مع انطلاق سبع ضربات للمدفع في مدينة السبعة رجال يستبشر سكان مراكش بمجيء ضيف عزيز، كثيرا ما يحتفى به بكلمة " الله يدخله بالصحة والعافية" وهي عبارة تردد بلهجة مراكشية تعطيها رنة خاصة في أذن السامع تعبر عن التهانئ وتبادل الأمنيات تبريكا بدخول الشهر الفضيل، مصحوبة بابتسامات الأطفال وهتافهم الصاخب في شوارع المدينة العتيقة وأحيانا أخرى بآلات موسيقية تتحول إلى رمز لحلول البركة و الخير في أرض تعيش البهجة في جميع مواسمها. استقبال رمضان بمراكش اليوم لم يعد بنفس الحلة الاستهلالية التي كانت قديما، خصوصا في الجانب الموسيقي والآلات المصاحبة له، حين نستحضر وصف الأستاذ محمد الماطي في احدى كتاباته يقول: ( قديما كان أهل مراكش يخرجون إلى الشوارع في ترقب لقدوم هذا الشهر الكريم، فتمتلئ سطوح المنازل بالرجال والأطفال والنساء وتتجه الأنظار نحو السماء حتى إذا رأوا الهلال تهللت أساريرهم وابتهجت قلوبهم لتبدأ الهتافات والزغاريد تعبيرا عن الفرحة بقدوم هذا الشهر. وكان الأطفال والشباب يجوبون الزقاق والدروب زرافات فرحين ليطوفوا على البيوت منشدين الأرجوزة الشهيرة "بابا رمضان رمضاني عليك نبيع سروالي"، "تيريرا تيريرا هذا شهر لحريرة" كانوا يرددونها في ليلة شهر الصيام من كل عام، وقد اختفت هذه العادات أو كادت بسبب التلفاز والقنوات الفضائية وتغيرت الأفكار والتقاليد حتى لدى الكبار). كثير من الطقوس الرمضانية اختفت في مدينة البهجة بدءا من "النفافري" وهو رجل يحمل آلة موسيقية طويلة الحجم ينفخ فيها لاستصدار صوت مرتفع وجميل به يتم الإعلان عن موعدي الإفطار و السحور، وقد كان قديما يعبر جميع الدروب والأحياء يطوف على الديار والحوانيت يدعو للناس بالخير ويجمع ما يجود به المراكشيون من شاي وسكر ونقود. عن النفافري يحكي الأستاذ الماطي: (ويصيح النفار بجملته المشهورة: "مبارك هذا الشهر أمالين الدار، عطيونا حق النفار" كانت تسود بعض المعتقدات بين الكثير من الأسر المراكشية بخصوص النفار، ومنها أن ينفخ النفافري بآلته داخل الدار، حتى يسمع صداه في كل أرجائه تيمنا ببركة هذا الشهر الفضيل، وأملا أن تحل فيه عليهم بالبركة واليمن) ويستطرد الباحث بملاحظاته مقارنا بين اليوم والأمس: (الملاحظ اليوم أن هذه الأجواء تراجعت بشكل كبير لدرجة أن الناس لم يعودوا يميزون بين ليلة رؤية الهلال عن غيرها في ظل انتشار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة للتأكد من بداية شهر رمضان، حيث تقضي الكثير من العائلات المراكشية كبقية العائلات المغربية وقتها بعد الفطور أمام جهاز التلفاز وتتابع الحلقات العربية وتحفظ مواعيد بثها عن ظهر قلب…) "النفافري" ليس الظاهرة الموسيقية الوحيدة التي اختفت، بل اختفى "مول الطبل " أي صاحب الطبل أيضا الذي كان يقرع طبله ساعة قبلا الفجر بمثابة "المسحراتي" عند أهل المشرق بحيث إليه توكل مهمة ايقاظ الناس للسحور، وفي الغالب كان رجال كناوة من يقومون بهته المهمة بحكم توفرهم على الآلة الموسيقية طيلة العام، في حين كان أفراد من فرقة الدقة المراكشية من يتكفلون بأداء مهمة "النفافري" في ظل غياب مواسم الأعراس والعقيقة والختان في شهر الصوم والتبتل لله بالعبادات والاعتكاف في المساجد. أما الليالي الأبهى التي تتألق فيها الآلات الموسيقية في شهر رمضان بمراكش، فظلت ليلة السابع والعشرين حين تصاحب ترانيم "الغيطة" و " النفار" و "الطبل" الاحتفال بالصيام الأول للأطفال، الذين ظلوا ينتظرون بشغف حلول هذه اليلة التي يعدونها مقياسا لمعرفة مدى قوتهم ومعها يعدون أنفسهم كبارا، وقبل آذان المغرب يرتدون ملابس تقليدية جديدة، ويزفون الى موائد الإفطار كعرائس يدخلون قفص الرشد الذهبي وبعد التراويح تعلو أصوات الآلات الموسيقية الثلاث إعلانا على انطلاق طقوس الفرح بنضج الأطفال واقتراب إنهاء شهر النغفرة والرحمة والعتق من النار. طقوس بدأت تنقرض أمام اكتساح العولمة وضيق وقت الصائمين وانشغالاتهم اليومية لكسب قوت العيش، وبدأت تظهر بدائل الفرح الفاتر وسط برود مشاعري لم تسلم منه آلات الموسيقى المراكشية التي ظلت عنوان بهجة مدينة السبعة رجال.