في كل مرة تتكرّر نفس القصة. وفي كل مرة تعاد نفس الحكاية ، وفي كل مرة تكرر نفس الشعارات ، ونفس ردود الفعل ، و في كل مرة يفتح تحقيق وينسى ، وتنسى معه الميزانية المخصصة له ، ويبقى الحال على ما هو عليه فلا هم يخجلون ولا هم يحاكَمون ولا هم يخافون أو يحزنون، ووحدهم أولاد الشعب من يتجرعون " الفقصة " بكل أشكالها وألوانها ، ويذوقون مرارة انقلاب الآمال إلى آلام . يؤتى بملف فساد ثقيل في الميزان ، ثقيل على اللسان ،واضح وضوح الشمس للعيان ، مرفق بالدليل والحجة والبرهان ،والثوابت والشهود التي لا ينتمي لها شاهد عيّانْ ،واعترافات المتهم ، و التفاصيل المعروفة والحيثيات المخفية ، وكم سرق ومن ساعد على السرقة وكيف سرق المسروق ، ... وتكثر التخمينات والتقديرات هذا يحكم على الظنين بقطع يده ورجله ، وآخر يحكم عليه بالمؤبد مع الأشغال الشاقة ، وآخرون يلتمسون له التخفيف ويؤكدون بأنه لن يُغيّب داخل السجن إلا مدة يسيرة ، وتنقضي فترة التخمين ،وتنتهي مراحل السين والجيم ، وتشد الأعصاب وتوجه العيون نحو لجان التحقيق التي تدفع الملف لقاض يحكم على أصحاب الملف الثقيل بالبراءة ويرفقها بما قاله وزير مسؤول لمن سبق من المفسدين " عفا الله عما سلف " . ويؤتى بمسؤول رفيع المستوى ، على عرش مسؤوليته استوى ، أعطوه ما أراد وحققوا له ما ابتغى ونوى ، يؤتى به وقد صفع بغير حق هذا البرلماني ، وسلخ ذلك النقابي ، وهشم رأس هذا ، وكسر ضلع ذاك ، ويفتح له تحقيق بعدما تتعالى الأصوات من كل جهة لتطالب بمحاكمته ، ويأخذ الملف طابع الجد، فيحال إلى إدارة مختصة بمثل هذه القضايا ، وتحيله بدورها الى مجلس كريم يشكل لجنة من ذوي العقول المتفهمة والقلوب الرحيمة ، تجتمع اللجنة ، تبحث الأسباب والمسببات ، تدرس الخبايا والمخفيات ،تربط الملف بالزمن وبما له من لحظات ، تكتشف اللجنة بعد سلسلة من التحقيقات ، أن الملف لا يستدعي البحث والتحقيق والتدقيق ، ويقفل الملف ، ويبرأ المسؤول ، و" يكمدها " المصفوع و " يبردها " المسلوخ " ، ويهنأ المسؤول ويحتج " عاقل " وتعلو حدة الاحتجاج، لأن المهنئين بالبراءة قصروا في التهنئة وما أعطوها الحق الكافي من المجاملات والزيادات . وهكذا دواليكم ، ملف يفتح ويغلق لينسى ، وتحقيقات تطول وتتجدد ولا من جديد ، ولجان يتكرر خلقها ، وأخرى تبعث من موتها لتؤكد صدق من قال بأننا نجحنا في صناعة الفشل وفشلنا في صناعة النجاح ، وبأننا شعب له مسؤولون يعشقون التكرار إلى أبعد الحدود . نعم لنا مسؤولون يعشقون التكرار في كل شيئ ، في السياسة كرروا أخطاء الماضي فأنتجوا لنا حكومة مشلولة ترى وتسمع ولا تتحرك ، وفي الاقتصاد كرروا نفس السياسة ونفس الأخطاء فأغرقوا البلاد في المديونية " الكحلاء " وفي الريع المهلك ، وفي التعليم كرروا نفس الأخطاء فأنتجوا لنا تعليما لا يمت لحاضرنا ولا لماضينا بصلة ، وفي مجال حقوق الانسان كرروا نفس الأخطاء فغلبوا المقاربة الأمنية على باقي المقاربات ، وفي باقي المجالات ليس ثمة إلا تكرار بئيس لما سبق من الأخطاء والزلات . باقي " نعقل " أنه حينما كنا صغارا كنا نردد بكل عفوية وتلقائية بأن " التكرار يفيد الحمار " ، ولست أدري اليوم هل سينفع تكرار السياسات السابقة والمقاربات الماضية وما سلف من زلات وأخطاء ثلة التماسيح والعفاريت ... ربما ينفعهم فيكونوا كبقية العاقلين الذين يستفيدون من تكرار الأمور وربما لا ينفعهم ذلك التكرار بل يشكل دافعا يزيلهم من حيز الوجود ليكونوا كحمار العطار الذي يكرر أخطاءه ويقلب في كل مرة " الشواري " بما حمل ويكبد صاحبه الخسارة تلو الأخرى مما دفع بالعطار إلى ضربه ضربة قاضية ما لها من ثانية ليكسر بذلك قاعدة " التكرار يفيد الحمار " وليؤكد قاعدة جديدة مفادها أن التكرار قد يجني على الحمار .