبد المجيد الحمراني – الذي لم يعد يذكره أحد ، وهو الذي دفع الراحل لإتمام دراسته الجامعية شعبة أدب فرنسي؛ فما أقسى النسيان ! وأفظعه ما تم في حق محمد ديالنا- الذي ساهم في إظهار – طنجة – في العديد من التظاهرات؛ أبرزها مهرجان مسرح الهواة ! وأفظع من نسيان النسيان :أن لا أحد يعرف المسرحي – عبد القادر بالمقدم – في أواسط الأربعينات من القرن الماضي؛ حتى توفي بعد تقاعده بسنوات كمذيع بإذاعة طنجة ؟ أم سيستقيم البوح في تموقفات الراحل ، الصادقة والصارمة ، والتي كانت لا تقبل الديماغوجية ولا زيف الكلام؛ في العلائق والممارسة المسرحية وكذا في عملية التنظيم والتدبير؟ أومن خلال ممارسته تدبير جمعية ابن خلدون سنة (1990) بدون زيف ولا مظاهِركاذبة ؛ بعْدما انسحب من جمعية الستار الذهبي في 1989 رفقة /كريمة إمغران/ عبد العزيز الخليلي/ مكروم الطالبي/ محمد الزايدي/ مصطفى الزين/…/ إذ أعطى دينامية ؛ ودفعة جديدة ورصينة في الساحة المحلية والوطنية ؛ بعدما كانت الجمعية تعرف اهتزازات وتوقفات؛ بعدما أسسها عبد السلام بولعيش سنة(1973) ؟ أم القول الجلي سيكون فاعلا ؛ أثناء ركوبه معنا بحْر التمرد وعَدم الانبطاح. لمواجهة ومصارعة الأمواج والعواصف الهوجاء ؛ التي أصيب بها مسرح الهواة آنذاك ؟ فكان ملتقى طنجة الذي يحمل ملفات أسراره – مصطفى شوقي وعزالدين الشنتوف؛ تم الشبكة الوطنية للمسرح التجريبي ؟ وتلك حكاية أخرى ! عيْن: بكل صدق أي موقع متناول ؛تجاه الراحل عنا في غفلة ! يتقاطع بموقع آخر؛ ومشكلا نسيجا يحيط بكينونة وتصورات ؛ نتيجة انسجامه مع ذاته ؛ التي لا يفرضها على الآخر؛ بل تتلاءم هكذا بالآخر؛ نتيجة طابع خاص والمتمثل في – رضى الوالدين- والذين عاشروه عن قرب يعرفون جيدا؛ علاقته بوالدته رحمة الله عليها؛ وبابن أخيه رحمه الله كذلك؛ فالراحل كان يحب الحياة بكل تلويناتها؛ ويبتسم لها رغم الإكراهات والمعاناة التي كانت تصادفه ؛ وبالمسرح كان يتنفس هواء حرقته؛ ويهيم في عوالم شخوصه التي كان يعتبرها جزء من كينونته – العقرب/ الكاهنة / حنظلة / هيروسترات/ فاوست/ للاجميلة/ …/ فالرحيل عنا- جمال العبراق- وهَب نفسه للفعل المسرحي؛ واختاره بحثا عن – لذة سيزيفية – وكٌنه روح – ديونيزوس- ليس إلا . بحيث كان لا يفضل مصلحة أنانيته على مصلحة الجمالي والفكري والمعرفي والتنظيمي؛ بحيث كان ناكرا لذاته من أجل الإبداع ورونقه؛ ولم يفكر يوما أن يهرول وراء وَهْم الامتيازات و ثقافة الاستجمام. وهذا ما لامسته فيه ؛ يوم تعرفت عليه بعَيْد عرض – عُرس الذيب – في جلسة خاصة نظمها الراحل – محمد تيمد – الذي عمل على صقل شخصيته ومساهما في زرع إدراك خاص بأدوات جسده؛ لكي يوظفه كلغة ضاربة في بلاغة الآداء. فمن هذا التأطير أو إن صح التعبير: التأثير. تولد لديه هاجز لكيفية – إدارة الممثل- وفق درامارتوجية التشخيص؛ فكان ينخرط في كل تدريب وورشات التكوين التي كانت تُقام في هذا المجال؛ حتى أن تلقى تدريبا سنة1995 بأفينيون( مدينة المسرح) فبدأ يعيد النظر في إدارة الممثل كخطاب أيقوني منزاحا ومعْزولا عن المكونات المجاورة للممثل؛ بحيث استطاع أن يمررهاته المفاهيم في فضاء- المسرح المدرسي- حينما كان ملحقا بقسم الحياة المدرسية بنيابة التعليم؛ لكن ليس كل الطرق سالكة في بلادنا؛ إذ اصطدم ما مرة بحائط البيروقراطية ؛ لكن الراحل بحكم تركيبته الجدية وصارمة تموقفاته الفاعلة في حياته العامة والخاصة؛ غادر النيابة ليلتحق بالقسم مربيا ؛ جسورا وحنونا على تلامذته . ومسألة الانسحاب كانت تلاحقه دائما ؛ أبسطها ؛ حينما كان يزور نادي الستار الذهبي ؛ في نهاية الأسبوع أو العطل الموسمية ؛ ويصادفني رفقة – الصنهاجي / بوحديد/ الناصري/ الزين/ الزريفي/…/ يترك دراجته النارية ؛ وينخرط في عوالم النادي؛ لكن حينما يصدر صراخ ( ما ) من جهة الدائرة الأمنية التي كانت مجاورة للنادي؛ يمتطي دراجته وينسحب ؛ وأكبر انسحاب كان من الجامعة الوطنية لمسرح الهواة ؛ لأسباب تتعلق برفض مقايضات طرفها كوسيط – رئيس الجامعة- وذلك بعد عودة جمعية ابن خلدون من مشاركتها في – تونس- فتم التفكير في ملتقى مسرحي على غرار ملتقى الحمراء في بساطته وعمق اشتغاله ؛ فتأهب الاتحاد المسرحي بطنجة لذلك؛ من أجل المدينة والمسرح ليس إلا . لكن طبيعة الصراعات الجوفاء وذوي النوايا الحاقدة ؛ وبعض الأيادي الآثمة؛ التي كانت مدفوعة من لدن (الجامعة) توقف الملتقى في دورته الثالثة ؛ هنا تأجج الصراع ؛ ففكرنا سويا في تأسيس الشبكة الوطنية للمسرح التجريبي؛ باعتبار الراحل كان كاتبا عاما في الجامعة؛ ويعرف أسرارها وكيفية تحريك الخيوط من لدن رئاستها التي شاخت في الرئاسة؟ فتحقق ذلك؛ فأسندت الرئاسة للراحل؛ ولم يعد لي دور بقوة القانون؛ إلا الدعم والسند في الخفاء ؛ لكن الوزارة ارتأت أن توقف الصراع بين الشبكة والجامعة ؛ وفشل جهة حزبية استقطاب الشبكة كدرع تنظيمي لها إبداعيا وثقافيا أنشأت [مسرح الشباب] في عهد– محمد الكحص- كاتب الدولة في الشباب، حسب التسمية الرسمية أنذاك . ووجه الاختلاف بيني وبين الراحل؛ أنه استسلم للباب المسدود؛ وإن كنت رفقة – أحمد الدافري- الذي كان كاتبا عاما للشبكة؛ حاولنا الدفع بالشبكة الوطنية للمسرح التجريبي لإستغلال الفوضى والصراعات التي كانت بين مختلف هياكل الوزارة، أهمها الصراع الذي دار بين الوزير والكاتب العام أنذاك ، وهذا الأخير كان يرفض بقاء رئاسة الجامعة الوطنية لمسرح الهواة في يد من شاخت على يده – الجامعة – وكان هذا تلميحا في لقاء رسمي مع بين الكاتب العام للوزارة رفقة مدير الشباب والطفولة وقتئذ. لكن الخطأ الاستراتيجي؛ أننا تركنا عنصرا من – العرائش- كان يرفع مخططاتنا واجتماعاتنا لرئاسة الجامعة ؛ التي كانت تحاربنا بسلاحنا؛ فاتخذ الصراع فكريا /إعلاميا بيني وبين – محمد فراح- الذي كان كاتبا عاما للجامعة الوطنية . فقرر الراحل: الانسحاب من الشبكة ؛ إيمانا منه برفض الصراع بين الإخوة والأصدقاء والرفاق ؛ فاختار طريق ما يسمى( الاحتراف) في 2004 لينجز مسرحية للاجميلة للزبير بنبوشتى: تشخيص كنزة فريدو وحسنة الطمطاوي لكنه لم يجد ذاته في هذا الشق؟ كما وجَده في / رحلة حنظلة / البحث عن متغيب/ العقرب والميزان/…/ فالتجأ بين الفينة والأخرى تأطير رواد – مسرح الشباب – والمشاركة في لجنه .حتى انهار في غفلة من ضبط نفسه ؛ ليعيش عوالم بين الموت والحياة أسابيع معدودة ؛ ليجد نفسه شبه فاقد للذاكرة في عدة لحظات ؛ إنها معاناة أخرى عاشها في زمن النكران وعدم الإيفاء بأحقية رجالات ضحوا من أجل الإبداع والرقي بتذوق فني سليم ؛ بما فيهم الراحل عنا – جمال العبراق- والذي غادر قبح المشهد !!