شكل الخطاب الملكي الذي القاه صاحب الجلالة، في افتتاح أشغال المنتدى الاقتصادي المغربي الإيفواري الذي انطلقت أشغاله اليوم الإثنين بأبيدجان، خارطة طريق لما يمكن ان تكون عليه علاقات التعاون بين الدول الافريقية وبينها وبين باقي الدول الاخرى، وذلك انطلاقا من فلسفة تمزج بين روح التاريخ ومزايا الاقتصاد.. وقد استهل جلالته حطابه بالحديث عن الاطار العام لزيارته الثانية للكوت ديفوار ودواعي اختيار ابيدجان لاحتضان هذا المنتدى الاقتصادي الهام لاول مرة خارج المغرب، وذكر بهذا الخصوص بالتطور الهام الذي شهدته كوت ديفوار في كافة الميادين، بفضل العمل الذي يقوم به فخامة الرئيس وتارا، بكل تبصر وعزم، ولما تتحلى به كافة القوى الحية للبلاد من روح المواطنة والالتزام...
كما اعتبر جلالة الملك أن اختيار "أبيدجان" لاحتضان "المنتدى المغربي الإيفواري" هو تأكيد وحرص من جلالته على تعميق العلاقات الثنائية وإعطائها نفسا وحركية أخرى للتعاون البناء، فهذا الاختيار لم يأت بمحض الصدفة، يقول جلالته، بل يعكس، قبل كل شيء، جودة العلاقات التي تربط المغرب بالكوت ديفوار، ويعد خير دليل على أهمية الروابط السياسية والاقتصادية التي تجمع المملكة بدول إفريقيا الوسطى والغربية...
كما ان هذا الاختيار يضيف جلالته يشكل اعترافا بأهمية ومكانة الاقتصاد الإيفواري، ودليلا على ثقة جلالته في آفاقه المستقبلية. وذكر صاحب الجلالة في هذا الاطار بالمؤهلات العديدة التي جعلت من الكوت ديفوار تحتضن إحدى القواعد الصناعية الأكثر نشاطا بالمنطقة، وأحد الأقطاب التجارية الأكثر حيوية بها...
وابرز صاحب الجلالة القوة التي تنعم بها الكوت ديفوار بعد ان صارت الاضطرابات السياسية من الماضي، وتمت استعادة الوحدة الوطنية واستتباب السلم والاستقرار، دون ان ينسى التأكيد على الماضي المشرق لهذا البلد الافريقي في المجال الاقتصادي والذي يعد، بحق ، أحد نقاط القوة التي يتمتع بها في المنطقة...
وبخصوص منظور صاحب الجلالة للعمل الدبلوماسي والعلاقات الدبلوماسية، اوضح جلالته أن الدبلوماسية في السابق كانت تعتبر أداة لتعزيز العلاقات السياسية فقط، إلا ان الوضح الآن تغير، حيث أصبح البعد الاقتصادي يحظى بالأولوية، ويشكل إحدى الدعامات التي تقوم عليها العلاقات الدبلوماسية، إذ ان النجاعة والمردودية والمصداقية اصبحت اليوم هي المرتكزات التي يقوم عليها التعاون، بعد ان كان يقوم سابقا على روابط الثقة والوشائج التاريخية
فالمصداقية والمردودية أضحتا أولويتين لدى صاحب الجلالة بخصوص بناء العلاقات الدبلوماسية مع الدول، وإذا كان التعاون يرتكز في السابق على الثقة والعلاقات التاريخية فإنه اليوم اصبح يقتضي الفعالية والنجاعة،ويقول صاحب الجلالة بهذا الخصوص ان "التعاون الذي كان يقوم سابقا على روابط الثقة والوشائج التاريخية، أصبح اليوم يرتكز، أكثر فأكثر، على النجاعة والمردودية والمصداقية”، ذلك أن "النجاعة تعطي ثمارها على الدوام. كما أنها تعد الضمانة الحقيقية لبلوغ نتائج ملموسة، وتحقيق تطور قابل للقياس، واكتساب القدرة على الاستجابة للتطلعات، فضلا عن كونها تكفل الجودة، وتسهم في ترسيخ الثقة" فيما تقتضي المصداقية " تسخير الثروات التي تزخر بها قارتنا، في المقام الأول، لصالح الشعوب الإفريقية. وهو ما يستوجب وضع التعاون جنوب-جنوب، في صلب الشراكات الاقتصادية بين بلدانها"..
هذا التوجه الجديد في مجال العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الذي افصح عنه جلالته يرمي إلى مواصلة علاقات التواصل بين البلدان الافريقية وباقي الدول التي تربطها معها وشائج واواصر تاريخية عميقة مع مواكبة ذلك بالعمل المتسم بالمصداقية والالتزام القوي، حيث اكد جلالته أنه إذا كانت إفريقيا ستواصل، في إطار انفتاحها، تطوير علاقاتها المثمرة مع الدول التي تربطها بها أواصر تاريخية عميقة، وتجمعها بها الكثير من عناصر التقارب والانسجام. فإنه من الضروري، أن تتم، في الوقت الراهن، "مواكبة هذه العلاقات، بعمل يتسم بالمصداقية وبالالتزام القوي. ذلك أنه لا مجال للحديث عن المكاسب الثابتة، أو عن المعاقل الحصينة، التي هي حكر على أحد دون غيره. فقد أصبح من الوهم الاعتقاد بعكس ذلك".
وحول منظوره لما ينبغي القيام به من استثمارات ومشاريع اقتصادية بالدول الافريقية اعتبر جلالته ان كل المشاريع متساوية ولا فرق بين الكبيرة منها والصغيرة معتبرا أنه "سيكون من الوهم، أيضا، الاعتقاد بأن هناك فرقا بين المشاريع الصغرى والكبرى. فكل المشاريع متساوية في أهميتها، مادامت ذات جدوى، وموجهة لخدمة المواطن"
واعطى جلالته المثال بالتجربة المغربية حيث اكد أن "هناك طبعا مشاريع ذات بعد وطني، والمغرب في طليعة البلدان التي تعرف هذا البعد تمام المعرفة. فالمشاريع الوطنية في مجال البنيات التحتية تعتمد كليا على الخبرة المغربية، بدءا من مرحلة التخطيط، وإلى غاية التنفيذ والتطبيق، سواء تعلق الأمر بالطرق السيارة والكهربة والسدود أو بالموانئ والمطارات..كما أن هناك أيضا مشاريع تكتسي أهمية خاصة، رغم حجمها الصغير، وذلك نظرا لتأثيرها المباشر على المواطن، ولكونها تهدف لتحسين ظروف عيشه اليومي. وهذا ما ينطبق على مشروع قرية الصيد الذي نعطي انطلاقته هنا بكوت ديفوار".
وقدم جلالته رؤيته الخاصة للمستقبل الذي ينبغي أن تكون عليه القارة الإفريقية، بعد تخلصها من شوائب الماضي التي تعيق تطورها وتنميتها، معتبرا ان "إفريقيا قارة كبيرة، بقواها الحية وبمواردها وإمكاناتها. فعليها أن تعتمد على إمكاناتها الذاتية. ذلك أنها لم تعد قارة مستعمرة. لذا، فإفريقيا مطالبة اليوم بأن تضع ثقتها في إفريقيا"..
وفي هذا الاطار وجريا على عادته في قول الصراحة وتسمية الاشياء بمسمياتها اعتبر جلالته ان افريقيا "ليست في حاجة للمساعدات، بقدر ما تحتاج لشراكات ذات نفع متبادل. كما أنها تحتاج لمشاريع التنمية البشرية والاجتماعية أكثر من حاجتها لمساعدات إنسانية"..
ودعا جلالته إفريقيا إلى لملمة شملها كي لا تظل "رهينة لماضيها ولمشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية. بل عليها أن تتطلع لمستقبلها، بكل عزم وتفاؤل، وأن تستثمر في سبيل ذلك كل طاقاتها".
وفي هذا الصدد، أكد صاحب الجلالة أنه "إذا كان القرن الماضي بمثابة قرن الانعتاق من الاستعمار بالنسبة للدول الإفريقية، فإن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء".
وقال صاحب الجلالة أن "التطلع إلى إفريقيا متطورة ونشيطة ليس مجرد حلم، بل يمكن أن يكون حقيقة، شريطة الالتزام بالعمل. فقد حان الوقت للعمل والمبادرة من أجل تحقيق هذه الغاية. فالعمل يعطي للممارسة السياسية مصداقيتها ويتيح تحقيق الأهداف المنشودة".
واعتبر جلالة الملك ان التعاون والتضامن بين الشعوب الإفريقية واحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية هو القمين بمواجهة العديد من التحديات التي تهدد استقرار القارة الافريقية السياسي وتعيق نموها الاقتصادي والاجتماعي..
وفي هذا الاطار يرى جلالته ان "إفريقيا مطالبة بالاستفادة من كل الطاقات التي تزخر بها، دون أن تعيش في عزلة عن العالم. ومن هنا، فهي مدعوة لمضاعفة الشراكات المثمرة مع الدول المتقدمة التي تبدي اهتماما دائما ، والتزاما صادقا، وانخراطا ملموسا، من أجل الازدهار الاقتصادي لإفريقيا وتنميتها البشرية"..
وبخصوص الفرص التي يتيحها "التعاون الثلاثي، كآلية مبتكرة، لتضافر الجهود والاستثمار الأمثل للإمكانات المتوفرة"، ذكر جلالة الملك أن "المغرب، الذي كان رائدا في هذا النوع من التعاون، يعرب عن استعداده لجعل رصيد الثقة والمصداقية الذي يحظى به لدى شركائه، في خدمة أشقائه الأفارقة. فمن واجبنا الجماعي أن نجعل من العولمة قوة إيجابية في خدمة التطور في إفريقيا. وهو ما يجعل من النمو الاقتصادي، والتبادل التجاري، والاندماج الإقليمي، مواضيع ذات مكانة جوهرية"..
إلى ذلك تطرق صاحب الجلالة إلى الدور الذي ينبغي ان يلعبه القطاع الخاص في تحقيق التنمية المستدامة في القارة الإفريقية، والحيلولة دون الاعتماد الكلي على الموارد الدولية للدولة، حيث أكد جلالته على أنه "يفرض على القطاع الخاص أن يوجه ديناميته وقدرته على الابتكار، نحو المجالات الواعدة، مثل الفلاحة والصناعة والعلوم والتكنولوجيا وتطوير البنيات التحتية".
اشترط صاحب الجلالة، لتحقيق هذه الاستراتيجية، "تحرير الطاقات وتعزيز المبادرة الخاصة. وهو ما يقتضي وجود قطاع عام فعال وواعد وذي كفاءة"، معتبرا أن "تكثيف الشراكات بين القطاعين العام والخاص، في إطار التعاون جنوب-جنوب، ونقل التكنولوجيا، يكتسي أهمية كبرى"..
وأكد جلالة الملك على ضرورة "جعل الحكامة الرشيدة والتطور في نطاق القانون، فضلا عن تسوية النزاعات بالطرق السلمية، من الأولويات المشتركة لدول القارة"، كما أوضح جلالته أنه "بفضل تقدم القطاع البنكي والتمدن والرفع من مستوى إنتاجية العامل الإفريقي، أصبحت أمام إفريقيا آفاق واسعة من أجل تحقيق الرخاء للأجيال القادمة"..
و توقع جلالة الملك أن يتم بلوغ هذا الهدف بشكل أكثر يسرا "إذا تمكنت القارة من الانتصار على اليأس الإفريقي، من خلال تحرير الطاقات الفكرية والبدنية للقوى الحية للشعوب الإفريقية"، ودعا الجميع للتطلع "إلى مستقبل قاراتنا الإفريقية إذا تمكنت من التخلص من كل أعبائها"...