قال رب العزة في محكم كتابه: "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف اًلوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون" [النحل، 68-69]. إن المهتمين بعالم النحل والباحثين في هذا الميدان يعربون عن ذهولهم وإعجابهم بهذه المخلوقات المدهشة؛ فهي حشرات راقية تحب النظافة والنظام، تعيش في مجتمعات تتسم بدقة التسيير وبيوت ذات تصميم هندسي في غاية الدقة والإتقان، تتميز حياتها بالنشاط والعمل الدءوب نتيجته شراب فيه غذاء وشفاء للإنسان. النحل مجتمع منضبط تتكون كل خلية نحل من ملكة واحدة وعدة آلاف من الشغالات وبعض مئات من الذكور. يعتبر مجتمع النحل من أنشط المجتمعات؛ كل فرد يؤدي واجبه بتفان وإتقان، فالتكاسل ليس له في الخلية مكان، فإذا تكاسل أحد أفراده يكون مصيره الطرد؛ لأنه صار عبئا على الآخرين. إن كل نحلة تعمل بجد وانتظام لأجل سلامة الخلية واستقرار المملكة. الملكة.. إنها النحلة الأم؛ تتميز بكبر حجمها وقصر أجنحتها عن بطنها الطويلة وقصر خرطومها، كما أنها لا تتوفر على سلة لجمع حبوب اللقاح. لا تستخدم الملكة آلة اللسع إلا عند مهاجمة ملكة أخرى تنافسها على عرشها، كما لا تموت إذا فقدتها. وظيفتها الأساسية وضع البيض، ووجود الملكة في الخلية يشعر الجميع بالأمن والاستقرار؛ فقد اكتشفت مادة تفرزها الملكة وتتداولها النحلات فيما بينها لاستشعار وجودها فيشعرن بالأمان. يتراوح عمر الملكة ما بين 3 و4 سنوات، لا تخرج من الخلية إلا عند التلقيح والتزاوج الذي يتم عادة مرة واحدة في العمر ولا يكون إلا في الهواء الطلق مع أقوى ذكور النحل الذي ينجح في اللحاق بها. تتواجد الملكة عادة على أقراص الحضنة محاطة بمجموعة من الشغالات التي تقوم بتغذيتها بالغذاء الملكي وتنظيف جسدها والعناية بها. الذكور.. جسم الذكور أضخم من جسم الملكات والشغالات لكنها أقصر طولا من الملكات. لا تتوفر على آلة لسع وليس لها سلة لجمع حبوب اللقاح بالأرجل الخلفية. أجزاء فمها قصيرة فهي تتغذى من داخل الأقراص السداسية كما لا تتوفر على غدد لإفراز الشمع أو الغذاء الملكي. وظيفتها الوحيدة تلقيح الملكات وتموت مباشرة بعد أداء مهمتها. الشغالات.. تنشأ الشغالات من بيض مخصب وهي غير قابلة للتلقيح. إنها أصغر أفراد الخلية حجما ولكنها تتحمل العبء الأكبر من العمل داخل وخارج الخلية. لها آلة لسع مستقيمة تدافع بها عن نفسها وعن المملكة. أجزاء فمها مهيأة لجمع الرحيق وأرجلها الخلفية تتوفر على أكياس لجمع حبوب اللقاح وأرجلها الأمامية محورة لتنظيف قرون الاستشعار. يحتوي جسدها على غدد لإفراز الغذاء الملكي لتغذية اليرقات والملكة وغدد لإفراز الشمع وغدة الرائحة. تعتني النحلة الشغالة بالبيض واليرقات كما تعتني بالملكة فتغذيها وتنظفها. تخرج الشغالات لجمع رحيق الأزهار لتحويله إلى عسل بكمية تفوق حاجتها تخزنه في الخلية. تعتبر النحلة مهندسة معمارية بارعة فهي خبيرة في بناء الأقراص السداسية. يقول الخبراء أن بنية الشكل السداسي هي الأمتن مقارنة مع الأشكال الأخرى، كما أنها تخول للنحل بناء أكبر عدد من الوحدات بأقل كمية من الشمع دون ترك فراغات.. إن تكوين النحل لا يُمَكنه من القيام بهذه الحسابات كلها لوحده، لذلك نجد أن القرآن يخبرنا أن ما تقوم به هذه المخلوقات إنما هو وحي من الله عز وجل، وإلا فكيف تستطيع هذه الحشرات التي لا تعيش أكثر من بضع أسابيع القيام بهذه المنجزات الضخمة المبهرة؟ النحلة صيدلانية ملهمة إن من مظاهر جود الله عز وجل وكرمه علينا أن سخر لنا هذا المخلوق الصغير حجما والعظيم نفعا. لقد وهبه كل الآليات التي تمكنه من التنقل بيسر في الطبيعة، والتعرف على الأزهار وأنواع الرحيق، وألهمه القدرة على التواصل وإخبار الأفراد الأخرى على مكان الأزهار وتمكينه من جمعه ونقله إلى الخلية بدون أن يخطأ طريق العودة، أو أن يدخل إلى خلية أخرى. خلق الله عز وجل في جسم هذا المخلوق العجيب جهازا هضميا خارقا يعمل على تحويل الرحيق إلى عسل بكل يسر و بدون عناء. لقد أثبت العلم مؤخرا أن كل ما يخرج من بطون النحل من غذاء ملكي وشمع وكذلك سم النحل يعد علاجا ناجعا لعدة أمراض؛ وهو ما يثبت إعجاز الآية القرآنية في النحل: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ اَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ.." [النحل، 69]. فن تخزين العسل.. إن مهام الصيدلاني لا تنحصر في عمليات صناعة الدواء فحسب بل يكمن في معرفة كيفية الحفاظ على هذا الدواء من التلف بسبب عوامل الرطوبة والحرارة وغيرها... كذلك النحل ألهمه الله الخالق الوهاب فن تخزين العسل في الأقراص السداسية؛ تعرف النحلة الشغالة كيف تعتني بهذه الأقراص لتكون على أعلى درجة من النظافة والتعقيم. تسد كل الشقوق، وتلمع كل الحوائط بغراء النحل ثم تُحكم إغلاق الأقراص بما تفرزه من الشمع المصمت حتى تضمن سلامته وعزله عن الهواء والرطوبة. إضافة إلى حرصها على تكييف الخلية لتحافظ على درجة الحرارة المثلى؛ ففي فصل الصيف تقوم مجموعة من الشغالات بتحريك أجنحتها لطرد الهواء الساخن من داخل الخلية وتقوم مجموعة أخرى بتبديله بالهواء البارد المتواجد بالخارج. إذا نظرنا بعين الاستبصار فيما يخبرنا به القرآن عن النحل نجده يشير إلى حقائق علمية لم تُكتشف إلا في السنوات الأخيرة بعد دراسات طالت عدة سنوات، وإن التأمل في قدرات هذه المخلوقات المدهشة لا يزيد المسلم إلا إجلالا وتعظيما لمولانا القدير: "إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون" [الجاثية، 13]. المراجع - ماهر أحمد الصوفي، الموسوعة العلمية الكبرى، آيات الله في ممالك الطير والنحل والنمل والحشرات،المكتبة العصرية بيروت، 2008م. - محمد سامى بولات أوز، أسرار هندسية في خلية عسل، حراء، العدد 18، 2010م. - رمضان مصري هلال، آيات الله في عالم النحل، الإعجاز العلمي، العدد: 24 جمادى الأولى 1427ه.