صدرت للكاتبة النرويجيّة مايا لوندا رواية جديدة بعنوان "قصة النحل". إحتفى بها عالم الأدب أيما احتفاء وجعلوها من الدرر التي تستزين بها المكتبات. عند قراءة هذا العنوان البسيط في معناه، أظن أن بعض القراء ربما يتساءلون ومن ثمّة تندفع إلى ألبابهم الاستفهامات الواحد تلو الآخر، قائلة: عجيب، ماذا يهمنا نحن البشر بهذه النحلة، حشرة كأي من الحشرات، لا حول لها ولا قوة. بيد أن الحكيم عموما أو المؤمن من بيننا يتدبر الأمر دون أدنى شكّ ويرجع البصر ليرى هل من فطور وربما يرجع البصر كرتين! لماذا كرّمها الله ووضع لها سورة من آي قرآنه الكريم؟! ويزداد الفرد منهم حكمة وإيمانا عندما يتلوا قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأمّا الذين كفروا فيقولون مَاذا أراد الله بهذا مثلا …البقرة – 26). إن التفاسير تتباين وتتشعب وتستشف الكثير الوفير من بعضها البعض – للأسف دون اجتهاد متجدد وملحوظ – سائرة كعادتها وكما عهدناها في سبل التاريخ دون طرح علميّ متجدد أو منهجيّة عصريّة تحفّها الحجج البيّنة، أكاديمية كانت أم علميّة، على أيّة حال، نراها وللأسف كلها مدوزنة على مقام واحد (على نهج السلم الموسيقيّ)! لمَاذا لا يجتهد علماء الدين ويتواصلوا مع علماء الأحياء مثلا، ولكل صنعته، والسبب الذي يجبرني أن أطرح التساؤل أنّ التفاسير في كثرتها، أغلبها عاجز عن ارتياد بلاغة المعني القرآني فضلا عن الحكمة التي تنطوي عليه. لماذا؟ لأنه لا يمكن لأي رجل دين، دون الإلمام الكافي بالعلوم التطبيقية، كعالم الأحياء مثلا أو عالم الذرة، أن يفسر آية قرآنية تُعنى بأمر اختصاصيّ من أمور العلم، لأن لكليهما حرفته وصنعته. لكي أبسّط الأمر: عندما نمرض نذهب للطبيب وعندما نشتري الخبز نذهب للخباز وعندما نشتهي اللحم نقصد اللّحام (الجزار)، أليس كذلك؟ وهكذا الأمر عندما نريد أن نقتفي سلوك النحل لا بد لنا من أن نرجأ السؤال لعالم أحياء مختص في سلوك النحل. أقول ذلك لأني أرى في عظمة الآية علم وافر ينبغي على كل فرد منّا أن يُلِمّ به، لا لأنها وردت بكتاب حكيم فحسب، بل لأنها تذكرنا بقوانين الطبيعة وبمخلوق يجهله أغلبنا. لنتمعن حكمة الآية والرسالة التي تحملها في ثناياها: وأوحى ربّك إلى النحل أن اتّخذي بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كُلي من كلّ الثمرات فاسلكي سُبل ربّك ذللا يخرُجُ من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إنّ في ذلك لآية لقوم يتفكرون – سورة النحل الآية 68، 69)؛ على صعيد آخر، يعرف الناس، في كل بقاع الأرض على وجه العموم، وفي الصين على وجه الخصوص ما معنى المثل القائل: "فلان نشيط كالنحلة". وكارثة الصين – على سبيل المثال – تتمخض في اختفاء ممالك النحل في بعض المناطق التي بها نسبة عالية من التلوّث وهذا الانقراض في حدّ ذاته يتنبأ بكارثة بيئيّة لم يسبق لها مثيل، يكمن سببها الأول والأخير في انقراض هذه المخلوقة وبالتالي اختفاء دورها الفعال في حفظ التوازن البيئي. لعمري تنتظرنا وتنتظرهم نتائج تفريطنا الشنيع في خلق البارئ فضلا عن اتاحة المناخ الملائم لهذه المخلوقة بل ولاحتقار دورها الفعال في ذلكم التوازن. هذا كله يوحي ببداية طامة بيئية عالميّة لا يحمد عقباها لخصتها الرسالة القرآنية قبل أربعة عشر قرنا، وها هي الكاتبة النرويجيّة ذا تذكرنا بها وتلك آية لقوم يتفكرون وذلك من خلال احتفائها بالنحلة، هذه المخلوقة التي سفهناها عند قراءة عنوان الكتاب (قصة النحل) إذ أنها هي – ولا مخلوق سواها – تجسد البطلة والملكة دون منافس في صميم وجوهر روايتها الجديدة "قصة النحل". ونحن المسلمون نظلّ ننتظر دائما علماء الغرب وكتابهم ليذكرونا بالأسفار التي نحملها كالحمير وذلك مذ أن بزغت على الدنيا آيات بيّنات هي هدى ورحمة للعالمين. لماذا يا سادتي لا نرجع البصر ونستقي من حضارتنا ومورثنا الثقافي ما هو خير لبيئتنا إلا – اللهم – أن يأتي فلان ابن سام، أو عِلَّانة بنت جون، حتى ندرك أنه الخبر اليقين. ما أعظم قوله في: مثل الذين حُمّلوا (حملوا) التوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. (الجمعة – الآية 5) – والحمل هنا مقصود به الفهم والتدبر والعلم به ربما لم تصل خطورة هذه الرسالة المتعلقة بحكمة في كتاب الله تخص النحلة إلى الآن، فاسمحوا لي بشيء من التوضيح. أولا: وظيفة النحلة لا تكمن في انتجاها للعسل، والشمع لكن من أهم وظائفها هي تلقيح الأزهار. وهذا الأخير مهم في أن تتحول الزهرة في شجرة الفاكهة إلى ثمرة أو خضروات في أشجار الخضر. أليسه قوت يومنا وغذاؤها؟ تخيلوا يا سادتي حياة بدون فاكهة وبدون خضروات إلخ! فهنا يجب أن نتمعّن جزء الآية القائل: (فاسلكي سُبل ربّك ذللا)، فكيف تفعل هذه المخلوقة ذلك ولم يتح لها المرء بجبروته الأمر؟! وكيف تتخذ النحلة بيوتا ومما نعرش ونحن نحصد الغابات حصدا ونحول طبيعة الله إلى مشاريع استثمارية دون مراعاة، ناهيك عن تطبيق قوانين الخالق في خلقه أو في احترام وعناية الطبيعة التي برأها؟ ! ثانيا: إن عظمة هذه المخلوقة تكمن في أنها تتنقل في رشاقة ودأب منقطع النظير من زهرة إلى أخرى وذلك طوال اليوم وعلى مدار السنة – دون إجازة أو عطلة – فتنقل في حركتها هذه حبوب اللقاح عبر شعيراتها التي تلتصق بها أو في كيس يتواجد بمؤخرتها. دعونا نطرح التساؤل التالي لأنه مهم فضلا عن أنه حقيقة قائمة في بعض الدول: هب أن هذه النُحيلة لم تتمكن من المرور على بعض الأزهار في شجرة مانجو بربوع جزيرة توتي وعلى ضفاف النيلين، أو قل تعذر مرورها على معظم أشجارها. فالنتيجة أن كل هذه الأزهار اليانعة المنتشرة على أشجار المانجو بجنائن توتي لن تتحول إلى ثمار وبالتالي ينخفض المحصول مما يسبب خسائر فادحة للمزارع الواحد، ولمجموعة المزارعين عموما، وللبلد على الصعيد الأكبر. وهل يعلم المزارع البسيط عن هذا الأمر، أو قل هل يعلم أولو الأمر عن خطورة انقراض النحلة وهل يحتاطون لساعة الصفر؟! ثالثا: لا يمكن لحشرات أخرى من أن تحلّ محل النحلة في عملية التلقيح إذ أن النحلة تعمل طوال السنة وذلك عكس بقية الحشرات. إذن فهي الناقل الأساسي في عملية اللقاح وموتور الانتاج الزراعي في زراعة العديد الوافر من المحاصيل وما ذكرناه في (ثانيا) – وما تخوفنا منه في (أولا) يحدث الآن ببعض مناطق الصين. إنها كارثة، ليس هناك أثر لنحلة واحدة. فما العمل؟ تخيلوا أن يتسلّق المزارع مع عشرات المزارعين الأشجار ليلقحوا أزهارها، واحدة تلو الأخرى، متنقلين من زهرة إلى أخرى عبر أفرع الشجرة المتراميّة. الأسئلة: – كم من الوقت يحتاج مجموعة من المزارعين لتلقيح أزهار شجرة واحدة؟ – وهل تعتقدون أنه يكفي للمزارع أو للعامل الواحد أن يصعد فوق شجرة ما ليحمل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى كما تفعل النحلة؟ – القضية ليست بهذه السهولة يا سادتي، فينبغي للعامل أن يجمع أولا في اليوم ما لا يقل عن كيلوغرام من الأزهار (لنتخيل الكم الهائل) ولابد له من ثمّة أن يقوم بعملية صعبة ومعقدة لكي يستخلص عبرها حبوب اللقاح، وهذه الطريقة المعقدة لا تحتاج إليها النحلة، لأنها تفعلها تلقائيا دون لأي وقبل أن يرتد إلى المزارع طرفه. – لنتخيل خطورة العمل في علياء الأشجار عند انعدام حاملات اللقاح من النحل، وهل كلنا يستطيع العمل في الأعال؟ – هل تعتقدون يا سادتي أن العامل يستطيع أن يصل إلى أيّ فرع في شجرة مترامية الأطراف تضرب بأغصانها في السماء؟ – لنتخيل كم يبذل العامل من جهد لكي يلقح زهرة واحدة لا غير، سيما في حركة الصعود وفي تحضير اللقاح قبل الصعود، وحمله وبثه بين طيات الزهرة، الخ! – ثم ما هو الأجر الباهظ الذي سيتحمله صاحب المزرعة وما الأجر الذي سيدفعه للعمال، إن احتاج في اليوم الواحد لما فوق الألف ممن يعملون ليكفّي عمل هذه النحيلة الهزيلة؟ – وحتى لو استطاع دفع اجور العمال الباهظة في يومياتهم، هل يستطيع هؤلاء أن يقوموا بما تقوم به أعضاء خلية نحل واحدة وأنها قادرة على تلقيح حوالي300 مليون زهرة في غضون يوم واحد؟ – ربما يحتاج صاحب المزرعة لكي ينجز عمليات تلقيح ملايين الأزهار لآلاف العمال، فهل من مدكر؟ النحلة يا سادتي مخلوق ساحر، وقصتها أسحر، فشكرا للكاتبة مايا لوندا إذ تذكرنا بعظمة هذا المخلوق وسحره وأهميته في كل ما نشرع إليه في يومياتنا من أكل وشرب، وغذاء، وعلاج، وبناء، وإضاءة، ومدخول ماليّ وسرور وغبطة. إن أجمل ما في الرواية أنها تجمع بين مصائر ثلاثة أشخاص كل منهم يعيش في عهد آخر وببقعة أنأى عن اخراها. تحكي القصة في ثالوثها أو بالأحرى ثلاثيتها السرديّة، أولا: مصير مخترع خليّة نحل انجليزي، ثانيا: مصير نحّال (ساعي نحل وبائع عسل) أمريكيّ، وثالثا: مصير لقَّاح صيني (يلقح الأزهار بيديه). تتبدى الأحداث بينهم أولا وكأنها دون وثاق أو رابط بيّن ويتخيل القارئ أول وهلة أنه لا علاقة لهذا بذاك وذاك بهذا، اللهم إلا أن موضوع هذه المخلوقة العجيبة قاسم مشترك يجمعهم في خليّة واحدة، يتحتم عليهم ثلاثتهم في سياقها تقرير المصير. تطرح الكاتبة قضية آنية وخطيرة تناسها الكل لكن لا تفتأ أن تطفح آثارها على سطح الأرض. تعالج لوندا وتعرض دون تستر مسألة سوسيوبيئية هامة وفاضحة، ألا وهي حياة النحلة وما آل إليه. أراها قد وُفِقت بحذق وتدبر ونجحت بأناملها الحساسة في طرحها، فضلا عن الهندام الذي أحاطت به سير الأحداث، فأنت لا تجد بين صفحات الرواية ما هو غث أو مضجر يدعك تقلب الصفحات التي تليها على عجل، ذلك لأن مصائر أولئك الأشخاص المذكورة يفرضها بقاء النحل أو انعدامه، ويحدها وجوده تحت أضواء خيوط سرد فريد، عندما تتشابك الكوارث وتلتحم المصاير بحبر الشهد ومداد العسل وكله يسير على نسق خليّة واحدة، ملئ بأسرار مَن تسكنها: النحلة!