يعتبر أدب السجون لدى الغالبية الكبرى في المحيط الأدبي خاصة و الابداعي عامة من أغرب أنماط الأدب و أشدها قوة و تأثيرا، إذ أنه يدخل ضمن إطار الأصناف التي تشدك من أول وهلة لتغوص في أعماق الحروف القاسية، و تسلب ذاتك من ترفها، و ترمي بها داخل قضبان لا تعترف بالحرية، و تقبض عنها ما تمتعت به طويلا، لتدرك من خلال صفحات مصبوغة بلون الشقاء الثمنَ الذي يدفعه الأدبي شاعرا كان أم كاتب نثر ليتمتع بحقه الكامل في خلق الابداع و الخروج عن الصور النمطية و الحدود التي تُدبغ كتحذير أبدي يَفترس المبدع و يَتهم الخيال و يتبلّى على قوة الحرف و تأثيره، إما بمسمى القانون أو بمسمى الخروج عن المعتاد أو التمرد و التطرف أو بغيرها من المسميات. و لعل أكثر ما يجعل من أدب السجون بهذه القدسية و الأهمية هو رسالة مبطنة تصلني كإنسان قبل أن أكون قارئا تؤثر على ساعات يومه كلمةٌ من كتاب و تلتصق بذهنه أفكار الكاتب الذكي الذي لا يقتصر على مرافقتك أثناء مطالعتك لإبداعه، بل يتجاوز ذلك لتترسخ في عقلك بعض مشاهده التي أجدها مجسدة بقوة و بشدة أكثر مما يعرضه فيلم بالصوت و الصورة، فكيف لا نقدس عملا يجعلك توقن أن "الإبداع يأتي غالبا من رحم المعاناة!!". و بالنظر إلى الأدباء الذين رسموا لأنفسهم طريقا مغايرا و ارتأوا أدب السجون مأوىً لهم ،و منعطفا يسير بهم نحو شعور أفضل بالحرية التي يفتقدونها تماما جسديا لكنهم يصلون إلى أعلى رُتبها متمثلة في التعبير واسع الأفق، و بالسعادة التي يكون مفهومها لدى الكاتب إيصال افكاره للآخرين بشكل يعكس كينونته و ذاته، و بالإنصاف و العدالة اللذان يمثلان أبسط المستحقات للكُتاب باعتبارهم أشخاصا لم يعثوا في الارض فسادا، بل واجهوا الفساد من جوانب متعددة اقتصادا و سياسة و مجتمعا و كأدبيين لم يتنازلوا عن أول المفاهيم التي تراود قارئ الكلمة من اللحظة الاولى -و إن كان في ذلك شيء من السطحية- و هي "الأدب" في التعبير و التكلم و إيصال الفكرة التي يحملها على عرشه و التي بها يرى النور الذي سيضيئ وسط عتمة الخوف و الانتهازية و التجاهل المستمر، و بها سيمسك شعلة المقاومة فيسير على خطاه غيرُه ممن ينسجون بأقلامهم مشاعر توازي ذكريات لا يمكن محوُها من ذاكرة العقل. و بغض النظر عن الجانب السلبي في الموضوع و هو كمية المعاناة و القسوة و الاستبداد التي يلقاها الشعراء و الأدباء في السجون فهذه المشاعر القارحة و المؤلمة من الناحية الإيجابية هي ما أوجدت أدب السجون و منحته النفس و أخرجته إلى الميدان الإبداعي و حولت بذلك كل زاوية مظلمة إلى مَنحى عظيم، و هذا إن دل على شيء فهو يدل على عدة نقط استلهمتها من قراءتي لكَمٌٍ لا بأس به من الكتب التي تتناول هذا النمط.. أولا إن أدب السجون استطاع أن يكسر صورة نمطية قوية جدا و متشعبة و متجذرة في المجتمع العالمي و العربي خاصة و هي أن السجن لا يملأه سوى القتلى المتسلسلون و المغتصبون و منعدمو الضمير و الذين لا مستقبل لهم و لا دور لهم في المجتمع. و ثانيا أن أدب السجون عرّى عن جرائم الأنظمة المستبدة و الديكتاتورية في عمقها، و لعل المثال يؤخذ بالعديد ممن وثقوا معاناتهم في السجن و الويلات التي ذاقوها ، و هذا يربط الابداع بالثمن السياسي الذي يدفعونه، مع أن الكاتب مواطن أيضا و من حقه ان يعبر عن رأيه في الوقائع و الأحداث التي يعشيها العالم من حوله و المحيط الذي يدور به تحت وطأة النظام الذي يحكمه ليخدم المواطنين في الواقع و ليس لينفيهم و يسلبهم مفتاح العيش الكريم. و ثالثا و هذا الجانب مرتبط بالوعي و الملَكة الأدبية التي يتصف بها الكاتب عموما و التي قد تأتي أحيانا مع الوقت، لكن الأكيد أنها موهبة و فطرة يجبل عليها و يتغذى على تطويرها و اصطحابها معه أينما خطت قدماه, إنني أتحدث عن القدرة العجيبة لكاتب أدب السجون في جعل الشجن و المرارة إبداعا رائعا يُشتهى عيش تجاربه رغم قسوتها و صعوبة التعامل مع الحياة تحت وقعها القاسي و الصلب. أما رابعا فهذا النمط الأدبي يمتلك في جعبته وابلاً من المزايا التي يمكن أن توجد في غيره من الآداب لكن ملمسها فيه و وصولها للقارئ الفطن الذي يستشعر جيدا كل حرف و كلمة و مشهد يروى أمام عينيه و يصور في ذهنه يختلف تماما، فهذا الأدب يتمتع بالتركيز الشديد حيث أن الكاتب لا يتحلى فقط بالصبر أثناء الفترة التي يقضيها بالقفص الكئيب ، بل يتمتع بالتدقيق القوي في حيثيات بسيطة تُخلق على إثرها بلاغة عظيمة تقوده لرسم لوحة ادبية تسقى بقطرات من الشجن، كما أته يتصف بالتوازن و العمق و البساطة. زيادة على كمية الاخلاق النبيلة التي يمتلكها كاتب أدب السجون، فهذا الأخير يحمل في قفصه الصدري قلبا عامرا بالتفاؤل و النظر للأمور من الزاوية المنيرة، فبدل أن يرى السجن على أنه نبذ للطاقة الابداعية و اغتيال للروح المحكم عليها بالحرية الأبدية، و استنزاف للرغبة الحالمة في العيش الكريم، و قتل للكرامة الانسانية المهددة دوما بالسقوط على قارعة الدكتاتورية و فرض الرأي الواحد ، و انتقام من الصوت الندي البسيط الذي لا هم له سوى رؤية نسخة أفضل من هذا العالم ،و انتشاء بالعذاب الذي يستنزف أجنحة السعادة و يسترق نور العينين، و يخلق أسوء ما قد يخلقه القهر و هو فراغ العين الذي يقود للاشعور, بدل كل هذه الامور التي يصعب التغافل عنها إذ هي اللب ، فإن الأدبي الطموح يرى في السجن خلوة عظيمة تدعوه بترحاب ليخلق سعادته الخاصة بأن يحرك ذلك القلم الذهبي و يُمنح حريته الخاصة فيسبح في بحر الورقة و يعود لصاحبه و شعور من الرضا يملأه فيطير في عنان السماء ملحنا نشيد الحرية. يقول ايمن العتوم في روايته "يا صاحبي السجن": "أخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنك إن فعلت صارت رقبتك بيد جلادك، وصرت تتقبل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنها قبلة في خدّ الرضى"