لا أحد يشك في أن الإسلام جاء ليرسي المحبة والسلام بين الناس؛ كما أنه لا أحد ينكرُ أن العرب في عهد الرسول وقبله كانوا من أكثر الشعوب عصبية ونزوعاً إلى القتل والغزو والاعتداء على الناس؛ ولأن الإسلام جاء ليخرج هؤلاء القوم من جاهليتهم وعصبيتهم هذه، فإن أول شيء ركز عليه ودعاهم إليه إنما هو "إفشاء السلام بينهم"؛ ولذلك نجد أن هناك آيات قرآنية وأحاديث وأفعال للرسول كثيرة تؤكد كلها على ضرورة توثيق عرى المودة والمحبة والأخوة بين الأفراد والجماعات والقبائل والشعوب عن طريق إقراء السلام والبحث عن الوسائل القمينة بتحقيقه كي لا يتحول العالم إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف؛ ومن ضمن الآيات القرآنية التي أكدت على مفهوم السلام وإن لم يرد بلفظه قوله تعالى في سورة النساء، الآية 86: "وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا"؛ كما أن من ضمن الأحاديث المروية عن الرسول، في هذا الإطار، ما رواه عبد الله بن عمر؛ فقد جاء رجل إلى الرسول يسأله "أي الإسلام خير؟" فأجابه الرسول: "تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (متفق عليه)؛ كما تواترت أيضاً أخبار أخرى جعلت من التحية سلوكاً حضارياً موجهاً إلى المسلمين وغير المسلمين في نفس الوقت؛ فقد روي عن الرسول أنه "مرّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فسلم عليهم". مناسبة هذا الكلام ما أثير ويثارُ في الفترة الأخيرة من كلام حول التحية في الإسلام بعد أن بدأ الأمازيغ يستعملون تحية "أزول" على نطاق واسع؛ فقد ذهبَ بعضُ الفقهاء إلى تكفير وإخراج كل من يستعملُ التحية الأخيرة من أمة الإسلام؛ وذهب البعضُ الآخر إلى ادعاء أن كل من يستعمل هذه التحية إنما يشتغل على أجندات صهيونية ويريدُ أن يشتت الأمة ويعود بها إلى زمن الجاهلية؛ في حين اكتفى البعضُ الثالث بمعاتبة الإخوة الأمازيغ على "بدعتهم" هذه، فلم يكفروهم ولم يشيطنوهم، ولكن دعوهم للتراجع عنها وعدم استعمالها؛ وبطبيعة الحال، فإن أكثر من قاد الحملة ضد هذه التحية كانوا هم بعضُ خطباء المساجد ووعاظها يعضدهم في ذلك قوميو العروبة وإسلاميو السياسة العربية الذين اعتبروا السلام مفهوماً عربياً ولا يمكن أن يتحقق إلا في اللغة العربية. لن أناقش، هنا، دعاوى التكفير والصّهينة وتشتيت الأمة التي أصبحت، اليوم، لازمة عامة في فم كل من أراد أن يضرب بقوة مطالب النخب الأمازيغية في الكرامة الثقافية وفي إنتاج رموزها الحضارية؛ ولكن الذي سأناقشه هو ما إذا كانت الحجج والبراهين المقدمة من طرف هؤلاء للدفاع عن ما يُسمونه تحية الإسلام قوية بما يكفي ولها من الحجية ما يسندها على مستوى النصوص الدينية التي يستشهدون بها. عموماً، يمكن التمييز، في هذا الصدد، بين ثلاثة أنواع من الحجج:
1- "تحيةُ الإسلام" هي تحية سيدنا آدم: يؤسس هؤلاء لهذه الحجة التي يعتبرونها حقيقة لا يرقى إليها الشك على مجموعة من المرويات الإخبارية الواردة في بعض كتب السيرة والتفسير والأحاديث والتي تذهبُ إلى أن آدم تكلم باللغة العربية وتوجه بتحية السلام إلى الملائكة الذين ردوا عليه بنفس التحية، أي بالقول: " السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهُ"؛ فقد جاء في البخاري ومسلم والطبري وفي غيرهم عن الرسول أنه قال: "خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ على صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ قال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ على أُولَئِكَ: نَفَرٍ مِنَ المَلائِكَةِ جُلُوسٍ فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ فإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرّيَّتِكَ، فقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهُ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ." 2- "تحية الإسلام" وردت في القرآن الكريم: ومن ضمن الآيات التي أوردوها في هذا السياق ما جاء في سورة الأحزاب، الآية 44: " تحيتُهم يوم يلقونه سلام"؛ وما جاء في سورة هود، الآية 48: " قيل يا نوح اهبط بسلام منّا"؛ وما جاء في سورة مريم، الآية 47، مخاطبا فيها الله عز وجلّ إبراهيم:" قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي"؛ وما جاء في سورة الذاريات، الآية 25 مخبراً عن قصة لوط: "فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ"؛ وما جاء في سورة مريم 16، متحدثاً عن يحيى: "وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً"؛ وما جاء في سورة الرعد 23-24 متحدثاً عن الملائكة: "وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ"؛ وما جاء في سورة الأنعام، الآية 127:" لهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ "؛ وما جاء في سورة الفرقان، الآية 63: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا"؛ وما جاء في سورة مريم، الآية 33: "وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا "؛ وما جاء في الصافات "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (180-181-182)؛ إلخ... 3- "تحية الإسلام" وردت في الأحاديث النبوية: من ضمن الأحاديث التي أوردوها أيضاً في هذا الإطار ما رواه البخاري عن معاوية بن سويد عن البراءُ بن عازب أن الرسول أمرهم بسبع ونهاهم بسبع؛ قال: "أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَام"؛ ومنها أيضاً ما أوردهُ صحيحُ مسلم عن أبي هريرة؛ فقد جاء في هذا الحديث :"لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"؛ وفي سنن الترمذي عن عبد الله بن سلام أن الرسول قال لما قدم المدينة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"؛ إلخ... 4- "تحية الإسلام" ينالُ صاحبها ثلاثين حسنة: ويوردُ المدافعون، هنا، عن هذه التحية حديثاً يُفهَمُ منه أن من استعمل تحية الإسلام، وقال: "السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته"، فإنه سينالُ في كل سلام 30 حسنة؛ ومن الأحاديث التي يستشهدون بها في هذا المقام ما رواه الترمذي وأبو داود من "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليكم فردّ عليه، ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر؛ ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرّد عليه، فجلس فقال: عشرون؛ ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرّد عليه، فجلس فقال : ثلاثون".
توطئة عامة إلى التحليل: هذه، على العموم، هي الحجج التي يتقدّمُ بها المنافحون عن ضرورة الالتزام بما يُسمّونه تحية الإسلام؛ فهي تُلزمُ الناس بها لكونها، أولاً، تحية آدم عليه السلام؛ ولكونها، ثانياً، تحية وردت في القرآن الكريم؛ ثم لأنها، ثالثاً، وردت على لسان الرسول وحثَّ الناس عليها؛ وأخيراً لكون أنّ من التزم بها سوف ينالُ ثلاثين حسنة عن كل تحية. وبطبيعة الحال فإننا لن نناقش، هنا، حجية الأحاديث والإخباريات الواردة في العديد من كتب السير وكتب الصحاح؛ إذ المؤكّدُ تاريخياً أن هذه الكتب لم يتم تدوينهاُ إلا استناداً إلى الذاكرة في القرن الثاني الهجري، أي في العهد العباسي، وبعد أن مضى أكثر من مائة وعشرين سنة على موت الرسول (ص)؛ كما أن المؤكد أيضاً أن الكثير من هذه المرويات قد تعرّضت، بسبب بُعد تاريخ روايتها عن تاريخ تدوينها، للتشويه أو للنسيان الجزئي أو الكلي أو أيضاً تعرّضت للتغيير المتعمّد بسبب ما تحكَّم في روايتها من رهانات سياسية واضحة، خاصة في العهدين الأموي والعباسي، حيث شكلت هذه الفترةُ فترةَ الشرعنة الإيديولوجية للحُكم العربي العضود (الأئمة من قريش، الأئمة من العرب؛ تعظيم اللغة العربية والعرق العربي؛ القدح في اللغات غير العربية كالقول، مثلاً، أن اللغة الفارسية هي لغة أهل النار وأن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة؛ التأكيد على أن اللغات غير العربية "خبّ" أي خديعة وخيانة (ابن خلدون)؛ مباشرة عمليات إيديولوجية لزحزحة لغات الجنة التقليدية (السريانية، الآرامية، العبرية، إلخ) عن مكانتها المُقدّسة كي تترك مكانها للغة الجنة الجديدة التي هي العربية إلخ. والجديرُ بالملاحظة، هنا، أن الفقهاء والإخباريين والمفسرين ظلوا إلى مراحل متأخرة يعتقدون في قداسة اللغات القديمة المشار إليها، أي السريانية والآرامية والعبرية إلخ، ولذلك فإن كتبهم لا تخلوا من الإشارة إليها وإلى كونها كانت لغات الأنبياء والرسل قبل نزول الوحي على محمد بن عبد الله باللغة العربية إلخ؛ إلا أنه مع مرور الزمن ومع ترسخ الإيديولوجية الأموية ووعي النخبة العربية الحاكمة بأهمية اللغة في تشكيل السلطة وضمانها، بدأت سياسة أدلجة الإسلام بتعريبه وربطه عرقياً بالأسر القرشية الأقرب إلى أسرة النبي، وبدأت سياسة التمييز في العطايا والحظوة بين المسلمين حسب القرب والبعد من بيوت هذه الأسر القرشية، وحسب درجة الانتماء إلى الأرومة العربية، لتأتي الفئات غير العربية في المراتب الأدنى من السُّلَّم (ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم)؛ وموازاة مع ذلك، بدأت سياسة التنظير للغة عربية لم تنزل فقط بخطابها (القرآن)، ولكن نزلت أيضاً بلفظها ومعناها وحرفها ومدادها؛ وتحولت هذه السياسة إلى سياسة الدولة العربية الجديدة وليس فقط اجتهادات فقهاء أو مفكرين؛ فلم يعد الإسلام هو فقط الإيمان بالتعاليم أو المضامين التي يحملها الخطاب القرآني، والتي يؤكد فيها أن "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"، بل أصبح الإسلامُ أيضاً هو تلك اللغة أو تلك الأشكال التي تكلّم بها العربُ في جاهليتهم. هنا، إذن، ستبدأ المحاججة بضرورة الانتقال من الإيمان بالتعاليم إلى مرحلة الإيمان باللغة الحاملة لتلك التعاليم، فجعلوها ركناً آخر من أركان الإسلام كما جعلوا من الشرف ركناً سابعاً؛ وهكذا سنرى الرواة أو منتجي الروايات السياسية يروون أو ينتجون أحاديث أو يضيفون إليها كي يؤكدوا على فكرة أن إقراء السلام وإفشائه لا يتضمن فقط تمثل معانيه ونشرها بين الناس والالتزام بها كي تعم المحبة والمودة، بل يتضمن أيضاً أن يقولها المسلم (ة) بالصيغة العربية، أي بالشكل العربي الذي ينطق به العربُ تلك التحية؛ وإلا فإن عدم الالتزام بالشكل / الصيغة غير مقبول بل وقد يَحرِمُه ذلك من المئات من الحسنات التي يمكن أن يحصل عليها وهو يوزع التحيات بين المسلمين. هذا على مستوى التوطئة التاريخية العامة لحيثيات فرض الصيغة العربية للتحية الإسلامية؛ وأما فيما يتعلقُ بمجموع الحجج المقدمة آنفاً فيمكن لي أن أتوقف عندها الواحدة تلو الأخرى: 1- "تحية الإسلام" هي تحية سيدنا آدم: في هذه الحُجة، هناك إشكالية تاريخية عويصة، ذلك لأن المعلوم هو أن اللغة العربية لم تظهر إلى الوجود إلا بعد موت آدم بملايين السنين؛ فكيف، إذن، يمكن لشخص أن يتكلم لغة أو يحيِّيَ بها أحداً وهي لم تكن موجودة أصلاً ؟ إذ حسب الدراسات التاريخية المقامة، في هذا الصدد، فإن اللغة العربية لغة فتية وعمرها قصيرٌ جداً مقارنة باللغات الأقدم والتي منها السومرية والسريانية والآرامية والقبطية إلخ. إنها كما يذهب إلى ذلك بعضُ المؤرخين لم تظهر إلا حوالي 500 ب.م؛ ويتفق مؤرخو اللغة العربية وإخباريوها هم أيضاً على هذا المعطى؛ فالكثيرُ منهم أورد في رواياته أن أول من تكلم باللغة العربية إنما هو إسماعيل بن إبراهيم أو هو يعرب بن قحطان؛ وهذان الشخصان، كما هو معلوم، لم يعيشا أبداً في عصر آدم (الطبري، ابن خلدون ابن الأثير إلخ). الإشكاليةُ الثانية في هذه الحجة هي أنها عندما تُفسر قوله تعالى "وعلّم آدم الأسماء كلّها"، نجدُها تقصرُ لغة الجنة على اللغة العربية؛ في حين أن آدم، إذا أخذنا ببعض تفسيرات الآية، لم يتكلم فقط بلغة العرب، بل تكلم أيضاً بكل اللغات، وذلك لأن الله يقول "الأسماء كلّها" وليس اسماً واحداً أي لغة واحدة؛ وهو ما يعني أنه تكلم بالسومرية والأكادية والسريانية والقبطية والأمازيغية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية واليابانية وكل اللهجات التي نعرفها ولا نعرفها إلخ. وبكلمة واحدة تكلم بالآلاف من اللغات التي كانت موجودة في الجنة وبالآلاف من اللغات التي لم تظهر إلى الوجود الأرضي إلا بعد الملايين من السنين من موته؛ فلماذا، إذن، يتم الاقتصارُ فقط على اللغة العربية بوصفها لغة الجنة؛ ألا يمكن أن يكون آدم قد حيّى الملائكة أيضاً باللغة الأمازيغية أو بأي لغة أخرى؟ خصوصاً وأنه لا رواية تؤكد أن تلك التحية المذكورة قد توجه بها إليهم فقط باللغة العربية. الإشكاليةُ الثالثة في هذه الحجة هي أنه لا يمكن لنا أن نُسلّمَ بسهولة أن التأويل الصحيح للآية الكريمة هو التأويل الذي يشرَحُ الأسماء باللغات؛ وذلك ببساطة، لأن هناك من فسّر الأسماء باللغات، وهناك من فسرها بأسماء الله الحسنى، وهناك من فسرها بالأسماء والأشياء على العموم، وهناك من فسرها بالقول أن الأمر يتعلق بالعلوم التي وضعها الله في قلب آدم. هكذا، إذن، نجد أنفسنا أمام تعدد واضح للتفاسير مما يُعقدُ بشكل أكبر لغة أهل الجنة والتحية التي أُمرَ آدم أن يلتزم بها حرفياً؛ إن الأجدر بالملاحظة هنا هو أن القرآن لم يخبرنا أبداً عن لغة الجنة ما هي ولا عن لغة آدم المستعملة؛ وهو أمرٌ يجعلنا نشكك في كل الروايات التي تقول أن آدم قد تكلم بهذه اللغة أو تلك أو أنه تكلّمَ بلغة خاصة سماها بعضُهم باللغة الإلهية، وهي لغة لم يكن لها لتنزل من الجنة إلى الأرض لأنها لغة سماوية؛ الإشكالية الرابعةُ في هذه الحجة هي كونها تتعارضُ مع أحاديث أخرى وردت عن النبي، منها ما أورده ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" وأشار إلى صحته؛ فقد جاء في الحديث أن الرسول (ص) قال موجهاً حديثه إلى أبا ذر: « يا أبا ذر أربعة سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ وهو إدريس - وهو أول من خط بالقلم – ونوح"؛ فكيف لنا، إذن، أن نقرر أن آدم قد تكلم العربية وهو السرياني؟ إن من كان سريانياً ويتحدث باللغة السريانية لا يمكن أن يتوجه إلى الملائكة باللغة العربية ويحيي بها؛ بل الأحرى أن يتوجه بها إليهم باللغة السريانية؟ !!! 2- تحية الإسلام وردت في القرآن الكريم: الواقع أن القرآن الكريم مليءٌ بالكلمات والتعابير الدالة على معنى السلام؛ كما أن الكثير من الآيات تتحدث عن أنبياء ورسل جرت على ألسنتهم كلمة "السلام" أو خوطبوا بها أو أُخبروا بها أو حثَّهم الله تعالى على الإلتزام بما تحتويه من معاني وقيم سامية؛ لكن الذي لا ينتبهُ إليه الكثيرُ ممن يدّعون أن هناك إلزام للناس باستعمال التحية الإسلامية في صيغتها العربية هي أن أغلبَ هؤلاء الأنبياء، إن لم يكن كلهم (إذا استثنينا محمداً بن عبد الله)، لم يكونوا يتكلمون باللغة العربية، بل كانوا يتكلمون لغات أخرى؛ وهو أمرٌ أوضحه القرآن بشكل لا مجال فيه للتأويل؛ فالله تعالى يقول: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (إبراهيم، 4)؛ وهو ما يعني بكل بساطة أن اللغات التي كان يبينُ ويحيّي بها الأنبياءُ والرسلُ الناسَ ويُفشون بها السلام لم تكن هي اللغة العربية. فلقد تكلم إدريسٌ ونوح، كما رأينا، السريانية وتكلم النبي إبراهيم السريانية والعبرية، وتكلم النبي موسى القبطية (المصرية القديمة)، وتكلم النبي عيسى الآرامية، وقبلهم، كما أشرنا إلى ذلك، تكلم آدم بكل لغات العالم أو فقط باللغة السريانية !!! ومع ذلك يبقى أن الآية القرآنية الأكثر وضوحاً في هذا المقام هي قوله تعالى: "وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا"؛ ومن مميزات هذه الآية هي أنها لم تُحدد نوع ولغة التحية وكيف هي؛ ولذلك ذهب المفسرون مذاهب مختلفة في تفسيرها، فمنهم من ربطها بالتحية على الإطلاق، فقالوا هي الدعوة إلى طول الحياة والسلامة والرّدُّ على أصحابها بأحسن منها، أي بأحسن مما دعوا به للمُحيّى؛ وذهب البعضُ الآخر إلى الربط بينها وبين التحية الإسلامية المعلومة، أي السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛ وهناك من عمّمَ مفهوم التحية لتشمل المسلمين وغير المسلمين من يهود ونصارى ومشركين ومجوس إلخ. وهناك من حصرها داخل المسلمين فقط. غير أن سياق الآية ومضمونها يؤكدان أن الأهم في التحية ليس هو اللغة المستعملة، بل هو مضمون الدعوة بالحياة والسلام والحب والمودة إلخ؛ كما أن الرد عليها يلزمُ أن يكون أحسن أو مثلها؛ وكما قال ابن كثير فإن الزيادة في السلام مندوبة، والمماثلة فيها مفروضة؛ وهو ما يعني إمكانية السلام بأي لغة كانت لكن شرط أن يكون مضمونها مترجماً لمعاني السلام التي تتحدد في حُسن الرد أيضاً. فما دام أن المعاني السامية المتضمّنة في التحية قد احتُرمت فهذا لا يمنعُ من أن نُحيي ب"أزول" وب" أَ ثقاذاش" وب "أد شك يج أربي" وبغيرها من التحايا، سواء كانت أمازيغية أو عربية أو فرنسية أو إنجليزية أو غيرها. والذي يؤكد قولنا هذا أكثر هو أن الرسول نفسه كان لا يستعملُ أحياناً ما يُسمى اليوم بالتحية الإسلامية، إذ كان يستعمل صيغاً أخرى؛ فقد ثبت أنه استعمل صيغة "مرحباً"، فقال، كما تروي بعض الروايات، مسلّماً على بنت عمه فاختة ابنة أبي طالب: "مرحباً بأم هانئ" (البخاري).
3- "تحية الإسلام" وردت في الأحاديث النبوية: إن ما قدمناه سابقاً يمكن أن يشكل، هنا، مرتكزاً للتأكيد على أن الغاية الكبرى من الحث على إفشاء السلام من طرف الرسول إنما هو أمرٌ لا يقصدُ به اللغة المستعملة، ولكن المقصود هو المضمون؛ فعندما يحث الرسول على "عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَام" لا يقصد بذلك استعمال اللغة العربية أثناء ممارسة هذه السلوكات، بل يقصدُ، بالدرجة الأولى، تحيينها بأي لغة كيفما كانت، لأن الأساسي هو أن نخفف عن المريض ونواسي المفجوع ونؤدي الأمانة، ونقف إلى جانب المظلوم ونفشي السلام بين الناس إلخ باللغات التي نتقنها؛ وليس أن نُعبر عنها باللغة العربية وكفى. 1- "تحية الإسلام" ينالُ صاحبها ثلاثين حسنة: إذا تأكدت صحة هذا الحديث الذي يخبرُ فيه النبي أن المحيي سيُجازيه رب العالمين بثلاثين حسنة، فإن الأكيد واستناداً إلى تحليلنا السابق هو أن هذا الجزاء نفسه سيحصل عليه أيضاً كل الذين يحيون بلغات غير اللغة العربية؛ وهذا ليس تنقيصاً بطبيعة الحال من قيمة هذه اللغة التي نزل بها القرآن، ولكن إرجاعاً للحق إلى نصابه حتى لا تُقدمَ قيم العصبية في طبق ديني فيؤدي إلى خلط، كما يقع اليوم، بين الدين والسياسة. وللأسف فإنه بدلاً من فتح القلوب وتربيتها على قيم التسامح التي ظلت لصيقة بمجتمعاتنا انبرت جماعة من المغالين يُخرجون ويدخلون الناس في الدين؛ وتناسوا أن الأمازيغ ظلوا، لقرون طويلة، يستعملون صيغاً متعددة من السلام في مشارق المغارب ومغاربها، ومع ذلك لم يُكفّرهم أحد.
ملاحظة أخيرةٌ لابد منها: من المعلوم أن الفقهاء اختلفوا في إمكانية الصلاة بغير اللغة العربية؛ وهو أمرٌ أجلّ من التحية باللغة العربية؛ ولذلك سنجد أنه إلى جانب من لم يجز هذه الإمكانية أمثال ابن قدامة والشافعي والمالكية إلخ هناك من أجاز ذلك، في فترة محددة، أمثال أبو حنيفة الذي كان قد أجاز الصلاة حتى بالفارسية (لغة النار)؛ وهناك أيضاً من أجاز إمكانية استعمال غير العربية في بعض مكوناتها وذلك كالتكبير والتشهد والسلام والدعاء (ابن حنيفة والشافعية وبعض المالكية)؛ أسوق هذا لأنبّه الكثير من أدعياء (وليس دعاة) هذا العصر أن تطرُّفهم القومي وإيمانهم بالعروبة أكبر في قلوبهم وأجلّ من إيمانهم بتعاليم الإسلام، والسلام.