ثلاثة مبادئ توجيهية المبدأ الأول: نهاية السياسة مقولة زائفة لكن الشرعية الانتخابية لا تكفي في غياب الإنجاز التنموي، وفي بيان المقصد الحقيقي من ذلك يستدرك الملك شارحا مقولته كما يلي: "عندما نجعل كسب معركة التنمية محور الرهان الانتخابي، فإن ذلك لا يعني تجريده من طابعه الديمقراطي، أو الأخذ بالمقولة الزائفة لنهاية السياسة، كلا" ، ثم يؤكد بشكل لا لبس فيه على أهمية الفاعل الحزبي من خلال التركيز على "ضرورة تقوية العمل السياسي، القائم على المشاركة المسؤولة للأحزاب الجادة في حسن تدبير الشأن العام على أساس نتائج الاقتراع". وعلى هذا الأساس يظهر بجلاء أن الشرعية الانتخابية في المنظور الملكي لا تكفي إذا لم تكن مشفوعة بالإنجاز التنموي ،كما أن آلية الانتخابات ليس غاية في حد ذاتها، والأمر كذلك لأن احترام الإرادة الشعبية يقتضي "نبذ عقلية ديمقراطية المقاعد والالتزام بفضيلة ديمقراطية التنمية". المبدأ الثاني: الرؤية والمقاربة في إدارة الشأن السياسي حكماتيةوليست أمنية، في هذا الموضوع الحساس يحمل الملك بشدة على ذلك البعض الذي يوحي "وكأن الأمن هو المسؤول عن تسيير البلاد، ويتحكم في الوزراء والمسؤولين، وهو أيضا الذي يحدد الأسعار، الخ وهذا غير صحيح تماما"… بالمقابل فإن النهج المتبع هو نهج حكماتي أي ينهل من معين الحكامة السياسية الجيدة وفق المتعارف عليه عالميا لكن من منظور مغربي-مغربي، أي باعتبارها ذلك "النهج القويم، لإعادة الاعتبار للعمل السياسي النبيل، والارتقاء بأداء المؤسسات إلى مستوى مكانتها الدستورية المتقدمة، وذلك بإرساء ممارسة سياسية جديدة، قوامها النجاعة والتناسق والاستقرار المؤسسي، ونهوض كل سلطة بمسؤوليتها… المبدأ الثالث: التحلي بفضيلة التواضع والاعتراف بأوجه القصور، ذلك أن المضي في سبيل استكمال بناء المشروع المجتمعي الديموقراطي "لا يعني أننا لم تعترضنا عوائق، أو تعتري مسيرتنا أوجه قصور وتعثرات"، ولكن هذا الاعتراف يقابله العمل الحثيث من أجل "استكشاف الحلول والموارد، لاستكمال بناء هذا المشروع المجتمعي الديمقراطي". وبالتالي نحن أمام الحاجة للوعي بأهمية إزالة العوائق وليس فقط تعزيز المكاسب، وذلك من خلال "الانكباب الجاد على ...التقويم المستمر لما قد يشوبه من اختلالات؛ والإقدام على ما تقتضيه التحولات من إصلاحات جريئة وعميقة". بعض النماذج والتجليات وسؤال اللمسة التكنوقراطية تغييرات حكومية مجسدة للتفاعل الملكي مع نبض المجتمع: لقد تجسد النهج الملكي المتفاعل مع نبض المجتمع في عدة مناسبات لعل أكثرها إثارة وتفاعلا مع الرأي العام، ثلاثة قضايا أساسية على الأقل: قضية دانييل مغتصب الأطفال: الملف الذي تمت إدارته بشجاعة وحكمة لم تزد المؤسسةالملكية إلا قوة ورسوخا لدى الرأي العام. وقضية وزير الشباب والرياضة، وكيف أن الملك استمع للرأي العام المغربي الذي دعا لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة فتمت إقالة الوزير المذكور.ثم القضية الكبرى الدراماتيكية برنامج الحسيمة منارة المتوسط، وكيف أن الملك أعطى القدوة والمثال في التنزيل الصارم والنسقي والشامل والعادل لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة بدون تمييز أو تهاون بحيث همت الإعفاءات والعقوبات مختلف درجات السلطة من وزراء وولاة وعمال ورجال سلطة ترابية فيما عرف بالزلزال السياسي. وبالرجوع للتاريخ، لقد كان اللجوء الملكي إلى تشكيل أول فريق حكومي بشكل مغاير لما كان منتظرا (فيما عرف ب "الانزياح عن المنهجية الديموقراطية") انسجاما مع النهج الذي كان ومايزال يبتغي الانتقال -من- والمزاوجة بين حد معقول من الشرعية الانتخابية المحدودة أصلا من جهة والعمل الميداني التنموي البعيد عن الحسابات الضيقة والمماحكات السياسوية القصيرة المدى، والمعزز بشرعية الإنجاز وهذا هو الأهم من جهة أخرى. هي إذن محاولة متواصلة في التوفيق بين قدر معقول إلى هذا الحد أو ذاك، من الأساس التشاوري الديموقراطي وقدر مقبول من الأساسالحكماتي الفعال والناجع للعمل السياسي للدولة، والذي يملي ضرورة تجديد أسلوب ونمط التعاطي مع الشأن العام في لحظة معينة مفصلية. والأمر كذلك حتى يكون للمسار الديموقراطي الانتخابي معنى ملموس يتمثل في الرفع من وتيرة الإنجازات المتعلقة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعيةالملحة بالنسبة للشعب المغربي.. قضايا التشغيل المنتج والنمو الاقتصادي والتعليم النافع والسكن اللائق والحياة الكريمة. أي في خلاصة أن يكون للعملية السياسية الديموقراطية مضمون وأثر اقتصادي اجتماعي ملموس من قبل المواطنين أولا وأخيرا. اللمسة التكنوقراطية وسؤال القيمة والفوائد: إن اللمسة التكنوقراطية لم تكن ولن تكون ترفا فلكلوريا أو ديكورا جماليا بقدر ما هي مصممة لتكون بمثابة قارب إنقاذ منفعي أو خشبة خلاص برغماتية . هي ليست بديلا للنهج الديموقراطي ولكنها آلية موازية ومعاونة لتوجيه العمل الحكومي نحو التجديد والتحديث والإنجاز الميداني. إنها تجسيد عملي لمفهوم الحكامة السياسية الجيدة قدرا معقولا من الجودة والرشد good enough governance . ومن المناسب التذكير أن مؤشرات النتائج التنموية المحصل عليها من قبل الفريق الحكومي التكنوسياسي لفترة ما بعد التناوب قد أعطت مصداقية نسبية لهذا الاختيار(نسبية لأن المعركة التي انطلقت ضد الفساد كانت فاشلة منذ البداية)، فبفضل الانسجام والتجانس بين مكونات الفريقالحكومي وبفضل انتهاج خطة استراتيجية استدمجت مكونات النسيج الاقتصادي والاجتماعي، تم تحقيق نتائج نوعية نسبيا في المجال الاجتماعي كالصحة والتعليم والسكن الاجتماعي، وتم تعزيزها بالحصول على تهدئة وتفاعل إيجابيين من قبل الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين، ولعل أهم رقم يمكن ذكره هنا هو خفض معدل الفقر من 19 في المائة سنة 1998 إلى 11 في المئة فقط سنة 2006. وربما كان الحنين إلى هذه الفترة قد دفع البعض من المراقبين السياسيين إلى الذهاب بعيدا وأغراه للدعوة إلى "إنهاءالواجهة الديمقراطية" في المغرب. واستبدالها ب "حكم تكنوقراطي خالص من أجل التركيز على التنمية الحقيقية والمنصفة للبلاد، وعلى الحالة المزرية لقطاعي الصحة والتعليم". ومع أن هذا النداء يمكن تفهمه وحتى التعاطف معه تعاطفا ظرفيا عابرا، فإننا لا نعتقد أنه يتماشى كلية مع أصول النهج الملكي للحكامة السياسية والتي تجعل الاختيار الديموقراطي أحد الركائز الأساسية له، لا محيد عنه بقوة الدستور وبقوة الإرادة الملكية الراسخة في ترسيخ المسار الديموقراطي في إطار نهج المواءمة المستدامة بين شرعية الإنجاز وشرعية الانتخاب؛ ولذلك نرجح أن اللجوء إلى اللمسة التكنوقراطية سيبقى نهجا مستمرا يصعد وينزل حسب نوعية المعروض الحزبي فيما يخص مؤهلات حسن تدبير الشأن العام. وبالضبط من هذه الزاوية ومن هذا المنطلق يمكن فتح مدخل سليم لقراءة الاحاديث عن التغيير الحكومي المرتقب وتوقع أبعاده ودلالاته ورهاناته الحقيقية والمضمرة…أي من منطلق الاسئلة الكبرى والقضايا الصحيحة التي يواجهها المغرب هنا والآن، داخليا وإقليميا ودوليا، وكيف كان الأداء الحكومي الحالي إزاءها وليس أي شيء صغير أو جانبي آخر…