يحمل نص الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك بأبيدجان أمام رجال الأعمال الإيفواريين والمغاربة رؤية غير مسبوقة وفريدة، حول التنمية الاقتصادية بإفريقيا. خطاب يشمل كافة سمات الخطاب المؤسس. الرؤية والآفاق، الكثافة والملموس، الاستشراف والقدرة على العمل الاستراتيجي. فالقول، في الوقت الراهن، للقادة الأفارقة بأن زمن "هيمنة السياسي" قد توارى، وأنه وحدها المبادرات الدبلوماسية المدعمة بمقاربة اقتصادية حقيقية لديها فرص النجاح، هي رؤية في الوقت ذاته براغماتية وجريئة. وسيظل خطاب جلالة الملك بأبيدجان، بكل تأكيد خطابا تاريخيا، ألقاه قائد إفريقي مشبع بثقافة القارة، قريب من عامة الناس في معيشهم اليومي، ومنصت للتطلعات المشروعة للأجيال الجديدة، ولا يمكنه إلا أن يندرج ضمن الواقع الملموس للحياة اليومية للأفارقة. كما أن الفعالية والفاعلية والمصداقية تشكل المرتكزات التي ستمكن مستقبلا من بلورة أي سياسة تعاون. فنحن لم نعد في مرحلة الشعارات المتقادمة ولا احتفاء مبالغ فيه وضار بالجوار أو أخوة عقيمة. فإفريقيا تستحق من الآن فصاعدا أفضل من هذا. فالقيمة التي تخلقها القارة يتعين أن تبقى بالدرجة الأولى بإفريقيا، يستفيد منها الأفارقة أولا. فهذا المقاربة التي كان ينظر إليها في الماضي كخطاب منغلق، يعبر عن فشل اقتصادي، أصبح في الوقت الراهن دعوة رسمية لرفع وتيرة التعاون جنوب-جنوب لترقى إلى مستوى تعاون ثلاثي الأطراف يرتكز على التجربة التي اكتسبتها البلدان الإفريقية الأكثر تقدما. وحدها هذه المقاربة قادرة، اليوم، على إخراج إفريقيا من منطق التقسيم والفضاءات المحمية ونزعات التفوق النيوكولونيالية الموروثة والعلاقات التاريخية المشبوهة. ليس هناك ميدان مكتسب بشكل مسبق، ولا أي فضاء محمي، وحده التعاون الذكي والجريء ينتصر، يحقق الربح لجميع الأطراف. التعاون الذي يقصي الرؤية الاختزالية، التي تتجسد، بشكل مقصود، في رؤية مهينة تقسم إفريقيا إلى بلدان صغيرة وأخرى كبيرة. ليس هناك بلد كبير أو صغير، كما أنه ليس هناك مشروع كبير وآخر صغير. هناك ببساطة مشاريع تخدم المواطنين. فعندما أكد جلالة الملك أن "إفريقيا مطالبة اليوم بأن تضع ثقتها في إفريقيا "، فإن جلالته يوجه الدعوة إلى تجاوز أي شعور بالدونية وسوء التقدير الذاتي. فجلالة يدعو إفريقيا إلى الثقة في أبنائها وقواتها الحية ومواردها، والقطيعة مع ما تبقى من ذهنية الخاضع للاستعمار. فعديدة هي المرات التي أطلقت فيها الدعوات إلى التحرر، لكن قليلة هي المرات أو نادرة التي تم التعامل معها بعقلانية بناءة كهذه وبإرادة عملية بهذا الحجم. إن إفريقيا ليست بحاجة إلى مساعدة، فذلك يعد جزءا من الماضي. فهي، بالأحرى في حاجة، وهذه هي مقاربة جلالة الملك، إلى شراكات بناءة قائمة على مبدأ المساواة وتضافر الجهود والموارد التي ستمكن كل طرف من تحقيق الربح ، ومشاريع ستتحدى على أرض الواقع، صعوبات الحياة والتخلف والهشاشة والفقر حيثما وجدت. فإفريقيا تتوفر على مؤهلات وتزخر بإمكانيات. ولكي تتقدم ينبغي لها أن تتخلص من إكراهات الماضي والتطلع للمستقبل بعزم وتفاؤل. وبالنسبة للذين يبحثون عن بلوغ القمة والمجد ومستقبل ممكن، فإن الخطاب الملكي يأتي بهذه الفكرة المثيرة الحماس : "إذا كان القرن الماضي بمثابة قرن الانعتاق من الاستعمار بالنسبة للدول الإفريقية، فإن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء". فهذه المقاربة ليست دعوة للحلم بغد مشرق، ويمكنها أن تكون اليوم واقعا، إذا تم تحرير العمل فورا. فالعمل هو الكلمة المفتاح لهذه المقاربة وشرط لا غنى عنه من أجل النجاح. كيف يمكن جعل العولمة قوة إيجابية بالنسبة لإفريقيا¿، الجواب يوجد في خطاب جلالة الملك ويظهر كواجب جماعي. إنه يمر عبر التنمية الاقتصادية، والتجارة والاندماج الإقليمي. في هذا المجال، بالفعل، فإن المغرب، باعتباره رائدا في مخططات التعاون ثلاثي الأطراف، يحظى بالمصداقية ولديه رأسمال ثقة لدى شركائه، وهو مستعد ليكون في خدمة هذه المقاربة الإفريقية. إن المكافحة الجادة للتشاؤم الإفريقي الذي يعد بمثابة جرح حقيقي يعصف بإفريقيا، والتغلب عليه، لا يمكن أن يتم إلا إذا حررت الطاقات وأدمجت المؤهلات وانتظمت القوى الحية الإفريقية في شبكات منتجة. وهكذا، يحمل جلالة الملك حلما إفريقيا نبيلا وعميقا، لم يتزحزح قيد أنملة منذ بداية عهد جلالته. وقد أضحى هذا الحلم يغذي بالنسبة للقارة الإفريقية خيالا واسعا وإبداعا غير محدود. ولعل أكثر ما يثير الانتباه في هذه المقاربة هو أنها تظل مقاربة براغماتية تتحرك في إطار الممكن وتتحلى بأكبر قدر من الجرأة. لكم أن تتخيلوا قارتنا وقد تخلصت من أعبائها.. يقول جلالة الملك متوجها بالحديث إلى الأفارقة في دعوة كريمة ومتوهجة.