المصادر التاريخية تكشف صعوبة كتابة تاريخ حِرَفِيّ اسمه «النفار» همّشه المؤرخون في اختياراتهم. و»النفار» تختلف أسماؤه، غير أن صفته واحدة، فهو الشخص الذي بقي متشبثا بحرفة في خبر كان، ومهنة صارت جزءا من الماضي، وتعيش أيامها الأخيرة، بعدما داستها عجلات التطور وانتهى عمرها الافتراضي. وتعتبر مهنة «النفار» في المغرب جزءا من التراث الشعبي القديم المرتبط بشهر رمضان. وكغيرها من المدن العتيقة بالمغرب، تحتفظ مدينة آسفي بعادات وتقاليد خاصة بكل مناسبة، قد تلتقي وتختلف مع عادات وتقاليد المدن الأخرى. ومن مظاهر الإرث الرمضاني التقليدي بآسفي شخصية «النفار»، أو ما يعرف باسم «المسحراتي» عند أغلب الدول العربية. والمشهور عن «النفار» هو ذلك الرجل الذي يسير في عتمة الليل فجرا في الشوارع والحارات بهدف إيقاظ الناس قبل صلاة الفجر، حيث تسمع المزمار أو ضربات الطبل بتناغم حميل وهي تتراقص على إيقاع رمضاني مفعم بالحنين، تعبر عن فحوى عمل الرجل الذي ينطلق في الطرقات بخطى وئيدة تنسجم مع الإيقاع. وتعد مهنة «النفار» المهنة الوحيدة في المغرب التي يعمل صاحبها شهرا واحدا في السنة، ثم يتوارى عن الأنظار بمجرد الإعلان عن يوم الفطر. وقد ارتبطت هذه الحرفة لعقود بقدوم ليالي رمضان، وظلت ممارستها ملتصقة بالتطوع وإيقاظ النيام لتناول وجبة السحور، مع تفعيل جولات للحصول على هدايا وإكراميات، نظير شهر كامل من التطوع. وفي الوقت الذي لم يعد للنفار وجود في العديد من المدن المغربية، بعد أن تقلص دوره أمام وسائل أخرى يعتمد عليها للاستيقاظ مع ظهور الساعات المُنبهة والهواتف الذكية وتطور وسائل السمعي البصري من مكبرات الصوت والراديو والتلفاز و«البارابول»، مازال «النفار» يواصل نشاطه الرمضاني الموسمي في بعض أحياء جنوبآسفي، بعدما أصبحت مهمة مصادفة «النفار» خلال الساعات الأخيرة التي تسبق الفجر وموعد الإمساك صعبة إن لم نقل مستحيلة ببعض الأحياء بآسفي. و«النفار» بآسفي تختلف أسماؤه، فهناك: 1_ « الغياط» 2_ « النفار» 3_ « الطبال» 1_ « الغياط»: هو الذي يستعمل مزمارا من الحجم الصغير يسمى «الغيطة»، يداعب جوانبه المثقوبة بأصابعه العشرة. و«الغيطة» هي آلة موسيقية مغربية شبيهة بالناي، إلا أنها أكبر حجما، ذات مخرج واحد مفتوح على صدره عدة ثقوب، ويتدرج الأنبوب في الإتساع لينتهي طرفه ببوق على شكل جرس. وعند العزف عليها تحدث نبرا حادا، وهي آلة تناسب العزف في الهواء الطلق، حيث تعتبر مصدر السعادة والبهجة والسرور في المغرب. وللغيطة أحجام مختلفة الأطوال والاتساع، ويصدر كل حجم صوتا مختلف الحدة والغلظة، فكلما زاد طول الأنبوب واتسع، زاد صوته غلظة، والعكس بالعكس. والنفخ على هذه الآلة الموسيقية يحتاج إلى نفس طويل وقوة تحمل كبيرة، ويظهر ذلك جليا في تعابير الوجه وعروق الرقبة لدى العازف. ويمكن للغياط والطبال وحدهما صناعة حفل متكامل بدون أي أدوات موسيقية أخرى. ويتم صناعة «الغيطة»، في مدينة وزان، فهي الأشهر في صناعتها داخل المغرب. «وفي بداية عهد الراحل الحسن الثاني كانت بشرى رؤية الهلال تنطلق من القصر الملكي بالرباط، إذ كان يصعد إلى سطح القصر عازف «الغيطة» ذائع الصيت آنذاك في العدوتين (الرباطوسلا)، «الكمرة» فينطلق بإنشاد مقطوعات مشهورة، وقد عرف بإتقانه الكبير للعزف على «الغيطة»، كيف لا وهو «غياط» القصر. وبعد ذلك دأبت التلفزة المغربية على بث صور «الكمرة» وهو يعزف على «الغيطة» قبل الإعلان عن بشرى ثبوت رؤية الهلال. وقد دام الحال على هذا المنوال لمدة سنوات عديدة، لدرجة أصبح ظهور «الكمرة» بتلفزة البريهي مرتبطا ببشرى قدوم رمضان أو الإعلان عن نهايته وقدوم عيد الفطر» . (هشام ناصر «طقوس رمضان عند العلويين: من مولاي إسماعيل إلى محمد السادس» موقع أنفاس بريس) 2_ «النفار»: وهو الذي يحمل مزمارا طويلا على الأرجح يتجاوز طوله مترا، ويتكون من ثلاث أو أربع قطع نحاسية مفككة، يتم تجميعها وتصير عبارة عن قضيب، يضيق من الجهة التي ينفخ فيها ويتسع قليلا كلما اقترب من جهة البوق، حيث يرسل به نافخه صوتا قويا يعلم الناس بالقيام والاستعداد للسحور والصلاة. فتراه ينفخ حتى تنتفخ أوداجه، وتتحول عند النفخ إلى شبه كرتين ملتصقتين بوجهه. والنفير أو البوق آلة مشهورة خصوصا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، فقد تم استخدامه في الوظائف العسكرية، واليوم في المغرب يستخدم عند طائفة عيساوة. وفي هذا السياق يشرح مصطفى واعراب، الباحث في الإسلام الشعبي، أن أصول آلة النفير تعود إلى الأندلس التي عرفتها منذ القرون الأولى للهجرة، لكنها لم تنتقل إلى المغرب إلا في العام 725 هجرية، خلال فترة حكم السلطان أبو عنان بن أبي الحسن، الذي شيد ثلاثة أبراج بمدينة فاس للبواقين، أي أصحاب البوق، الذين كانوا يستخدمون هذه الآلة للتحذير أو التعبئة. «ويبقى من أشهر الأبراج التي استعملت لغايات غير عسكرية أو المراقبة، « برج مرصد التوقيت «، قرب جامع القرويين عند مدخل سوق الشماعين، الذي أمر بتشييده أبوعنان المريني في منتصف القرن 14 للميلاد، وكان العلماء والمراقبون يرصدون من خلاله أهلة أشهر السنة القمرية لضبط الأوقات الشرعية للعبادة، خاصة أمام توفره على أسطورلاب وساعة مائية وضعها به العالم الجاي. وكان هذا البرج الذي أهداه السلطان رشيد العلوي ساعة حائطية، ملجأ «النفار» و»الغياط»، لإعلان ساعة الإفطار وصلاة الفجر وإيقاظ الصائمين لتناول وجبة السجور في رمضان، قبل أن يسمح علماء القرويين باستعمال صوامع المساجد لأجل ذلك، ليكون بذلك هذا البرج الوحيد بالمدينة الذي استعمل لأغراض غير عسكرية ولعب دورا دينيا عكس باقي الأبراج الثمانية الأخرى». (حميد الأبيض «نفائس فاس العتيقة: أبراج حكام فاس للمراقبة والرصد» موقع جريدة الصباح). 3_ « الطبال»: فهو الذي يقرع الطبل. و الطبل عبارة عن أسطوانة تتباين في قطرها، يشد على كل وجه من وجهها رق من الجلد. ونرى عازف الطبل يعلقه على إحدى كتفيه بحبل أو بحزام، ويكون الطبل مسنودا على بطن العازف، ويضرب العازف على الوجه الأيمن للطبل ضربات ثقيلة وعلى الوجه الأيسر ضربات خفيفة. وتسمى الجلدة التي يتم القرع عليها بجلدة الضرب، والجلدة المواجهة لها بالجلدة الرنانة. والطبل في المغرب كما في الوطن العربي لا يغيب عن مناسبة، كما لا يغيب عن فرقة موسيقية، لأن المغاربة يؤثتون بايقاعات آلة الطبل أفراحهم ويستقبلون زوارهم في مناطق سياحية عديدة، وعلى إيقاعه تتحرك الأجساد في رقصات شعبية في الأعراس وأخرى صوفية كما عند اكناوة. والطبل كان يستعمله الموسيقيون المتجولون، وكان عادة افريقية قديمة في السودان انتقلت إلى المغرب في عهد المرابطين. واعتبر ابن خلدون حضارة الموحدين حضارة طبول، إذ اعتبر قرعها من شارات الملك الأساسية تضاف إلى رفع الرايات والنفخ في الأبواق لارهاب العدو. فللطبول وطأة خاصة في الفضاء السمعي البصري للمغاربة. ومن المعلوم أن الطبل يعتبر من الآلات التي لها صوت قوي يسمع من أماكن بعيدة، لذلك كثيرا ما استعمله البشر في المعابد والأعراس والاحتفالات والحروب، وفي هذا الصدد يقول المثل المغربي «بْحَالْ الطْبَلْ جُوفُو خَالِي وصُوتُو عَالِي»، ويضرب المثل للمرء الثرثار الكثير الكلام الذي لا ينقطع عن الحديث وهو فارغ من الداخل، ما ينقصه عمقا يصرفه طولا متريا باللسان. وقد وردت في كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع قصة تحت عنوان «الثعلب والطبل»، وهي من أشهر القصص التي علمتنا منذ الصغر أن ألا نغتر بالجثة العظيمة، فمقياس النفع لا يكون بالحجم. تقول القصة «زعموا أن ثعلبا أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة، وكلما هبت الريح على قضبان لشجرة حركتها، فضربت الطبل، فسمع له صوت عظيم. فتوجه الثعلب نحوه، فلما أتاه وجده ضخما، فأيقن بكثرة الشحم واللحم، فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف، لا شيء فيه، قال: لا أدري.. ربما أتفه الأشياء أجهرها صوتا وأعظمها جثة». وللطبل تاريخ طويل ضارب في عمق الأزمنة، فقد دلت الاكتشافات الأثرية أنه يعود إلى ستة آلاف سنة، استنادا إلى الطبول الفخارية التي تم اكتشافها في مورافيا، وهي منطقة جبلية في شرقي جمهورية التشيك،كما أن له دور بارز في موسيقى الشعوب، فقد تم استخدامه منذ أكثر من 4500 سنة في المعابد، لبعث الرهبة والخوف في نفوس زائريها، واستخدمته الجيوش لبث الشجاعة في نفوس الجنود وهم يواجهون الأعداء. وفي يومنا هذا تخصصت فرق مغربية كثيرة بالقرع على الطبول، وقد بدأت الفكرة عند بعض الطلبة الجامعيين سنة 2005 قبل أن تتبلور بشكل أكبر في عام 2009 ليصبح المغرب يحتضن أول مجموعة عربية لقرع الطبول الحضرية. كما دأبت مدينة سلا على إحياء فعاليات مهرجان قرع الطبول منذ 2015 لاشاعة هذا النوع من الفنون و مد جسور التواصل بين الفرق الممارسة له من كل أنحاء المغرب . ويبقى اسم «النفار» هو الأشهر عند المغاربة، حيث أن لكل حي «نفار» خاص به أو أكثر حسب مساحة الحي وكثرة سكانه، فهو الشخص الذي لا يحلو شهر رمضان من دونه، وكأن عمله الرمضاني تتمة للوحة رمضانية لن تكتمل إلا بوجوده. ومهمة «النفار» ليست بالسهلة وغير متأتية لأي كان، كما يخيل للبعض، لارتباطها بإحدى الطقوس الرمضانية التي يبدأ بها الصوم وهو السحور، ويفترض أن تتوافر في «النفار» شروط ومواصفات لا بد أن يتمتع بها حتى يحظى بشرف تولي هذه المهمة، فيجب أن يكون ذا ثقة عند الناس، وحسن السمعة. وقديما كان يشترط في صاحبها المواظبة على الصلاة، وطهارة النفس أو حسن السلوك، فضلا عن إلمامه بأصول مهنة «النفير»، و أن يكون حافظا عددا من التراتيل والأناشيد وعاشقا لها وضابطا لخريطة التجوال. وتتطلب هذه المهمة قدرة جسدية و تحمل مشقة الطواف عبر الأحياء والأزقة. وعلى الرغم من أن وسائل التكنولوجيا الحديثة أثرت على «النفار» وجعلت دوره في طريق الانقراض، فإنه لا يزال بآسفي يصر على المقاومة ويتمسك بعاداته، رغم أنه يدرك أن غالبية الناس لم تعد في حاجة إلى خدماته، خاصة أن الجيل الحالي يسهر حتى وقت متأخر من الليل لمتابعة القنوات الفضائية، وبالتالي الحاجة للنفار بدأت تتراجع، إلا أنه يفعل ذلك من أجل الحفاظ على هذا الموروث الشعبي من الاندثار، وهو موروث لازالت له مكانة عند بعض الناس، بما يحركه فيهم من نوستالجيا ومتعة، وما تضفيه دقات طبل «النفار» في شهر رمضان من نكهة وطابع خاص، تنضاف لصوت المدفع و «الزواكة» كما تسميها ساكنة آسفي، إيذانا بالإفطار أو الإمساك. ومصطلح «النفار»، هو اسم يدل على آلة النفخ النحاسية الطويلة الشهيرة، كما يدل في الوقت نفسه على صاحبها وعازفها. أما أصلها العربي فهو النفير. وتعرفه القواميس بالبوق الذي يضرب لينفر الناس، أي يستنفرهم، ويعجلهم للسفر والرحيل أو للجهاد، ومن ذلك قوله تعالى في كتابه الحكيم: «انفروا خفافا وثقالا». وامتدت اشتقاقات مصطلح «النفار» إلى لغات أخرى غربية كالفرنسية والبرتغالية والإيطالية وغيرها. ففي الفرنسية، مثلا، نجد مصطلح La fanfare وتعني الجوقة النحاسية أو موسيقاها. و«النفار» شخصية معروفة بالتجوال بين الدروب والحواري ينفخ في صور طويل نحاسي، يرسل به صوتا قويا يعلم السكان بالاستعداد لشهر الصيام، ومن حين إلى آخر يوجه فوهة نافوره إلى النوافذ والأبواب، وترى الأطفال من حوله يقفزون ويمرحون، بينما من المارة من يكرمه بالمال أو بقطع السكر والشاي والتمر مرسخين بذلك لسنة حميدة في التضامن والتكافل الاجتماعيين. ومن بين المقولات التي يرددها كل من «النفار» أو «الطبال» وكذلك «الغياط»، نذكر منها «مْبَارَكْ هَذا الشْهَرْ أَمَّالِينْ الدَّارْ، اعْطِيوْنَا حَقْ النَّفَّارْ، لاَ إِلَه إِلاّ اللهْ.. لاَ إِلَه إِلاّ اللهْ رَبِّي وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهْ.. فِقْ تْسَحَّرِ يَا النَّاعَسْ، صَلِّي الفْجَرْ وَنْوِي صْيَامُو، رَا رَمْضَانْ غَادِي، سَعْدَاتْ اللِّي صَامُو وقَامو واعْمَلْ بِحْسَابُو». ويعد بلال بن رباح رضي لله عنه أول «مسحراتي» في التاريخ الإسلامي، حيث كان يجوب طوال الليل لإيقاظ الناس للسحور بصوته العذب، وكان النبي صلى لله عليه وسلم يقول إن «بلال ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»، وكان ابن أم مكتوم هو الذي يتولى أذان الفجر. ومنذ ذلك التاريخ أصبح «المسحراتي» أو «النفار» مهنة رمضانية خالصة. وبحسب بعض الروايات، فقد ظهرت مهنة «النفار» تاريخيا في المغرب بمدينة مراكش في القرن السادس عشر، في عهد السعديين، حيث يروى أن «لالة عودة السعدية (مسعودة الوزكيتية أم المنصور الذهبي) كانت تتجول ذات زوال رمضاني وسط بستانها اليانع بكل ما لذ وطاب من أنواع الفواكه، فلم تنتبه إلا ويدها تمتد لخوخة شهية، تناولتها بلذة وشغف، قبل أن تنتبه إلى كونها في حالة إمساك وصيام. وفي محاولة للتكفير عن هذه الهفوة قررت تسخير وتجنيد أصحاب «النفار»، للصعود فوق جوامع مساجد المدينة، والسهر على عزف أناشيد وتراتيل، تنبه ألحانها الغافلين، وتوقظ النائمين». وفي رواية أخرى تقول أنها «فطرت عمدا في رمضان وندمت ندما شديدا، وهو ما جعلها تحبس كلما تملكه من ذهبها الخالص لفائدة « النفافرية» على أساس أن يقوموا بالدعاء لها ويطلبوا من الله أن يغفر لها». ومن يومها كان «النفار» ينشد على نغمات نفاره « عُودَة كَالَتْ رَمْضَانْ بِالخُوخْ والرَّمَّانْ اغْفِرْ لَهَا يَا رَحْمَانْ «. وقد اهتم الفن المصري عبر التاريخ ب «المسحراتي» ومنهم الشاعر بيرم التونسي، والفنان سيد مكاوي، والشاعر فؤاد حداد، والشاعر جمال بخيث، والفنان ايمان البحر درويش الذين أبدعوا في تقديم «المسحراتي» في التلفزيون المصري. و«النفار» شخصية أقرب إلى الفنان الذي يؤدي دور البطولة على خشبة المسرح، حيث لا تتجاوز مدة ظهوره 30 يوما فقط في ليل رمضان، أما باقي الأبطال فهم الطبلة والعصا أو المزمار، لم يستطع منبه الساعة إلغائه، وهو شخصية لا يكتمل شهر رمضان بدونه، ذلك أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بتقاليدنا الشعبية الرمضانية. وليس «للنفار» أجر معلوم وثابت، غير أنه يأخذ ما يجود به الناس عليه. فقبل الإمساك بساعتين يبدأ «النفار» بالأحياء الجنوبيةلآسفي جولته الليلية، موقظا الأهالي للسحور، وهو يحمل طبلته في رقبته، فتتدلى على صدره أو يحملها بيده، ويضرب عليها بعصا خاصة تحدث أصواتا معروفة، بإيقاع مميز، تعرفه الساكنة ويستيقظون عليه. وخلال النهار يتجول بين الحواري ليطرق خلالها أبواب البيوت، لجمع ما يجود به الناس عليه من نقود أو من خلال إطعامه، كما يبشر الساكنة برؤية هلال العيد، ثم يقوم بجولة أخيرة صباح العيد لجمع «الفطرة» زكاة الفطر أو ما يعرف ب «العيدية»، لأن بعض الناس تراه مستحقا لها. ومعظم من يمارس هذه المهنة الرمضانية بالهواية، لا ينتظرون الحصول على مال كثير من الصائمين، إذ تنتهي الرغبة في الحصول على الحسنات، وفي أحسن الأحوال الاستفادة من الفطرة. وتشكل الطرافة جزءا لا يتجزأ من مهنة «النفار»، إذ لا يكتفي أن يسير لقرع طبلته في الحواري والأزقة والشوارع، لكن يحدث أحيانا أن يعرف أن فلانا نومه ثقيل، فيقف تحت نافذة بيته وقتا أطول، ويصر على مناداته باسمه. وكانت في الماضي قد سادت بآسفي بعض المعتقدات بين ساكنة آسفي مثل أن يطلبوا منه أن ينفخ بآلته داخل البيت، حتى يسمع صدى النفير في كل أرجائه تيمنا ببركة هذا الشهر الفضيل، أو صَبِّ كوب ماء في آلة النفير وتمريرها داخلها، ويسقونها الأطفال المصابين بالتأتأة وتأخر النطق طمعا في شفائهم. وبالرغم من كون «الزواكة» والمدفع ينطلقان اليوم بآسفي لتنبيه الصائمين بموعد الفطور والسحور، يبقى «النفار» شخصية رمضانية تراثية عميقة ومحبوبة، حيث كان قديما يحظى قبل الجميع بفطور لذيذ شهي صباح العيد، عنصره الرئيسي رغائف بالزبدة البلدية أو شفنج مطفي في عسل النحل الصافي الحر وكوب قهوة بالأعشاب الطبية أو كأس شاي بالأعشاب المنسمة. وحرفة «النفار» وإن كانت تظهر وتختفي في شهر رمضان، غير أنها تتجه نحو الانقراض، لأنها لم تعد تؤمن رزق أصحابها، ويكفي اختفاؤه من جل الأحياء الراقية والمتوسطة بآسفي، مع اقتصاره على بعض الأحياء الشعبية التي تصر على تحدي الزمن، كما أن معظم «النفارين» تخلوا في السنوات الأخيرة عن مهنتهم الرمضانية، ومنهم من تحول للعمل داخل مجموعات موسيقية شعبية، ومنهم من امتهن التسول بمزماره أو طبلته داخل الأحياء السكنية وحافلات النقل الحضري والقروي، وقليل منهم ركن مزماره إلى جنب باقي أرشيفه وعتاده المهمل، وبحث عن حرف ومهن أخرى تؤمن له حياة أوفر حظا، إلا أن آلة «النفار» بآسفي لا زالت حاضرة في الكثير من الأهازيج الفلكلورية، كالدقة المراكشية والفرق العيساوية والفرق الكناوية وأداة من أدوات تشجيع الفرق الرياضية،كما بدأت تأخذ دورا متزايدا في الأعراس، حيث يصاحب «النفارون» العرسان في كل تحركاتهم ليلة الزفاف. وفي رمضان لهذه السنة، لم يعد للنفار و«الطبال» و«الغياط» سوى وجود محتشم جدا، في مدن قليلة وأحياء شعبية معدودة، بسبب الحجر الصحي الذي فرضته الدولة في إطار تدابيرها المتخذة لمواجهة الوباء. وفي مقال له بجريدة «الصباح» كتب خالد العطاوي تحت عنوان «لفتيت يعدم النفار» جاء فيه أن وزير الداخلية كشف أمام المغاربة عن «قسوة قلبه وقبضته الحديدية، وشدة شكيمه، حتى «طبخ» لائحة، لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها، تتضمن مهنا، وحدها يسمح لأصحابها بالتنقل يوميا في رمضان، من الساعة السابعة مساء حتى الخامسة صباحا، ولم يلتزم لفتيت بتقاليد وزراء الداخلية المتعاقبين التي تلزمهم بدراسة التفاصيل الدقيقة في حياة المغاربة، قبل اتخاذ القرار، فتغاضى عن مهن عتيقة يستأنسون بها في رمضان، واكتفى بأخرى بدعوى أهميتها الاقتصادية والاجتماعية .. لن يختلف أحد في أهمية الفئة الأولى من اللائحة، فدورها مهم في مواجهة كورونا، لكن «الشيطان» تسرب إلى الفئة الثانية التي تحتاج إلى شهادة موقعة ومختومة من قبل رؤساء المؤسسات المعنية تثبت عملها الليلي، فذكر العاملين في مصالح المداومة بالإدارات العمومية، واخترع نوعا جديدا من الصحافيين قال إنهم أطر بالمؤسسات الإعلامية العمومية والإذاعات الخاصة، وعرج على فرق التدخل بقطاعات الماء والكهرباء والاتصالات، وتشبث بالأمن الروحي للمغابة فسمح بتنقل القيمين الدينيين المكلفين برفع الأذان داخل المساجد، وأشفق على البطون الجائعة، فأوصى بمرور العاملين بالأنشطة ذات الارتباط بالمعيش اليومي.. (لكنه) تجاهل مهنة «النفار» التي يصنفها الباحثون في موروث تقاليد المغاربة.. ناهيك أن فئات كثيرة تقتات من عائداتها ودورها الاجتماعي في التكافل والتضامن. لن يغفر، كل من اعتاد على إيقاع «النفار» في رمضان، للفتيت فعلته، بل ستحمله الأجيال المقبلة مسؤولية وأد تراث شعبي تقليدي يمنح للصائمين الطمأنينة والأمان، حتى ارتبط بذاكرة جميع الأجيال ل «قدسية مهنته وبدوره الاعتيادي في إيقاظ الناس للسحور وتنبيه الصائمين عبر الأزقة والشوارع وتبشريهم بقدوم عيد الفطر، ثم يختفي».. سيكتب التاريخ أن الحكومة الحالية تبخس المهن الشعبية التراثية التي تدخل البهجة والسرور، وأن الحجر الصحي في رمضان أثبت سوء تقديرها، ربما لأن وزراءها يضبطون أوقاتهم في الشهر الفضيل على أصوات الهواتف، حتى نسوا لحن «النفار الجميل». (*) كاتب وباحث