من يعرف أن الأمريكي جاك دورسي كان مولعاً بخرائط المدن في صغره، سيقول جازماً إنه من مبتكري أحد تطبيقات الملاحة والخرائط ، إلا أن تركيزه على الجوانب التفاعلية في الإنسان آنذاك، كان مؤشراً على أنه سيكون وراء تأسيس إحدى كبرى شبكات التواصل الاجتماعي في العالم اليوم، وأكثرها شعبية، ألا وهي موقع تويتر. ولد جاك دورسي في 19 نوفمبر سنة 1976، بولاية ميزوري الأمريكية لأبويه مارشيا سميث وتيم دورسي، وهو مبرمج ورجل أعمال. عرف بأنه أحد مؤسّسي موقع تويتر والرئيس التنفيذي لشركة “سكوير Square” المتخصّصة في الخدمات المالية والتحويلات الإلكترونية. وصنفته مجلة MIT Technology Review TR35 عام 2008 بأنه أحدً من 35 شخصية مبتكرة في العالم تحت سن الخامسة والثلاثين. وفي عام 2012 منحته صحيفة “وول ستريت جورنال” جائرة العام للابتكار التكنولوجي. نشأ دورسي في سانت لويس، ميزوري. وفي سن الثالثة عشرة كان مولعاً بتقنيات التوجيه والإرسال، وذهب إلى المدرسة الثانوية، ومنها إلى جامعة ميزوري للعلوم والتكنولوجيا، لينتقل بعدها إلى جامعة نيويورك، حيث تصور لأول مرة فكرة عن التغريد، بينما كان يعمل مبرمجاً في مجال تقنيات الإرسال. بعد ذلك انتقل إلى ولاية كاليفورنيا، حيث وادي السيليكون والمقرّ الحالي لشركة “تويتر”. اشتهر دورسي منذ نعومة أظفاره بحبه للبرمجة، إذ قام بكتابة برنامج مجاني لتنظيم عمل شركات سيارات الأجرة، وبعدما أنهى دراسته الجامعية، شرع في تأسيس شركة برمجة لاستكمال العمل على برنامجه، وتحويله للعمل عبر الإنترنت، وكان تطبيقه هذا هو الذي أوحى إليه بعمل تطبيق مماثل للتواصل الفوري. بدأت حكاية “تويتر” سنة 1984 في غرفة طفل في سنه الثامنة، بقلب مدينة سانت لويس الأمريكيّة، حين كان جاك مولعاً حينها بخرائط المدن، إذ زيّن جدران غرفته بالكثير منها، تلك التي انتزعها من صفحات المجلات، أو أحضرها من محطّات الوقود، أو جمعها من السيّاح الذين زاروا مدينته. وعندما أحضر والده تيم دورسي إلى المنزل أوّل جهاز حاسوب سنة 1984، سرق هذا الجهاز اهتمام جاك كاملاً، فهو الذي يتمتّع بمواهب مميّزة في الحساب والرسم، بدأ بتصميم الخرائط بنفسه، باستخدام برامج المؤثرات، وتعلّم تقنيّات البرمجة ليتمكّن من تعيين مناطق وصول القطارات وانطلاقها على الخرائط. ولم يتوقّف جاك عند هذا الحد، بل شغل نفسه بالاستماع إلى موجات الراديو المخصّصة لعربات الشرطة وسيّارات الإسعاف، وراقبها، كي يتمكّن من رسم طريقة حركتها في المدينة على خرائطه الخاصّة. وعندما سئل جاك عن سبب اهتمامه ببرامج خرائط المدينة أجاب : أُريد أن ألعب بالطريقة التي تعمل بها المدينة، كي أتمكن من رؤيتها على حقيقتها. بعد تنقله بين مجموعة من الوظائف سنة 2006، انتهى به الأمر أخيراً لدى شركة برمجيّات مركزها مدينة سان فرانسيسكو واسمها “أوديو”، واقترح دورسي على مالك الشركة أن يقوموا بتكوين خدمة يتمكّن من خلالها كلّ مشترك من كتابة جملة أو جملتين عن نفسه، عبر لوحة مفاتيح الهاتف الخلوي الخاصّ به، وسيتمكّن كلّ من يرغب في قراءة هذه الرسالة، من الوصول إليها، إذ سيعلمه بوصولها نظام تنبيه مخصّص، وهذه الجملة القصيرة، كانت هي الحلقة المفقودة التي تمكّن دورسي من إيجادها. وبالفعل شجع إيان ويليامز، مالك أوديو، فكرة دورسي وقام بتعيينه رئيساً لمجلس إدارة الشركة الجديدة التي حملت لاحقاً اسم “تويتر”. وبعد مرور خمس سنوات على تأسيسها أضحت “تويتر” واحدةً من أكثر منصّات التواصل الاجتماعي شهرةً، بعد أن وصل عدد المشتركين فيها إلى أكثر من ربع مليار مستخدم، وباتت الشركات العملاقة في مجال البرمجيّات أمثال “غوغل” و”مايكروسوف” و”فيسبوك”، تتهافت على شرائها بمبالغ زادت على 8 مليارات دولار في ذلك الحين. تأسس موقع “تويتر” بصورته الحالية، على يد جاك دورسي وشريكيه إيفان ويليامز وكريستوفر بيز ستون، وحين بدأ الثلاثي عرض النموذج الأولي من “تويتر” لعموم المستخدمين، علق أحدهم قائلاً: استخدام الموقع نوع من المرح، لكنه غير مفيد. فسرعان ما جاء الردّ من إيفان قائلاً: وكذلك الآيس كريم، تسعد لتناوله، لكنه لا يفيد! بل إن أحد أوائل العاملين في الموقع كان يرى “تويتر” مضيعة للوقت. وكان أكثر سؤال يتلقونه في بدايتهم، هو: لماذا تملؤون الدنيا بهذه القمامة؟ لكن الثلاثي كانوا معتادين على ذلك؛ فقبلها بسنوات كانوا يقنعون هؤلاء الناس أنفسهم بأهمية التدوين ومزاياه! في نيسان / أبريل سنة 2007 أبصر “تويتر” النور في صورة شركة قائمة بذاتها، تحت رئاسة جاك دورسي، وذلك بعد دورتين من التمويل، والحصول على أموال من مستثمرين سمحت لهم بالتوسع وزيادة عدد العاملين، وأصبح إيفان المدير التنفيذي في عام 2008، ليترك المنصب في ربيع 2011، بينما تحول جاك ليكون رئيس مجلس الإدارة. كل هذا والشركة معروف عنها أنها لا تملك نموذجاً واضحاً للربحية يجلب لها المال، لكنها في شهر فبراير 2009، كانت تحصل على 55 مليون زيارة شهرياً، وتحوّلت لتكون ثالثة شبكة اجتماعية في العالم. يفضّل جاك دورسي أن يبقى خلف الأضواء، وأنّ يتمّ التعريف به على أنه مبرمج حِرَفيّ ابتكر برمجيّة موقع “تويتر”، وهذا التأطير الذي حصر نفسه به، دفعه إلى الخروج من الشركة؛ فعلى الرغم من أنّه لا يزال مدير الشركة، فإنّ هنالك الكثير ممّن يفوقونه مرتبة، وقد حصروا مهامه منذ سنتين تقريباً، خلال الفترة التي أصبح فيها “تويتر” القوّة الاجتماعية الهائلة. كما أن دورسي هو الذي حدّد عدد الحروف المكتوبة في كلّ رسالة على “تويتر” بمئة وأربعين حرفاً، وهذا دليلٌ على اقتناعه بالاختصار. ويقول أشتون كوتشر الصديق المقرب لدورسي «إنّه الشخص الذي لا يقول إلا ما هو مهمّ». ولجاك دورسي يعود الفضل أيضاً في اختيار العصفور الأزرق رمزاً لموقع “تويتر” منذ تأسيسه عام 2006. واستوحى دورسي رمز شركته من الطائر المعروف بخاطف الذباب، وهو طائر أزرق اللون ينتمي إلى فصيلة Muscicapidae من طيور الجواثم الصغيرة، وهو من الطيور المهاجرة يعيش في اليابان وكوريا، وفي أجزاء من الصين وروسيا. والجدير بالذكر أن أول تغريدة على “تويتر” كتبها مؤسس الموقع جاك دورسي، وقال فيها آنذاك “أنشأت حسابي على تويتر وأقوم باختباره”. وأرسلت هذه التغريدة بتاريخ 21 مارس آذار 2006. طموحات جاك دورسي لا تتوقف عند البرمجة والتكنولوجيا والأعمال، فإعجابه بمدينة نيويورك ليس له حدود، فعلى الرغم من أنّه يعيش في سان فرانسيسكو، فإنه دائماً يُعبّر عن رغبته في أن يُصبح عمدة تلك المدينة في يومٍ من الأيّام، وهو قد تحدّث عن رغبته هذه إلى عمدة المدينة الحالي مايكل بلومبيرغ؛ ومن أهمّ النصائح التي أعطاه إيّاها مايكل، كانت الاهتمام بمُضاعفة ثروته الخاصّة قبل التفكير في هذا العمل. والجدير بالذكر أن ثروة دورسي تقارب 300 مليون دولار. يعلم دورسي أنّ رغبته في أن يكون عمدة لنيويورك قد تكون ساذجةً إلى حدٍّ ما، إلا أنّه لا يندم للتعبير عنها، ويرى أنّ في تحكّمه بدفّة قيادة أكثر مدن الولايات المتّحدة الأمريكيّة عالميّةً، سيُبقي أحلامه قريبةً من المنال، إذ يقول :”في هذه المدينة طاقةٌ كبيرةٌ جدًّا، وأشعر أنّ علينا الاستفادة من كل ما هو بين أيدينا، وتسخيره لخدمة أهدافنا وإنتاج طاقات أخرى”. حياة جاك دورسي في كلّ جوانبها نظام متكامل؛ التحويلات هي حركة السير، وحركة السير تتدفّق فوق الجسور برقّة، والجسور ليست إلا نُقَطاً على الخريطة، والخريطة هي تعبيرٌ عن مشروعٍ ما، دفقٌ عالٍ لنقاط التواصل، كلّ هذه الأفكار كانت تدور في رأس دورسي منذ كان في الثامنة من عمره.