نوال السعداوى منذ الطفولة المبكرة أدركت أن هناك ما يستحيل البوح به لنفسى أو لأقرب الناس إلىّ . أولها : علاقتى بالله . ثانيها : علاقتى بجسدى . كان أخى يتمتع بحريات وحقوق ليست لى ، لمجرد أن الله خلقه ذكرا . فى غرفتى أغلقت الباب علىَّ وبكيت لأنى خُلقت بنتا وليس ولدا ، كانت هذه أول دموعى فى الحياة . ثم جففت دموعى وقررت كتابة خطاب إلى الله أسأله لماذا يفضل أخى علىَّ ، رغم أنه بليد فى المدرسة وفى البيت ، وأنا متفوقة فى دراستى ، وأساعد أمى فى أعمال البيت من تنظيف وطبخ ودعك المراحيض وترتيب السراير بما فيها سرير أخى . لم أعرف عنوان الله فى السماء ، وبقى الخطاب مختفيا فى مكان سرى فى غرفتى ، لا أقترب منه حتى أشعر بالذنب ، لأننى تشككت فى عدالة الله ، ويستبد بى الخوف من الحرق فى نار جهنم ، وأخيرا تخلصت من الخطاب بحرقه فى النار . كان الله يتجسد فى خيالى وأحلامى على شكل رجل عيناه حمراوتان مليئتان بالغضب علىَّ . لم أعرف سبب غضب الله وأنا فى السابعة من العمر ، ثم بدأت أدرك بالتدريج أن هذا الغضب يتعلق بجسدى الذى خلقه الله وخلق فيه عضوا جنسيا اسمه البظر ، عضو آثم ملأه الله بالرغبة الجنسية ، وأمرنا بقطعه بالسكين حتى يصبح الجسد طاهرا نظيفا ، لا ينجذب الى الجنس الآخر . هكذا تعرضت فى طفولتى المبكرة لعملية جراحية بشعة ، لاستئصال البظر من جسدى ، شعرت بالألم والعار والخزى من نفسى ، لم أملك الجرأة لأسأل الله كيف يخلق فى جسمى عضوا ثم يأمر بقطعه "لأنه عضو فاسد الأخلاق" ، ولم أملك الجرأة لأسأل أمى (أو أسرتى) عن أى شىء يتعلق بقطع البظر من أجساد البنات الأطفال ، ويسمونها عملية الطهارة بالعامية ، والختان باللغة الفصحى . فى التاسعة من عمرى فاجأنى ما يسمونه الطمث أو الحيض ، رأيت الدم فى سروالى الداخلى ، وكتمت الأمر فى نفسى ، تصورت أن غشاء بكارتى تمزق فى الليل وأنا نائمة ، أن روحا شريرة من الجان دخلت من تحت عقب الباب ، ومزقت الغشاء الذى خلقه الله فى جسدى ليؤكد به عذريتى وطهارتى من الإثم ، تعذبت عدة أيام بسبب تدفق الدم من بين فخذى ، تصورت أنه عقاب من الله على شكوكى فى عدالته ، أو مرض خطير أصابنى ، ثم عرفت أنه الحيض الذى يصيب كل النساء شهريا ، وأن دم الحيض ليس مثل الدم المقدس النقى فى أجسادنا ، بل هو دم نجس مدنس ، لا أتخلص من نجاسته إلا بالاستحمام الجيد بالماء الساخن والصابون ، وقراءة بعض الآيات المطهرة الواردة فى كتاب الله . أصبحت أيام الحيض فى حياتى عذابا ، وعارا ، وفضيحة ، يجب أن أخفى كل مظاهرها عمن حولى فى البيت أو فى المدرسة أو الشارع ، ويجب ألا يعرف أحد موعد هذه الفضيحة ، ولا يرى شيئا منها ، وإن كانت بقعة صغيرة من الدم تتسرب إلى ملابسى الخارجية . كان مستحيلا أن أعرف سبب الحيض حتى دخلت كلية الطب ودرست علم وظائف الأعضاء ومنها عضو الرحم فى جسد الأنثى . أما عملية الختان فلم نعرف عنها شيئا فى كلية الطب ، لأن علم الجنس كان غير موجود ضمن المقرر ، وبظر المرأة لم يكن موجودا فى أى كتاب من كتب الطب الإنجليزية أو العربية ، وكذلك غشاء البكارة لم ندرس شيئا عنه فى كلية الطب ، لقد درسنا الأعضاء التناسلية للمرأة فقط مثل الرحم والمبايض . وتخرجت فى كلية الطب عام 1955 ، إشتغلت طبيبة عدة سنوات دون أن أعرف شيئا عن مضار ختان الإناث أو الذكور ، إلا أننى امتنعت عن إجراء أية عملية منها ، أدركت بالذكاء الفطرى أنها عمليات ضارة ويجب تحريمها للأطفال البنات والأولاد ، ولم يقنعنى أبدا ما أسمعه من الأطباء أو رجال الدين أن الله هو الذى أمر بختان الإناث والذكور ، فكيف يأمر الله بقطع شىء خلقه فى جسم الإنسان ؟ هل يقع الله فى هذا التناقض الصارخ ؟ كان الفقر أيضا يبعث على الخزى والعار فى نفوس الفقراء ، وكان علىَّ أن أخفى مظاهر الفقر عن زميلاتى وزملائى ، كنت أخفى عمتى الفلاحة الفقيرة حين يزورنى فى بيتى أحد من الصديقات والأصدقاء ، أو أقول لهم أنها واحدة من الجارات وليست من أسرتى ، وكنت أخفى الثقب فى السجادة بقدمى حتى لا يراه أحد . حتى أدركت بالتدريج أن الفقر ليس عيب الفقراء ، وليس هو إرادة الله ، بل هو عيب النظام الطبقى الذى يحكمنا . كانت مصر فى طفولتى مستعمرة بريطانية ، منهوبة الموارد بالاستعمار الخارجى ، وبالحكومة المصرية التابعة لهذا الاستعمار فى ظل الملك فاروق ، وكان المدرسون والمدرسات يمدحون الملك والإنجليز ، ويتملقون التلميذات من الطبقة العليا ، وكانت البشرة البيضاء والشعر الناعم من سمات الجمال ، وكانت خالتى شقيقة أمى تدربنى على تغطية بشرتى السمراء بمسحوق البودرة الأبيض ، وتكوى شعرى المجعد بالمكواة الساخنة ليفقد تموجاته وبصبح ناعما كالحرير . كنت أشعر بالعار والقبح بسبب بشرتى السمراء ، وشعرى المجعد ، حتى تخلصت بالتدريج من أثر المدارس الحكومية وغير الحكومية ، والمقررات التى فرضت علينا حتى تخرجت فى كلية الطب ، وبدأت أفتح عينى على الحقائق ، واكتسب معارف جديدة من خلال تجاربى فى الحياة ، وقراءاتى المتعددة خارج المقررات المدرسية . فى سنين المراهقة كنت أكتم كل ما أشعر به من تغيرات جسمية ونفسية ، وأخفى رغباتى الجنسية . أما الحب فكان محرما على البنات ، رغم أن الراديو لا يكف ليل نهار عن إذاعة أغانى الحب الملتهب ، وأغلبها قائم على الحرمان ، أو على الحب العذرى الروحانى الطاهر الذى يعلو على الجسد المدنس . هكذا كان مستحيلا أن أعترف لنفسى أننى وقعت فى الحب ، أو أننى مشتعلة من الداخل برغبة جنسية ، أو عاطفية ، كان الحرمان هو القانون السائد المفروض علينا نحن البنات والنساء ، أما الرجال فكانوا يطاردوننا ويحاولون الإيقاع بنا دون تأنيب ضمير ، بل بالتفاخر بالرجولة ، كانت الازدواجية الأخلاقية هى القاعدة ، الرجل يصبح رجلا أكثر حين يصطاد الفتاة ، والفتاة تصبح ساقطة إن استجابت له أو صدقت كلامه . فى مرحلة المراهقة والشباب لم يكن فى إمكانى البوح بتجارب الحب ، حين يخفق القلب ، وتتصاعد ضلوعى بالدقات القوية . كان الحرمان يلهب العواطف المكبوتة ، أغلب تجارب الحب فى حياتى من طرف واحد ، هو أنا ، لأنى لم أكن أعترف بالحب ، ولا يعرف الطرف الآخر ما يدور فى أعماقى ، ولا يمكنه أن يسمع خفقات قلبى . كانت القيم الأخلاقية المزدوجة تمنعنى من الاعتراف بالحب ، لأن الفتاة التى تقع فى الحب تفقد احترامها فى نظر الناس ، بل وفى نظر الرجل الذى تحبه ، كان الرجال لا يثقون فى الفتاة الصادقة التى تكشف عن مكنون صدرها ، يتصورون أنها فتاة سهلة رخيصة ، أما الفتاة المدربة التى تلعب بهم ، وتغدر بهم ، فهى من تفوز بحبهم . أما الزواج فهو منفصل عن الحب ، فالرجل لا يتزوج إلا العذراء البتول التى لم تقع أبدا فى الحب ، حتى فى حبه هو ، ولهذا تخفى البنات والنساء عن أزواجهن كل شىء يتعلق بالحب أو الجنس أو أعماق القلب ، ويمكن للزوج أن يتفاخر أمام زوجته والناس بتجاربه خارج الزواج ، أما الزوجة فالمفروض أن زوجها هو أول رجل فى حياتها ، بل الرجل الوحيد . لكن زوجى (د. شريف حتاتة) كان مختلفا عن أغلب الرجال فى بلادنا ، بل وفى بلاد كثيرة من العالم ، لم يكن يؤلمه أن أكشف عن تجاربى السابقة ، بل كان يشجعنى دائما على البوح والتخفف مما ينوء فى صدرى ، أو يسبب لى الألم أو الشعور بالعار . كان حادث الختان فى طفولتى من الأحداث المؤلمة التى كتمتها بسبب الإحساس بالخزى والعار ، وقد حاولت أن أكتب عن هذا الحادث دون جدوى ، كان مستحيلا لى أن أبوح للناس بما حدث لى ، كأنما اقترفت ذنبا ، كأنما أنا المذنبة وليس المجتمع أو النظام الحاكم فى العائلة والدولة والدين . وفى يوم كنت فى الهند مع زوجى ، فى جنوب الهند المطل على المحيط ، وكتبت بضع صفحات عن حادث الختان فى طفولتى ، ساعدنى البعد لأن أكتب بحرية دون القيود الاجتماعية المفروضة علينا فى الوطن وبين الأهل . أعطيتها لزوجى ليقرأها ، فأعجب بها وقال لى إنشريها ، إلا أننى مزقت الورق وألقيت به فى المحيط . وظل زوجى يشجعنى حتى كتبتها مرة أخرى ، بل ونشرتها ضمن الفصل الأول فى كتابى الذى كنت أعده للنشر حينئذ . يحتاج الإنسان والإنسانة إلى من يشجعه أو يشجعها دائما على كسر المحظور وهتك الأسرار ، وتساعد الكتابة أو أى عمل إبداعى على كشف المكنون فى الصدور أولا بأول ، وقد تحررت بالتدريج من أسرارى مع الكتابة الإبداعية ، أصبحت قادرة فى السنين الأخيرة على البوح بكل ما كنت أخجل منه فى حياتى العامة أو الخاصة ، وتخلصت من عبء الأسرار ، والإحساس بالخزى والعار . حققت ذلك عن طريق الكتابة ، وكشف المكبوت للناس ، هذا الكشف الذى حوَّل الجهل إلى معرفة ، والعار إلى شرف . إنها المشاركة الجماعية الإنسانية فى الآلام والأحزان المكبوتة الفردية ، هذه المشاركة الجماعية التى تجعلنا نشعر أننا لسنا وحدنا ، وأن ما حدث لنا يحدث لغيرنا فى جميع بقاع العالم ، بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة ، إلا أننا جميعا نعيش فى ظل نظام طبقى أبوى مزدوج المقاييس تحكمه القوة والأكاذيب والحيل والخداع سواء بين الأفراد أو الدول ، ويعاقب فيه الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء والفقراء على حين يطلق سراح الجناة الذكور من ذوى السلطة والمال والسلاح . ولهذا يحتمى الناس من البطش والعقاب بالكتمان وعدم البوح بما يدور فى عقولهم وصدورهم . وليس أمامنا إلا العمل الجماعى معا (عالميا ومحليا) من أجل تغيير هذا النظام الفاسد الذى يحكم العالم ، من أجل أن تكون الحرية عامة للجميع ، نساء ورجال وفقراء وأغنياء ، فى الشرق وفى الغرب ، ومن أجل أن يكون الصدق عاما للجميع بصرف النظر عن الطبقة أو الجنس أو الجنسية أو اللون أو اللغة أو الدين أو غيرها . أقول ذلك لأننى عرفت معنى الحرية ، وقد تحررت من أسرار حياتى عن طريق الكتابة والنشر ، أصبحت أبوح بما كنت أكتمه فى حياتى العامة والخاصة . أصبح لى جناحان أنطلق بهما فى الفضاء الواسع ، نعم دفعت ثمنا غاليا لهذه الحرية ، بما فيها النفى والسجن وتشويه السمعة والتهديد بالموت ، إلا أن أى ثمن يرخص من أجل الحرية والإبداع .