مع حلول شهر رمضان من كل سنة، يفتح أطفال المدن العتيقة ذات العمق التاريخي أعينهم على شخصيات تخترق أصوات آلاتها الموسيقية أسماعهم، بشكل استثنائي خلاله، تزيدهم شوقا إلى موعد نفيرهم وغيطهم وتطبيلهم، ليعم الفرح والمرح والاستمتاع أكثر بأجواء ليالي شهر الغفران. هم أشخاص توارثوا هذه المهنة خلال شهر رمضان، ووهبوا أنفسهم لها، بالرغم من زحف الحداثة وإكراهات التطور الذي عرفته مدينة مراكش، باعتبارها عاصمة عالمية للسياحة؛ لكن هذا التقليد لا يزال مصرا بفضلهم على الحضور ضمن الليالي الرمضانية، ما يمنح عاصمة المرابطين خصوصية وفرادة، كحاضرة لها امتداد حضاري عميق. فما يميز رمضان بمدينة سبعة رجال هو تلك السمفونية التي تتردد بالتناوب خلال لياليه، من لدن كل النفافري والغياط والمهلل، يتعاقبون في نظام مدروس على امتطاء صهوات صوامع المساجد، ليعزفوا بأعذب الألحان والانغام الروحية، فتسمع الغياط يردد بآلته الموسيقية "الغيطة" مرثية "السيف البتار" لسيدي أحمد بناصر: يا ربنا يا خالق الأنفاس حل بيننا وبين شر الناس يا ربنا يا خالق العوالم حل بيننا وبين كل ظالم فيأتيه جواب "النفافري" بمعزوفة شعبية تعلل صعوده إلى المئذنة قائلا: عودة كالت رمضان بالخوخ والرمان اغفر ليها يا رحمان. فما أصل الحكاية؟ وكيف ظهر هذا الطقس ببهجة الجنوب؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن ضرورة الحفاظ على التراث كرأسمال شفهي ولامادي؟ أسئلة وضعتها هسبريس على أهل هذه الحرفة، التي تنطق تاريخا وتتنفس بين أزقة المدينة الحمراء وحوماتها. التراث الرمضاني ذاكرة، هكذا كان جواب عبد الرزاق بانا، عن جمعية أهل المغنى، مؤكدا على ضرورة المحافظة عليه من الضياع، كما تركه الأجداد؛ لأنه "جزء من ماضينا"، مستدلا بما يتم ترديده من بردة وهمزية، خلال لوحات كل من النفافري والغياط الإبداعية. لكل مهمته إن الدور المشترك بين كل من" النفار" و"الغياطّ" و"الطبال" هو إيقاظ الناس للسحور، وقبله تنبيههم إلى تحضير ما يعرف عند العامة ب"المخمرة"؛ ذلك أن الثلاثة لهم موعدان في الليلة: الموعد الأول يكون بعد تناول وجبة الفطور وأداء صلاة التراويح، حيث يصعدون المئذنة بالتناوب للتطبيل والتزمير، وإخبار السيدات على وجه الخصوص بأن وقت السحور يقترب. وإذا كان دور كل" النفافري" و"الغياط" غالبا ما ينحصر في المساجد، فإن" الطبال" يتحرر من قيود المكان في فترة السحور؛ فيخرج إلى الأحياء مشيا على الأقدام، يطبل بالأزقة والدروب، ليكون أقرب ما يكون للبيوت والمنازل، التي يكون أفرادها قد استسلموا للنوم أو ما زالوا ساهرين، منطلقا من فرضية سهو الناس عن زمن السحور. يحكى أن أصل الغيطة يرجع إلى لالة عودة السعدية أمّ المنصور الذهبي، يتابع "بانا"، الذي أورد أن "الرواية تقول إنها أفطرت يوما عمدا في رمضان، وشعرت بالندم، فوهبت كل ما تملك لفائدة "النفافرية"، ليدعوا لها الله جل جلاله بالمغفرة والتوبة، ومن يومها كان النفافري ينشد على نغمات نفّاره "عودة كالتْ رمضان بالخوخْ والرّمانْ اغفر ليها يا رحمان". النفافري يقوم صاحب (النفار)، بعد صلاة التراويح، بجولات تمر من كل دروب الأحياء، من دار إلى دار ومن حانوت إلى حانوت، يدعو للناس بالخير والبركات لجمع ما يجود به الناس عليه من شاي وسكر أو ما تيسر من الدريهمات، مرددا جملته المشهورة: "مبارك هذا الشهر أمالين الدار، عطيونا حق النفار"؛ فيما يطلق الغياط العنان لحنجرته لتبدع تقاسيم قبل بداية صلاة التراويح. وأضاف المتحدث ذاته أن "النفافري" ينطلق عمله من بداية شهر رمضان إلى 21 منه، ليوقظ الناس للسحور، باستعماله مقاطع مختلفة، حسب ساعات عمله والحومات التي يزورها، كأن يوظف مقطع "مربضا وقطاعة وعودا والقيام"؛ وهي تقاسيم موسيقية للنفار. في الزمن الغابر لأهل مراكش، كانت للنفافري قيمة تتجلى في تقديره واحترامه وتوفير سحوره. كما أن النفافري كانت له قواعد يخضع لها، فبعرصة هيري مثلا، إذ لا يمكن للنفافري الذي يوجد على يمين الحومة أن يتلقى أية هدية أو صدقة من سكان يسارها، والأمر نفسه لمن يوجد جهة اليسار. الغياط يشرع "الغياطّ" في العمل بالتناوب إلى جوار "النفافري"، بصعود صوامع المساجد، لإنشاد تقاسيم البردة والهمزية، قبل صلاة التراويح، يروي إدريس بانا لهسبريس، مشيرا إلى أن للظاهرة قواعد تفرض أن يبدأ المعلم" الغيس" من مسجد ابن يوسف، لينطلق الآخرون كسي بوبكر بباقي المساجد. وبمجرد ما يعطي المعلم "الغيس" الانطلاقة من مسجد ابن يوسف، يشرع باقي" المعلمين"، كيوسف الصريدي بمسجد الكتبية، وسي بوبكر بالمسجد الكبير بسيد أيوب وسعيد متضرع بمسجد بنصالح، والمرحوم الفضيل بمسجد المواسين، الذي أشار إلى أن هذه الظاهرة عرفتها أيضا مساجد خارج سور المدينة العتيقة، كمسجد أطرحي و"بولخصيصات" بالمشور السعيد، يختم مصدر هسبريس سابق الذكر.