المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    الكشف عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    المغرب يستعد لإطلاق 5G لتنظيم كان 2025 ومونديال 2030    ينحدر من إقليم الدريوش.. إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس النافذ    الفتح الرباطي يسحق النادي المكناسي بخماسية    أمن البيضاء يتفاعل مع مقطع فيديو لشخص في حالة هستيرية صعد فوق سقف سيارة للشرطة    رابطة حقوق النساء تأمل أن تشمل مراجعة مدونة الأسرة حظر كل أشكال التمييز    بوريطة : العلاقات بين المغرب والعراق متميزة وقوية جدا        ميداوي يقر بأن "الوضع المأساوي" للأحياء الجامعية "لا يتناطح حوله عنزان" ويعد بالإصلاح    الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    "البيجيدي": حضور وفد اسرائيلي ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب استفزاز غير مقبول    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    متضررون من الزلزال يجددون الاحتجاج على الإقصاء ويستنكرون اعتقال رئيس تنسيقيتهم    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط        فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هجرة المثقفين المغاربة بين الماضي و الحاضر
نشر في شعب بريس يوم 14 - 12 - 2010

رشيد بوطربوش/ أندلسبريس- إن المغرب الذي يطل على بحرين عرفا مخاضا وتجاذبا بين حضارات تبادلت السيطرة على مياهه وموانئه، وتصارعت على اقتسام ثرواته وعوائده. إضافة إلى حدوده الممتدة جنوبا وشرقا مع دول إفريقية لها تاريخ حافل بالأمجاد، متميز إلى حد بعيد في ثقافته عما تعرفه الدول المطلة على المتوسط من جهة الشمال عرف موجات كثيفة من الهجرات منه وإليه.
فقد استقر فيه الأندلسيون المطرودون من قبل محاكم التفتيش مسلمين ويهودا، وهاجر إليه الوندال والفينيقيون تشهد آثارهم ومدنهم على ذلك. وإليه رحل البربر الأمازيغ من اليمن وكنعان ومصر. واستقر به الأوربيون البيض الذين جلبوا بواسطة الجهاد البحري. ورحل إليه الزنوج الأفارقة وعملوا في جيوش كبار ملوك العلويين كالملك إسماعيل صاحب حاضرة مكناس الذي سمي جيشه في التاريخ بعبيد البخاري. ورحل من المغرب نحوالمشرق وأوربا المسيحية طلاب علم وتجار ومتصوفة، طالت مدة بقائهم أحيانا حتى أدركت بعضهم الوفاة في بلاد المهجر، وقصرت أحايين أخرى. وكان الفعل المحرك لأغلبها حسب الدراسات الموجودة في الموضوع عوامل ذاتية، ومبادرات شخصية2. إن حالة المهدي بن تومرت (524 ه) الذي مكث مهاجرا بلده المغرب أزيد من خمس عشرة سنة هي حالة نادرة جدا، وأندر منها حالة الجغرافي المؤرخ الشريف الإدريسي (560 ه) وإلا فالحال شاهدة على أن المهاجرين كانوا يتأخرون في العودة إلى الوطن الأم بضع سنين تمليها تباعد مسافات هجرتهم كما سبق التنويه: طلب العلم والسلوك والحج والمجاورة، وقليلون أو لئك الذين لم يعودوا بعد هجرتهم حيث كان سبب انتقالهم هروبا من متربص أو خصم سياسي كأبي الحسن الشاذلي(658ه)، وأبي الحسن الحرالي المراكشي(638ه).
أ- هجرة المفكرين المغاربة والاعتبارات الدينية: إن طبيعة الثقافة الإسلامية تشجع على الهجرة بالضرورة. فلولاها لما قامت الدولة الإسلامية النبوية الأو لى، ولولاها لما نجا المسلمون من أذى قريش حيث رحلوا إلى الحبشة، بل لولاها لما عرفت الحبشة الإسلام إلا في زمن متأخر جدا. ورغم أن فتح مكة أنهى الهجرة الجغرافية من أرض العرب إلى المدينة المنورة. كما في صحيح البخاري: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية). ولكن الحديث الثاني في صحيح مسلم يؤكد أن: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها). فهجرة أرض الكفر إلى دار الإسلام، والمجاورة ببيت الله الحرام، والهجرة لطلب العلم والفتح والمرابطة والمثاغرة. كانت تعد في مذهب المغاربة المالكي أمرا واجبا على كل مستطيع دون المستضعفين، من ذكر وأنثى، وكبير وصغير إذا استولى العدوعلى أرض المسلمين، وأضحت دار كفر بعد أن كانت دار إسلام3.
إن طلب العلم الشرعي كان سببا قويا دعا إلى هجرة كفاءات كبرى تبغي الاستزادة والرياسة العلمية في المجامع العظمى كالقاهرة والشام وبغداد. فالسماع ولقاء الأعلام، والبحث عن عوالي الأسانيد رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودراية لما جاء به، والتفرد ببعض النقول والمرويات هو الذي جعل خطوط التنقل عامرة بأهل العلم والنظر. كخط سبتة إلى الإسكندرية بحرا، أو مراكش وفاس إلى الإسكندرية برا، عبورا لتلمسان وبجاية وتونس وطرابلس ثم القاهرة فالحرمين الشريفين. وجرت عادة المغاربة منذ القديم على زيارة القدس الشريف، حيث يعرف هذا المنسك بالتقديس. وقلما وجدنا علماء مغاربة رحلوا في غير هذا الخط كبلاد العجم وما وراء النهر والهند والصين.4وتعد حالة الرحالة ابن بطوطة الطنجي المغربي الذي طاف الهند والصين نادرة جدا في تاريخ الهجرات المغربية. وليس غريبا أن تنتح هجرات كهذه حالات تولى فيها مغاربة مناصب علمية راقية في كثير من بلاد المسلمين كأبي الخطاب بن دحية(633 ه) في القاهرة، أو مناصب قضائية ودينية، من إمامة وخطابة ووعظ وأحيانا سياسية وسفارية، مثلما وقع لابن بطوطة الطنجي. خاصة وأن المدارس والزوايا الصوفية والجامع كانت دائما مستعدة لاستقبال المهاجرين وإيوائهم، والأو قاف مستعدة للإنفاق عليهم وتشغيلهم، وهذا وصف لظروف استقرار المغاربة من أهل العلم في دمشق: وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد. وهم يحسنون الظن بالمغاربة ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأو لاد. وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق، لابد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو قراءة بمدرسة، أو ملازمة مسجد يجيء إليه فيه رزقه، أو قراءة القرآن أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة. أو يكون كجملة الصوفية بالخوانق، تجرى له النفقة والكسوة ... ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة، وجد الإعانة التامة على ذلك.5إن اقتران طلب العلم بالرحلة مقرر في الثقافة الإسلامية ومؤكد عليه. حتى ذم أهل العلم من لم يرحل ومن لم يكن له شيخ يتأدب عليه،ورغم أن حواضر المغرب عرفت كما هائلا من المشايخ وأهل الفتيا إلا أن النقص كان حادا في أهل الحديث السبب الذي دفع بكثيرين إلى الهجرة طلبا لروايته وحفظه كما قال السخاوي(902 ه): وأما بجاية وتلمسان وفاس ومراكش وغالب مدائن المغرب فالحديث بها قليل، وبها المسائل... وفيه بقية من علم.6
ب-أثر المفكرين المغاربة في المهجر:
إن هجرة العقول المغربية قديما نحوالمشرق خاصة، كانت بمثابة حج علمي، ومولد جديد في منطقة عرفت بزوغ نور النبوة، وإشراقة وحي الله عز وجل خاصة وأن المغاربة عانوا كثيرا من عقدة الدونية، وترددت على أسماعهم كثيرا مقولات من قبيل: لولا القاضي عياض لما ذكر المغرب، وأسطورة الطائر الكوني التي ذكرها عبد الله بن عمروبن العاص بن وائل السهمي: صورة الدنيا على خمسة أجزاء كرأس الطائر والجناحين والصدر والذنب... وصدر الدنيا مكة والحجاز والشام والعراق ومصر، والذنب من ذات الحمام إلى المغرب، وشر ما في الطير الذنب.7 هذه الأسطورة التي رددها ابن خلكان (681 ه)8. ولدت شعورا بالهيمنة الثقافية لدى المغاربة دفعهم لطلب الرياسة العلمية في عقر دار المشرقيين، وبدا ذلك جليا في كلام من ظهر منهم على أقرانه كقول التاودي بن سودة(1209ه) بعد أن اجتاز الامتحان العسير الذي تعرض له من قبل علماء مصر،
ودرس بالجامع الأزهر وأفتى، قال: بالجامع الأزهر أفتيت
معتليا قد أحدقت بي من شام ومن يمن مع أهل مصر ومن أرض الحجاز ومن أهل الحجاز والأتراك مع عدن
كل المذاهب في آلاء قد جمعت أملي عليها من الآثار والسنن
ما يعلم الكل منهم أهل مذهبه وما به من أقاويل الرسول عن
مهذبا ومحررا فما عالم إلا رنا ودنا وخر للذقن
مستسلما شاكرا ومنشدا قائلا هذي المكارم لا قعبان من لبن9
ولم يجد علماء المغرب مناصا من التخلص من أسطورة الطائر الكوني إلا أن يحولوها إلى نادرة مضحكة ويتخلصوا من إحراجها بذكاء وفطنة: حكى البرنسي في كتاب المغرب له عن الجرجاني، وزير الظاهر لإعزاز دين الله، أحد ملوك العبيديين، أن الظاهر قال لوزيره: إني أريد أن أسمع كلام المغاربة. فقال له: هنا شيخ يعرف بأبي مسلم الدقي. فقال له: أسمعني كلامه. فجلس الظاهر خلف حجاب، وأحضر وزراء دولته، ووجه عن الدقي. فلما وصل ، سلم وقعد وتكلم معه بأشياء أضحكه بها، إلى أن قال له الوزير: بلغنا أن الدنيا شبهت بطائر، فالمشرق رأسه، واليمن جناحه الواحد، والشام جناحه الآخر، والمغرب ذنبه. فقال له أبومسلم: صدقوا، والطائر طاووس. فضحك الظاهر وقال : حسبه، وانصرف.
إلا أن النموذج المعبر بحق عن هجرة الأدمغة المغربية قديما إلى أراضي النور، هو الشريف الإدريسي الجغرافي المعروف الذي يعبر شعرا عن دونية المغرب وصدارة الشرق بقوله شعرا:
إن عيبا على المشارق أن أر جع عنها إلى ذيول المغارب
وعجيب يضيع فيها غريب بعدما جاء فكره بالغرائب
ويقاسي الظما خلال أناس قسموا بينهم هدايا السحائب10 إن تعجب الإدريسي من فعل أهل المشرق به وإحساسه بالظمأ وهو الذي جاء بالعجائب والغرائب، حدا به إلى شد الرحال نحوأرض العجم والإقامة بين ظهرانيهم، وهي حالة غريبة في ذلك الزمان الذي كان يحرم أهله الإقامة بين ظهراني الكافرين، وكانوا الدنيا إلى دار حرب ودار إسلام. قال عنه الصفدي: (مؤلف كتاب رجار، وهو"نزهة المشتاق في اختراق الآفاقّ. نشأ محمد هذا في أصحاب رجار الفرنجي صاحب صقلية. وكان أديبا ظريفا شاعرا مغرى بعلم الجغرافيا. صنف لرجار الكتاب المذكور...)11.ولا يعرف على وجه التحديد السبب الذي جعل محمدا الشريف الإدريسي السبتي يترك الإقامة بدار الإسلام مشرقها ومغربها، ويقيم في صقلية وهو المالكي الذي حرم مذهبه تحريما قطعيا اللحاق بأهل الكفر والإقامة معهم، بمملكة النور منديين والزمن زمن حروب صليبية.
ولكن أبياته السالفة تشير إلى نظريته الدونية للمغرب، وسخطه على أهل المشرق، زيادة على ما توفر من معلومات عن إكرام ملك صقلية رجار الثاني له، وما وفر له من إمكانيات علمية وبحثية هائلة من خزانة وأموال وخبراء وأدلاء لإنجاز مشروعه الجغرافي العظيم المتمثل في خريطته وكتبه، هو ما جعله يفضل الإقامة بصقلية. زيادة على ما يبدوأنه لم يكن من أهل الفقه والفتيا بحيث يراعي لقضية الإقامة بأرض الكفر كثيرا. واستفاد رجار الثاني ملك صقلية النور مندي، استفادة كبرى مما وضعه له الإدريسي من كتب وخرائط. حيث لخص له علم الأو لين ونقح ما فيه، وهذب معانيه ومعلوماته ككتاب العجائب للمسعودي، وكتاب أبي نصر سعيد الجيهاني. وكانت نتيجة هذا الجهد العلمي الدقيق إصدار الإدريسي السبتي باسم الملك رجار في صقلية كتاب"نزهة المشتاق في اختراق الآفاقّ ومختصره"روض الأنس ونزهة النفسّ، وكتاب"الجامع لأشتات النباتّ. كما وضع الإدريسي في صقلية خريطته المشهو رة التي انتفعت بها الدولة النور مندية المتطلعة إلى السيطرة على شمال إفريقيا بعد أن استولت بعض غريماتها الأو ربيات على بلاد الشام.
وعاش الإدريسي عيشة مرفهة في بلاط رجار الثاني ، محاطا بالرعاية والعناية، مجاب الطلب، مرعي الجانب، مستفيدا من الإمكانات الموضوعة تحت تصرفه لمزاولة أبحاثه العلمية، حتى مات رجار الثاني سنة 548ه، 1154م. فتغيرت أحوال الجزيرة بعده، وتغير حال صاحبنا معها. وعاد الإدريسي بعد ذلك لينشد شعرا أليما يشكوفيه غربته، ويقول:
ليت شعري أين قبري ضاع في الغربة عمري
لم أدع للعين ما تشتا ق، في بر وبحر
2_واقع هجرة الكفاءات العلمية في مغرب اليوم:
أ- هجرة الأدمغة المغربية بالأرقام: عمل المستعمر الفرنسي إبان إقامته بالمغرب على سوق آلاف المغاربة لاستغلالهم في الأشغال اليدوية العصيبة، ودفعهم للمشاركة في إعادة إعمار فرنسا التي خربتها الآلة الحربية إبان الحرب العالمية الثانية. ولم تتورع فرنسا عن استخدام كافة وسائل الترغيب والترهيب والسخرة الإجبارية لنقل المغاربة كي يعيشوا في ظروف صعبة، لا من حيث الشروط الأساسية للاستقرار، ولا من جهة التغطية الصحية وغير ذلك. وبعد الاستقلال السياسي للمغرب، ومرور فترة وجيزة منه انهارت آمال كثير من المغاربة التي علقت على تحسين وضع البلد والنهو ض به. حيث عرفت التنمية تراجعا شاملا، وارتفعت معدلات البطالة، وتوالت سنوات الجفاف، ودخل المغرب في نفق صراع مظلم مع جيرانه حول قضية الصحراء. وما نتج عن ذلك من زحف نحوالمدن، وانتشار أحزمة الفقر والتهميش حولها.12كل ذلك أدى إلى حدوث موجات متتالية من المهاجرين نحوالفردوس الأو ربي في زمن كانت فيه الحواجز مخففة والتأشيرة ميسرة، وسوق الشغل في العالم الأو ربي مهيأ لاستقبال المزيد، زيادة إلى تطور أشكال الاستقرار واستفادة المهاجرين من الحقوق الاجتماعية التي نصت عليها القوانين الأو ربية. لكن الظاهرة الخطيرة التي بدأت تطل برأسها مؤخرا تتمثل في تطور نوعي للمهاجرين، الذين أضحى معظمهم من حملة الشهادات العليا، ومن الأطر المتخصصة في المعلوميات على وجه الخصوص. وقد دق أو ل ناقوس للخطر في هذا الاتجاه على يد المفكر المغربي العالمي الدكتور المهدي المنجرة في أو اخر عقد الستينات من هذا القرن. وبالتحديد سنة1968م عندما أثار القضية وهو يوم ذاك نائب المدير العام لليونسكوفي العلوم الاجتماعية والثقافية، وشارك في الدراسة التي قام بها معهد الأمم المتحدة للتكوين والبحثunitar حول ظاهرة هجرة الأدمغة، وكانت هذه الظاهرة موجهة أساسا نحوآثار هذه الهجرة على اقتصاديات دول المورد.
وذكر عالم المستقبليات المهدي المنجرة على سبيل التمثيل لا الحصر أن أكثر من 700 باحث مغربي في مستوى الدكتوراه فما فوق يعملون في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، هذا مع العلم أن هؤلاء الخبراء كلف تكوين كل واحد منهم بالمغرب حوالي مليون درهم13. وثمة إحصاءات غير نهائية تكشف بالملموس المدى الذي وصل إليه نزيف الأدمغة بالمغرب تشكل صدمة كبرى للمتتبعين للشأن المغربي كشف عنها حديثا، تبين أن فوج سنة 2000 من خريجي المعهد الوطني للبريد والمواصلاتinpt غادر أكثر من 60% منهم المغرب، وهناك آخرون منهم يستعدون للحاق بزملائهم، وخريجوالمدرسة الوطنية العليا للمعلوميات وتحليل النظم ensias كذلك على نهج زملائهم، كما أن هناك إحصاءات تشير إلى مغادرة 200 مهندس أسبوعيا نحوالعالم الغربي، مما يشير إلى أن المغرب ربما يكون قد فقد أكثر من نصف خبرائه مع نهاية سنة 2000.
وتؤكد إحصائيات نشرتها جريدة economiste أن القطاعات المغربية المنتجة تعاني خصاصا في الأطر، في نفس الوقت الذي نرى فيه الكفاءات المغربية تهاجر في جماعات إلى أو ربا وأمريكا الشمالية. وتؤكد هذه الإحصائيات أن النظام التعليمي المغربي يخرج كل سنة نسبة من المهندسين لا تتعدى مئتي فرد، وأن حاجيات المقاولات المغربية تقدر ب800 إلى حدود 2005 وهو ما يؤكد أن مدارس المهندسين المغربية تجد صعوبة في تغطية الحاجيات الداخلية، فكيف بها الآن ودول العالم المتقدم تتلقف خريجيها قبل حصولهم حتى على الشواهد. وندوة نظمتها جمعية مهنيي التقنيات الإعلامية apedi يوم 24-11-2000 بالمدرسة المحمدية للمهندسين حول موضوع: نغادر أو نبقى ou partir rester كشف استطلاع للرأي داخل القاعة التي ضمت طلبة مهندسين على أبواب التخرج. كشف هذا الاستطلاع أن 80% من الطلبة المهندسين عبروا عن رغبتهم في الهجرة مباشرة بعد حصولهم على شهاداتهم.
وإذا علمنا أن حاجة أو ربا في مجال المعلوميات تقدر بمليون ومئتي ألف مهندس خلال الخمس سنوات المقبلة. وحاجة الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام واحد فقط بلغت 750ألف مهندس مع التسهيلات المعروفة علمنا سبب هذه الهجرة من بلادنا والعالم الثالث نحوالغرب.14
ب- دوافع نزيف الهجرة ومسبباته: تتعدد أسباب مغادرة نخبة المجتمع المغربي أرض الوطن نحوالمهجر، فهناك إجماع من طرف الفاعلين والمتتبعين لهذه الظاهرة على أن ظروف العمل بالمغرب لا تشجع الطاقات على الإبداع، بل تمنع نشاطها وتحد من مبادراتها، زيادة على استفحال الأزمة السياسية والاقتصادية، وغياب التأطير والتوجيه، وضعف الحوافز والتشجيعات المادية، فخريج معهد الأطر العليا بالمغرب حين يلتحق بعمله بمدينة كالدار البيضاء مثلا، فإن أو ل ما يصطدم به هو غلاء تكلفة السكن، إضافة إلى النقل، كما أن الأجر السنوي المقدر ب120 ألف درهم الذي تمنحه المقاولات المغربية لمهندس معلوماتي حديث التخرج لا يمكن مقارنته مطلقا مع ما يتلقاه نفس الإطار بفرنسا والمقر ب200 ألف فرنك فرنسي(300 ألف درهم)، هذا عدا امتيازات السكن والنقل والتغطية الصحية.15وقد عبر عن هذه الهموم كثير من الأطر المغربية في ندوة عقدت مؤخرا، منها:
- يرجع الأستاذ محمد الشاوي رئيس جمعية مهندسي المدرسة الوطنية العليا للمعلوميات وتحليل النظم أسباب الهجرة إلى عدم استجابة ظروف العمل في ميدان تكنولوجيا الإعلاميات لتطلعات الشباب حاملي الدبلومات في هذا القطاع، إذ ينتظرون ويطمحون إلى العمل في محيط يعينهم على الإبداع التكنولوجي... إلا أن الظروف في المغرب ليست كذلك حيث العمل بوسائل متجاوزة وضمن بنيات سيئة التنظيم.
- أما الأستاذ محمد بنشعبون مدير قسم النظم الإعلامية بالبنك الشعبي المركزي فيقرر: "أن الأجور المعروضة على أدمغتنا في الخارج تضاعف الأجور المفروضة عليهم في المغرب بمعدل يصل إلى ضعفين ونصف، وهذا ما يجعل أطرنا تحلم بالعيش في أو ربا حيث الظروف المشجعة والمغرية، ليس فقط على مستوى الأجور والتعويضات، ولكن أيضا على مستوى محيط العمل الذي يعتبر في أو ربا أكثر تشجيعا وتكوينا بالنظر إلى أهمية المشاريع، واستعمال آخر التكنولوجيات، بالإضافة إلى جودة التأطير.ّ
- ويعبر الأستاذ عبد الرحمن الفولاذي وهو أستاذ جامعي مقيم بكندا عن نفس هذه الهموم بصيغة أخرى فيقول: "لا يجب أن ننسى أن الخبراء المغاربة لا يجدون في بلدهم مناصب توافق تكوينهم، وليس هناك استثمار في الميادين التكنولوجية التي هي محتاجة إلى تخصصات وخبرات هؤلاء الخبراء".
- وهذه الأسباب جميعها يلخصها في مستويات ثلاثة الأستاذ خالد الحريري رئيس جمعية مهنيي التقنيات الإعلامية، بقوله:
هذه الأسباب تتوزع على ثلاثة مستويات:
- المستوى المادي: أي كل ما له علاقة بنظام الأجور والتعويضات في علاقته بمستوى العيش في المغرب.
- المستوى الثاني: وهو مستوى العلاقات في محيط العمل، إذ يجد المهندس أو الإطار نفسه محاصرا بالتعليمات والخطوط الحمراء وربما بسوء المعاملة أيضا.
- المستوى الثالث: وله علاقة بالمحيط المجتمعي ككل، حيث فقد الشباب المغربي كل أمل في تغيير أو ضاع البلد،
ولم تعد لهم أدنى ثقة في مسيريه. خاصة في مجال الحريات والمساواة في الفرص والإمتيازات.16
ج- كيف تتدارك الكارثة ويتوقف النزيف؟
ليس هناك مجال للشك في أن هجرة الأدمغة إلى الخارج من أعظم مهددات مستقبل أقطارنا العربية، ومن أسباب بقائنا متخلفين كأمة ومجتمع. وتزداد الحسرة إذا علمنا كم الإنفاق الهائل الذي تتكبده خزانات بلداننا لتخريج إطار متخصص. فتكوين مهندس في مؤسسات تكوين الأطر في المغرب يتطلب سنويا مبالغ مالية تتراوح بين مئة ألف درهم وثلاثمئة درهم حسب الاختصاصات وحسب المعاهد العليا. هذا زيادة على المجهو د الذي تقوم به الدولة والأسرة والمجتمع.17
لذا يجب التفكير في التدابير التي ينبغي أن تتخذ والكفيلة بالحد من هذا النزيف، وتيسير بقاء الأطر المغربية في وطنها لخدمته والنهو ض به، وهذه بعض التدابير الوقائية التي توصل إليها جمع من الأطر المغربية في ندوة عقدوها مؤخرا:
- الرفع من عدد الخريجين بما يستجيب للطلب المحلي والعالمي ويحقق مطالبنا في النهو ض التكنولوجي. حيث يكون المغرب حاليا ما بين 200 و240 مهندسا كل سنة. فيما تكون مدارسنا العليا مجتمعة حوالي 2000 إطارا كل سنة. وعلينا لتدارك النقص والخلل السعي لتكوين ما لا يقل عن 10000 إطار كل سنة. فيهم ألفا مهندس.
- اعتماد تكوين تحويلي وتكميلي بإخضاع متخرجين من تخصصات تعاني الوفرة أو البطالة لتكوين يؤهلهم لسد الخصاص في مجالات التكنولوجيا المتطورة.
- تشجيع مؤسسات القطاع الخاص. - مراجعة نظام الأجور والحوافز وتمكين الأطر المغربية من توطين التكنولوجيا الحديثة داخل المؤسسات الوطنية.
- خلق قنوات للشراكة والمبادلة بين الشركات الوطنية والأجنبية. - إعادة النظر في ظروف العمل داخل البلد حتى تكون مقنعة وجذابة للأطر المغربية، وتوفير أجواء الحرية والعيش الكريم.
- تشجيع الخبرات الوطنية التي تستثمر بالخارج أو تحتل مواقع راقية على خدمة وطنها الأصلي استثمارا وتوطينا للتكنولوجيا.
- الاستفادة من الخبرات المهاجرة بخلق صيغ للتواصل معها: مؤتمرات، جمعيات بحث مشتركة بين الداخل والخارج، شبكات اتصال إلكترونية...
هذه نظرة قاصرة في واقع الأدمغة المهاجرة ربما سلطت بعض الضوء على حقيقتها.
1 الهجرة والتنمية في أقطار الوطن العربي. د. نادر فرجاني. ص 137.
2 هجرة المغاربة إلى الخارج، جعفر بن الحاج السلمي.
3 رحلة ابن بطوطة(770ه)- دار الفكر، دار التراث،1968م .
4 تاريخ الجامعات الإسلامية الكبرى لمحمد عبد الرحيم غنيمة.
5 الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة. 6 مفاخر البربر لمؤلف مجهو ل(712ه).
7 المطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية(633ه).
8 مقدمة ابن خلدون(808ه). 9 المهدي بن تومرت، لعبد المجيد النجار.
10 نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي.
11 الوافي بالوفيات، لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي. 12 المغرب بين الهجرة وتهجير الأدمغة للسعيد الحسن.
13 انظر الحرب الحضارية الأو لى للمهدي المنجرة. 14 هجرة الأدمغة المغربية إلى الخارج، متى يتوقف النزيف_ التجديد، ع 140. 27 يناير2001.
15 الأحداث المغربية_27_1_2001. 16 هجرة الأدمغة المغربية إلى الخارج، التجديد، ع 140_27يناير 2001.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.