إلى وقت قريب كان مصير الشعوب رهينا بمزاج حفنة من محترفي السياسة , يتصرفون فيه حسب مشيئتهم، يحددون معالمه مع تغييب مبدأ التعاقد الذي يضمن الحد الأدنى من الممارسة السياسية السليمة. بالطبع هناك أجهزة ومؤسسات تسند هؤلاء الساسة وتشرعن أداءهم. فتستعيض عن تأليه الحاكم بترجيح هيمنة النخبة المصلحية على كافة مناحي الحياة ،وتلتف على مبدأ التعاقد الإجتماعي والسياسي بتبريرات الخصوصية أو الظرفية. تارة تسوق الجماهير نيابة عنهم وتارة تقوم بدور الحراسة أوالرقابة ،لكن الطرفين المتكاملين وظيفيا يتفقان تماما في مبدإ واحد هو استصغار الجماهير وتأجيل أهليتها إلى ما لا نهاية له .ومتى طال أمد التأجيل، كان ذالك من حسن حظ هولاء الساسة الذين يحسنون صنع الأزمات حتى يتضرع لهم الشعب التماسا للحلول،ويجيدون فن الخطابة والوجاهة السياسية حتى ينخدع الشعب بهالتهم المزعومة،ويتنافسون على خطب ود الجماهير بواسطة انتخابات كاذبة خاطئة يسمونها تعسفا استحقاقات شعبية بينما هي في الواقع كرنفالات مخدومة تتيح مجالات متفاوتة من الإنتفاع السياسي . ذلك زمن نحسبه ولى،على الأقل بالنسبة للشعوب العربية التي عانت ماعانته من ويلات احتكار السلطة وتحويلها إلى مزرعة خاصة ، مسيجة ومغلقة في وجه احتمالات التداول السلمي. وجاء زمن بأناس في مقتبل العمر،متحررين من الشحنات الإيديولوجية وقد سحب عليهم المجتمع نظرة دونية في مجال الممارسة السياسية ، أنا س قذفت بهم الأوضاع الإجتماعية والسياسية المحتقنة إلى واجهة الأحداث بعد أن استشرى الفساد وتعذر وقف نزيفه. هم حقا أناس واضحون في مسلكياتهم ،بسطاء في في مطالبهم. لم يخبروا بشكل كاف تعقيدات ومراوغات التعاطي الحكومي مع ملفات الشأن العام . لكن عذريتهم السياسية ومشروعية مسعاهم ستجعلهم قادرين حتما على الإلتفاف على كل المحاولات التيئيسية الهادفة إلى إحباط العزائم المتقدة. يبقى إذن على هذه القوى المعاكسة لمسار الوعي الجماهيري أن تعود إلى رشدها، وتساير المبادئ العالمية للتدبير السياسي. وعليها أن تبادر إلى إجراء صلح مع الجماهير المغبونة في حقها من كعكة المشاركة السياسية، والإستفادة من ثروات بلادها .لأنه في آخر المطاف ،تبقى هذه الشعوب هي الملاذ لحكامها بعد نهاية مشوارهم السياسي ،متى كانت أياديهم نظيفة ونهج سيرتهم خالي من البطش والتنكيل. على هؤلاء الحكام أن يستنصروا بشعوبهم وينحازوا إلى مطالبهم التي يشهد القاصي والداني بمشروعيتها، بدل التجاهل والإحتكام إلى القبضة الأمنية. عليهم ألا يراهنوا على الدعم الأجنبي الذي أثبتت ثورات الربيع العربي لا جدواه. لا تتوجسوا أيها الحكام العرب من شعوبكم . إنها أنقى سريرة وأوفى عهدا مما تعتقدون . فكلما مكنتموها من أدوات الممارسة السياسية وأتحتم لها من هامش للحرية، كلما زاد لديها منسوب الإحساس بالمسؤولية. فمن السذاجة بعد الآن الإرتكاز على البعد الأمني للجم الجماهير. ومن المخجل ادعاء هيبة موهومة لا تصمد لأول اختبار للمشروعية. إن الوقت موات الآن لأعادة بناء جسور الثقة بين الحكام والمحكومين على أسس التعاقد والمحاسبة . فلا زال في صدر المواطن هامش أمل يسمح بقبول هؤلاء الذين انقضوا على السلطة في غفلة من الزمن والظروف، لكن شريطة أن يرضخوا لمطالب الشعوب ،وهي في الأصل بسيطة ،وأن يتفهموا روح العصر ونداءات المرحلة . وما أظنهم يفعلون.