جاء رمضان في عز القيظ الطقس الحار، تماما كما صمناه قبل ثلاثة وثلاثين عاما، وسنصوم نحو خمس عشرة ساعة، وهي بالطبع مناسبة صعبة على أولائك الذين لا يريدون حلاوته ويدعون للإفطار علنا ، ولكنها سهلة وميسورة للذين يريدون تقوى وطاعته لله تعالى، عاد رمضان من جديد بالحنين للماضي والشوق للأيام الخوالي، وهذا الحاضر سيصبح ماضيا، ننسى الماضي ونعيش الحاضرلأنه بالتالي سيصبح ماضيا والمستقبل حاضرا.. وهكذا ندور في فضاءات هذا الفلك فتمر عجلة الزمن وتتركنا في تأمل وتفكير وحيرة، فكما تعرفون السنة الهجرية تنقص عن الميلادية بأحد عشرة يوما كل سنة، وهذا يجعلنا نعود إحدى عشر يوما كل عام واحد، وبالتالي سيزحف توقيت رمضان لهذه السنة ليكون في الأسبوع الثاني من شهر غشت وسيفعل ناقصا احد عشر يوما العام القادم وهكذا دواليك ليتمدد أكثر في فصل الصيف منتقلا من غشت إلى يوليوز ومن يوليوز الى يونيو، وهذا يعني أن من لامس الخمسين أو الستين من عمره قد عاصر رمضان في فصل الصيف منذ ثلاثة و ثلاثين سنة ، حينما كان عمره في حدود العشرين سنة أو أكثر، وهي قمة المراهقة و الشباب، وهاهو رمضان الكريم يعود من جديد في نفس الفصل، وتكررت علينا هذه المناسبة بالحنين الذي نملكه وسيملكه شبابنا لاحقا، كبار السن يقولون إنهم استمتعوا به أيام زمان رغم قلة الإمكانيات و يقولون إنهم لا زالوا يستمتعون به بالرغم من الكثير من العادات والطقوس التي بادت أو بدأت في التلاشى تدريجيا بفعل التقدم الحضاري وتغيير نمط العيش وازدياد التكاليف وغلاء المعيشة. ثمة أمور وثيقة الصلة برمضان أيام زمان لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتنا.. نقف متأملين ومسترجعينً إياها مع حلول كل رمضان جديد.. فما أن يهل هلاله حتى ترى البسمة ترتسم على شفاه الأطفال والكبارعلى حد سواء، قديما كان أهل مراكش يخرجون إلى الشوارع في ترقب مقدم هذا الشهر الكريم ، تمتلئ سطوح المنازل بالرجال والأطفال والنساء وتتجه الأنظار نحو السماء حتى إذا رأوا الهلال تهللت أساريرهم وابتهجت قلوبهم لتبدأ الهتافات والزغاريد تعبيرا عن الفرحة بقدوم هذا الشهر و كلنا نتذكر نحن البهجاويون الأرجوزة التي كنا نقولها ونحن أطفالا نجوب الزقاق والدروب فرحين، نطوف على البيوت منشدين بأعلى أصواتنا، مناجين الخالق عز وجل بقلوب تعمرها البساطة و السماحة " بابا رمضان رمضاني عليك نبيع سروالي"، "تيريرا تيريرا هذا شهر لحريرة" كنا نرددها في أول ليلة شهر الصيام من كل عام ثم بعد ذلك نطلب من آبائنا ان يوقظونا للسحور معهم، أما اليوم فقد اختفت العادات أو كادت بسبب التلفاز والقنوات الفضائية وتغيرت الأفكار والتقاليد حتى لدى الكبار، كان الناس يبداون بزيارة بعضهم البعض ليباركوا حلول الشهر الكريم، ومن العبارات المتدوالة في هذه المناسبة قولهم: شهر مبارك وسعيد ، الله يدخلوا بالصحة والعافية ونحو ذلك من العبارات التي تقال باللهجة المراكشية والتي تعبر عن تمني الناس بعضهم لبعض الخير والصحة والعافية لرمضان ، وتبدأ جولة صاحب النفار عبر كل دروب الأحياء ينتقل فيها النفافري من دار إلى دار ومن حانوت إلى حانوت يدعو للناس بالخير والبركات لجمع ما يجود به الناس عليه من شاي وسكر أو ما تيسر من الدريهمات، ويصيح النفار بجملته المشهورة: مبارك هذا الشهر أمالين الدار، عطيونا حق النفار، وكانت تسود بعض المعتقدات بين الكثير من الأسر المراكشية بخصوص النفار، ومنها أن ينفخ النفافري بآلته داخل الدار، حتى يسمع صداه في كل أرجائه تيمنا ببركة هذا الشهر الفضيل وأملا أن تحل فيه عليهم بالبركة واليمن ، والملاحظ اليوم أن هذه الأجواء تراجعت بشكل كبير لدرجة أن الناس لم يعودوا يميزون بين ليلة رؤية الهلال عن غيرها في ظل انتشار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة للتأكد من بداية شهر رمضان. رحم الله زمان حيت كنا نتوق بشكل كبير لرؤية الهلال، رمضان في طفولتنا وشبابنا كنا نتمنى قدومه على أحر من الجمر، وكان الخير وافرا، لم نكن نتهاون أو نعطل أعمالنا كما يفعل بعض من رجال وشباب ونساء هذه الأيام، رمضان اليوم اختلف كثيراً، حيث تقضي الكثير من العائلات المراكشية كبقية العائلات المغربية وقتها بعد الفطورأمام جهاز التلفاز وتتابع الحلقات العربية وتحفظ مواعيد بثها عن ظهر قلب، في أيام رمضان كان الليل يغدو كالنهار، كله حركة وحياة في أجواء من المشاعر الدينية العميقة، لا يكاد المصلي يجد مكانا له داخل مساجد مراكش على كثرتها، حيث تمتلئ عن آخرها بصفوف المصلين، في مشاهد جليلة تجعل الإنسان المراكشي يتمنى أن تكون أيام الله كلها رمضان وبعد صلاة العصر يجتمع المصلون لقراءة القرءان، وتقام الدروس الدينية في المساجد بعد صلاة الظهر مباشرة، ومن العادات انه حين يصل وقت آذان المغرب تصبح الأزقة خالية من المارة وتمتلئ المساجد للصلاة ويتوجه الناس إلي بيوتهم قصد الإفطار،تتبارى النسوة المراكشيات في إظهار براعتهن في إعداد الأكلات الخاصة التي تعودت عليها الأسر في رمضان فيكون من أهم الوجبات التي يبدأ بها المراكشيون إفطارهم هي مشروب الحريرة مع التمر وحلوى الشباكية عكس الكثير من المدن المغربية التي يفضل أناسها الإفطار بكاس الحليب والقهوة أو عصير فواكه وما شابه ذلك ، فلمائدة الإفطار المراكشية نكهة خاصة لدى العائلات التي تصر على الحفاظ على تقاليدها وعاداتها، تتفنن النساء المراكشيات في إعدادها بكل ما لذ وطاب وان اختلفت من مائدة لأخرى حسب المستوى الاجتماعي والمادي لكل عائلة، وعادة ما يجتمع الأهل والأقرباء لتناول الإفطار في بيت الوالدين وبعدها تتداول الزيارات بين أفراد العائلة لصلة الرحم وتمتد إلى ألأقرباء والأصدقاء، وللفقراء والمحتاجين باب واسع في هذا الشهر المبارك حيث ترسل وجبات الفطور إلى كل محتاج يعرفه الناس و أهل الحي، ويتبارى المحسنون في إحسانهم مقتدين بقول الرسول الكريم" ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم"، ومن العادات أيضا إحياء ليلة السابع والعشرين من رمضان، حيث يعتكف كثير من الناس في المساجد تلك الليلة لإحيائها وتبخير المنازل بأطيب البخور وأنواعها المختلفة لقدسية هذه الليلة في نفوس المراكشيين، ويتناولون طعام العشاء ب"الثريد" وهو عبارة عن أوراق رقيقة من عجين القمح تسمى في مدن أخرى ب"الرفيسة" ممزوجة بمرق الدجاج، وقد ارتبطت هذه الليلة بذاكرة المراكشيين بمجموعة من الأعراف والتقاليد من قبيل احتفال بالصيام الأول للأطفال، فالأطفال من اشد الفئات انتظارا لقدوم هذه الليلة التي يعدونها مقياساً لمعرفة ان كانوا كباراً أم لا من خلال تنافسهم على الصيام فبعضهم يصوم حتى يقال أنه أصبح كبيراً والبعض الآخر يصوم أمام أقرانه و يأكل في الخفاء، فالعادة بين الأطفال في رمضان أن القوي فيهم هو من استطاع أن يصوم أطول وقت، وقبل آذان المغرب يرتدون ملابسهم الجديدة ملابس تقليدية في الغالب، وعلى الرغم من تعدد السهرات الرمضانية إلا أن سماع النفار في المئذنة والغيطة هو بمثابة المنبه لقدوم وقت السحور، يتناول المراكشيون في سحورهم المشروبات والأطعمة التقليدية الخاصة بهم أشهرها "الرغايف" و"المقروت" مع كؤوس الشاي المنعنع كأشهر الأكلات الشعبية ومن ثم الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، وعن أصل إيقاظ النفافرية للناس أوقات السحور تحكي الروايات الشفهية بمراكش انه يحكى عن لالة عودة السعدية أم المنصور الذهبي أنها فطرت يوما عمدا في رمضان وشعرت بالندم فوهبت كل ما تملك لفائدة النفافرية ليدعون لها من الله جل جلاله بالمغفرة والتوبة ومن يومها كان النفافري ينشد على نغمات نفاره "عودة كالت رمضان بالخوخ والرمان اغفر ليها يارحمان" بهذه الحال يمر شهر رمضان في مراكش ، طقوس خاصة تميز هذه المدينة عن غيرها من المدن المغربية وان كانت الكثير من العادات والطقوس بدأت في التلاشي فانك مع ذلك تحس أن شيئا ما في طابعها وتقاليدها الأصيلة قريبة منك خاصة أسلوب الحياة البسيط في هذا الشهر الفضيل بل و في كل شهور السنة وفي الأحياء القديمة حيث تمتلئ قلوب الناس فيها بالبهجة والحبور، إنهم هنا يعيشون حياة البساطة بلا قناع ولا زيف، وما أن يشرف رمضان على الانتهاء حتى يرتسم الحزن على الوجوه لرحيل شهر الرحمة والمغفرة فتنساب الدموع فراقاً لهذا الشهر الفضيل وشوقا للقاء رمضان آخر بإذن الله.