المعارضة: السيادة الصناعية "شعارات"    مشروع قانون المالية 2025.. لقجع يتحدث عن إعفاء الأجور التي تقل عن 6000 درهم من الضريبة    وجبات "السيبيا" ترسل أزيد من عشرة أفراد للمستعجلات في اشتوكة    القضاء يدين المالكي ب4 أشهر حبسا نافذا.. والبراءة من "كراهية الأمازيغ"    الصحافة الإسبانية تشيد بإبراهيم دياز بعد تسجيله هاتريك مع أسود الأطلس        المؤامرة الجزائرية الجديدة.. زعزعة استقرار موريتانيا ومالي لتحقيق الوصول إلى الأطلسي    رئيس الحكومة: الشروع في الإطلاق التدريجي للمنطقة الصناعية محمد السادس "طنجة تيك"    بشكل مفجع.. وفاة طالب بين مدينتي العرائش والقصر الكبير تحت عجلات حافلة للنقل العمومي    حملات تحسيسية بالشمال بمخاطر تلويث الموارد المائية بمخلفات الزيتون.. وغرامات تنتظر المخالفين تصل ل50 مليونا    أكادير تحتضن تخطيط "الأسد الإفريقي"    "برلمان الطفل" يحتفي بربع قرن من الالتزام المدني وتربية القادة الشباب    قيمة رساميل الاستغلال للمشاريع الصناعية المُصادق عليها بلغت 140 مليار درهم مابين ماي 2023 ونونبر 2024 (أخنوش)    بعد 20 عاماً من الغياب.. لمريني يشرف على أول حصة تدريبية على رأس الإدارة الفنية لهلال الناظور    المدور: المغرب من الدول السباقة في مقاربة محاربة الفساد وحقوق الإنسان        بورصة البيضاء تنهي التداولات ب"الأخضر"    وضع الناشط المناهض للتطبيع إسماعيل الغزاوي رهن تدابير الحراسة النظرية    أونشارتد: أحدث العروض التوضيحية المفقودة تراث عرض الكنز الصيد ديو في المزامنة    ليدي غاغا سحبت قبالة واحدة من أفضل عروض الوقت الحقيقي من أي وقت مضى    "اليونسكو" تدرس إدراج الحناء في قائمة التراث الثقافي غير المادي    انخفاض أسعار اللحوم الحمراء في المغرب بعد بدء عملية الاستيراد    درك أزمور يحبط محاولة للهجرة السرية    لافروف يحذر الغرب من النووي الروسي    مقتل جندي إسرائيلي في معارك لبنان    الأمطار تعود إلى الريف وسط انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة    جدول أعمال مجلس الحكومة المقبل    حكيمي يبتغي اعتلاء العرش الإفريقي    وزارة الصحة الروسية تطلق اختبارات سريرية لعلاج جديد لسرطان الدم    الذهب يلمع عند أعلى مستوى في أسبوع مع تراجع الدولار    الإعلام الإسباني يتغنى بتألق ابراهيم دياز رفقة المنتخب المغربي    مساء هذا الثلاثاء في برنامج "مدارات" : لمحات من السيرة الأدبية للكاتب والشاعر محمد الأشعري    محاولة اغتيال وزير العدل الكندي السابق الداعم لإسرائيل    من حزب إداري إلى حزب متغول    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    ولي العهد السعودي يهنئ الملك بمناسبة عيد الاستقلال    شبكة تسلط الضوء على ارتفاع أسعار الأدوية في المغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    حاتم عمور يصدر كليب «بسيكولوغ»        أربع جهات مغربية تفوز بجائزة "سانوفي" للبحث الطبي 2024    تسجيلات متداولة تضع اليوتيوبر "ولد الشينوية" في ورطة    في تأبين السينوغرافيا    الشاعرة الروائية الكندية آن مايكلز تظفر بجائزة "جيلر"    ما هي الطريقة الصحيحة لاستعمال "بخاخ الأنف" بنجاعة؟    فريق بحث علمي يربط "اضطراب التوحد" بتلوث الهواء    صحتك ناقشوها.. إضطراب النوم / الميلاتونين (فيديو)    إندرايف تغير مشهد النقل الذكي في المغرب: 30% من سائقيها كانوا يعملون بسيارات الأجرة    مجموعة ال20 تعلن وقوفها خلف قرار وقف إطلاق النار في غزة    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات فالنسيا بإسبانيا إلى 227 قتيلاً ومفقودين في عداد الغائبين    عرض الفليم المغربي "راضية" لمخرجته خولة بنعمر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    العسكريات يسيطرن على التشكيلة المثالية لدوري أبطال إفريقيا    نشرة إنذارية: زخات رعدية ورياح عاصفية في عدد من أقاليم المملكة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللائحة السرية لأخطر الجواسيس الأوروبيين في المغرب
نشر في نيوز24 يوم 12 - 06 - 2015

حتى لو ادعى أغلبهم أنهم أبرياء من تهمة التجسس، إلا أن أرشيفهم الشخصي انفجر في يد أبنائهم بعد وفاتهم. هؤلاء تجار وأساتذة، وربما أشياء أخرى، جاؤوا إلى المغرب ليشكلوا النواة الأولى لتاريخ الجاسوسية. كانت مهمتهم نقل المعلومات، وإحاطتها بالسرية. كادوا لبعضهم ونصبوا الفخاخ بحسب مصالح الدول التي ينتمون إليها، وانتهوا نهايات مأساوية تفاوتت بين الموت.. والفرار.


معرفة مكان أسرى الحرب كانت أول معلومة طلبتها الاستخبارات الأجنبية
يعود وجود أقدم الجواسيس، بالمفهوم المعروف للجاسوس، أو المكلف بمهمة استخباراتية في دولة أخرى، إلى فترة المولى الحسن.
يقال أيضا إن الأمر يعود إلى ما قبل هذا التاريخ، لكنه لا يعدو أن يكون عبارة عن محاولات تجسسية بدائية كان الهدف منها بالأساس، معرفة التحركات العسكرية بالسواحل المغربية والتي تستهدف السفن التجارية لدول أوروبية، كانت لديها بدورها أطماع استعمارية.
واحد من هؤلاء الجواسيس، أشارت إليه مصادر تاريخية بأسماء مختلفة تارة، وبرجل مجهول تارة أخرى، يقال إنه نجح في الوصول إلى المغرب في أيام دولة المولى الحسن، وكسب ثقة بعض البسطاء الذين تعرف عليهم بسهولة، ليقربوه من أحد العمال في السجون المخصصة لأسرى حرب قديمة بين الدولة العلوية وإسبانيا.
دائما، حسب الإشارات المقتضبة التي وردت في هذا الباب، يُفهم منها أن الأمر يتعلق بأكثر من شخص أجنبي لعب هذا الدور في مدينة الجديدة وحتى في الصويرة، كما ذُكرت أيضا مدينة العرائش.
هذا الجاسوس، الذي لم توفه المراجع التاريخية حقه في التعريف، وما إن كان جاسوسا واحدا أم أن الأمر يتعلق بآخرين غيره، كانت لديه مهمة تتلخص في الاهتداء إلى المكان الذي يوجد به أسرى أوروبيون بإحدى القلاع المهجورة المشيدة على الشاطئ.
كانت الأخبار تقول إن القائمين على شؤون الدولة قاموا بتخيير الأسرى بين السجن والدخول إلى الإسلام، لكن هذه الفرضية تبقى مجرد روايات تاريخية، ما دامت كتب أخرى قد تحدثت عن صفقات بين الدولة المغربية ودول أوروبية من أجل إطلاق سراح أسرى لدى المغرب، وهو ما تم فعلا في مناسبات للصلح بين المغرب وأوروبا خصوصا إسبانيا والبرتغال.
بالعودة إلى الجاسوس المفترض، فقد قيل إنه واحد من أقدم الجواسيس الذين زاروا المغرب. كانت المهمة المنوطة به أن يعرف المكان الذي تحتجز فيه الدولة المغربية أسرى الحرب، بعد سنوات على فشل أولى المساعي للإفراج عنهم.
من الإشارات المتعلقة بقصص هؤلاء الأسرى، والذين ستكون لإنهاء احتجازهم بالمغرب علاقة مباشرة بحلول أحد البريطانيين في المغرب، ما يتعلق ببعض الأسرى الذين دخل بعضهم في دين الإسلام، بعد أن كانوا أسرى مسيحيين حصل عليهم المغرب في حروب سابقة. هؤلاء، تم استعمالهم، لسوء حظهم، في بناء قصور في مكناس ومراكش وفاس. كان المشرفون على بناء القصور يعمدون إلى أخذ كل عبد أظهر تقاعسا في مواصلة أشغال البناء ورميه في التراب والكلس، وتغطيته بهما ودكه إلى أن يختفي وسط الجدار الذي كان في طور البناء.
في سنة 1721، أرسل «ستيوارت» كسفير من إنجلترا ليقوم بشراء العبيد الأوروبيين ويعيدهم إلى أرضهم، لكنه وجد أغلبهم تحول إلى دين الإسلام حتى تنتهي معاناته الفظيعة في الأشغال الشاقة. لقد تم إنقاذهم وتعامل المغاربة معهم معاملة جيدة على عكس أولئك الذين فضلوا البقاء على ديانتهم النصرانية، أما النساء فقد تم إلحاقهن ب«الحريم».
هذا الحكم ليس نابعا من مصدر مغربي في التاريخ، وإنما من شهادة السيد ستيوارت نفسه، في إحدى مراسلاته التي كتبها من المغرب، والتي يمكن اعتبارها تقريرا عن حالة الأسرى الذين كانت تطالب بهم بريطانيا. لكن الفرق هنا بين ستيوارت، والجاسوس الإسباني الذي أرسل إلى المغرب في وقت سابق لقدوم «ستيوارت»، يكمن في أن الأخير دخل إلى المغرب متخفيا، ولم يكشف نوعية المهمة التي جاء من إلا عندما وجد باب المفاوضات باسم دولته مرحبا به في المغرب. وهو ما لم يكن متاحا في الفترة التي كان فيها المغرب يتوفر على رهائن إسبان وبرتغاليين.
في 1817، ومع تعاظم قوة إنجلترا وسيطرتها على مضيق جبل طارق، خاف السلطان سليمان من ذلك الامتداد، وحد من عمليات القرصنة البحرية، ولم تعد سفنه تمارسها بالأشكال السابقة وإنما بسرية، ولم تنته إلا في 1856، بعد أن نجح «السير جون دريموند» في تحرير جميع العبيد والمسجونين. كان هذا في أيام مولاي الحسن.
في عهد مولاي الحسن كانت الضرائب تجمع بالقوة من كافة ربوع البلاد، وكان يفرض على أهل القرى والبوادي توفير طعام الجيش أينما حل وارتحل. رتب مولاي الحسن لطريقة يتعامل بها مع القياد والسيطرة عليهم، والأهم.. أنه كان يهزم المسيحيين. كان مثالا على تفوق المغاربة وتواضع العظمة البريطانية أمامهم.
ذكر السياق التاريخي لفترة حكم المولى الحسن وسياسته الداخلية، ليس إلا إضاءة لفهم سر تفوق المغرب عسكريا في ذلك الوقت، إلى الدرجة التي يحوز فيها رهائن أوروبيين، ولا يكون الرد الأوروبي عسكريا، وإنما استخباراتيا بالأساس.
فهؤلاء الذين ذكرناهم هنا، لم يأتوا إلى المغرب بصفة دبلوماسية. صحيح أن بعضهم، خصوصا جون دريموند، جاؤوا في إطار واضح، الغرض منه فتح باب المفاوضات مع السيادة المغربية لاسترجاع الأسرى، لكن آخرين، خصوصا ستيوارت الذي توسط لإنجلترا، والإسباني الذي لم تشر له أغلب المصادر إلا بجنسيته، لم يدخلوا المغرب بصفة رسمية، وإنما تسللوا كجواسيس لجس النبض، وتكوين صورة عن أماكن احتجاز الأسرى الأوروبيين ومصيرهم، خصوصا بعد شيوع أخبار، وصلت إلى إسبانيا والبرتغال، مفادها أن جل الأسرى الأوروبيين الذين شاركوا في حروب بحرية ضد المغرب على سواحله، تحولوا إلى الدين الإسلامي واشتروا حريتهم مقابل تعليم أبناء المغاربة وممارسة مهن أخرى أيضا.
السير جاك.. تاجر الأسلحة الذي تجسس على المغرب من طنجة
مباشرة بعد تولي المولى يوسف للحكم، وخروج المغرب من أزمة الحكم التي اشتعلت، في السنوات العشر الأولى من القرن الماضي، بدأت أعداد الأوروبيين تتزايد، خصوصا في وسط المغرب، بعد أن ضاقت بهم طنجة.
يقول «السير جاك»، وهو واحد من المعمرين الذين كتبوا في مذكراتهم أنهم أرادوا قضاء العطل في طنجة، قبل أن تتحول تلك العطل إلى شبه إقامة دائمة، لم تنته إلا بانتهاء مهمات لم يكن يعلم عنها المغاربة أي شيء.
مهنته كانت، كما يبدو الأمر من اسمه العائلي، وكما يؤكده هو أيضا، صانع أسلحة. يقول إنه ورث المهنة أبا عن جد، واختار أن يستقر في طنجة، تأسيا بأصدقائه.
لكن ما لم يشر إليه السير جاك، هو ما يلي: «التقيت اليوم برجل من الفارين من المخزن. أخبرني أن القصر غاضب عليه، وأنه يفكر جديا في الرحيل من المغرب إلى فرنسا أو بريطانيا أو حتى أمريكا. قبل أن أجيبه، وضع في يدي حزمة من الأوراق المالية، وأخبرني أنه مستعد لكي يدفع لي أكثر مقابل أن أؤمن له رحلة في أول باخرة تقلع هذا اليوم، فكرت بسرعة في من يستطيع مساعدتي لكي أظفر بهذا الملبغ وربما أضعافه. لم أفكر كثيرا، والتجأت إلى السير جاك.. كنت أعلم أنه رجل نافذ في طنجة، وتجارته في الأسلحة مزدهرة، والأكثر من هذا، أنه مخبر ويعلم مواعيد إقلاع البواخر، ويمكن أن يؤمن رحلة هذا المخزني الفار، برسالة صغيرة إلى مصادره في الضفة الأخرى..». هذا الكلام هنا، لأحد التجار الذين كانوا يقيمون في طنجة بشكل اضطراري، والمقتطف أعلاه، من رسالة وجدت بين أرشيف أوراقه، بعد عودته النهائية إلى بريطانيا، وقام أحد أبنائه، خلال سنوات السبعينات بعرضها على بعض الباحثين.
اسم السير جاك، سيظهر من جديد، عندما أشار إليه صحفي كان يشتغل مع جرائد أوروبية من طنجة، ويزودها بالأخبار عن المغرب، وأنجز في إحدى مقالاته ربورتاجا عمن أسماهم، «عشاق المغرب»، وأدرج من بينهم سيرة «سير جاك» أو «السيد جاك». لكن إقامة الأخير في المغرب لا تتقاطع مع ظروف إقامة أغلب الأجانب الذين سكنوا طنجة لأسباب تتعلق بحياتهم المهنية واشتغالهم إما في التجارة أو السلك الدبلوماسي.
سيُكتب اسم «السير جاك» من جديد، لكن هذه المرة في مسقط رأسه، عندما سيذكره أحد أصدقائه في مذكراته، باعتباره جاسوسا لبريطانيا، تقاسم معه مهمات كثيرة في المشرق، وخصوصا في الهند التي كانت هي الأخرى مستعمرة تابعة للمملكة البريطانية.
لا يمكن لهذه الإشارات أن تخطئ الظن بالسير جاك، الذي بدا أن أمر جاسوسيته قد انكشف، خصوصا وأنه كان محط شبهات نظرا لتجارته في السلاح، واختياره طنجة ليقيم بها، في ظرف سياسي واقتصادي، حساس.
هؤلاء هم المخبرون الذين استقوا آراء المغاربة في السياسة وموقفهم من فرنسا
التجارة تكون دائما غطاء لأشغال التجسس على المغرب. في سنة 1836، كان «جورج كلاس»، على موعد مع مهمة أثارت في ما بعد أكثر من علامة استفهام. كانت في الأصل استكشافية، لكنها في ما بعد تحولت إلى مصدر شكوك بخصوص علاقات هذا التاجر. فقد كان همه أن يربط علاقات. وقبله أيضا جاء «جون دافيدسون»، والمشترك بينهما، أنهما حاولا التأسيس لأعمال تجارية على السواحل.
في تلك الفترة كانت القوة العسكرية البحرية في بريطانيا تضرب في آسيا، وتوسع مستعمراتها، على حساب دول أخرى، لكن السواحل المغربية، كانت من اختصاص البرتغال والإسبان. تحركات البريطانيين وضعت في سياقها الصحيح منذ البداية ولم ينطل الأمر على أغلب التجار المغاربة الذين حاول البريطانيان نسج علاقات معهم.
لكن جواسيس آخرين، دخلوا إلى المغرب باسم التجارة، استطاعو النفاذ إلى عمق دكالة ونواحي الدار البيضاء في وقت مبكر أيضا، وخالطوا التجار. بعضهم كتب ما دار بينه وبين أعيان المغرب في المنازل والأسواق، ما اعتبر تقريرا سريا في ذلك الوقت. يفهم من الأسئلة التي كان يطرحها هؤلاء المستكشفون، أو التجار المفترضون، أنها تتمحور دائما حول نظرة التاجر المغربي إلى نظام الحكم في المغرب، وعلاقاته مع الفرنسيين وإن كان يفضل التعامل مع بريطانيا أو دولة أخرى. وفي فترة سابقة، كان الأجانب يسألون التجار المغاربة عن رأيهم في السباق نحو الحكم في المغرب والخلاف الحاد بين أبناء المولى الحسن، وطبعا وفرت هذه العملية معلومات كثيرة عن كواليس ما يقع في المغرب، ورأي الأغلبية الصامتة، وهو بالضبط ما كان يدخل في صلب اهتمام البريطانيين والفرنسيين أيضا، قبل فرض معاهدة الحماية على المغرب، لتفوز فرنسا، ويقل وجود جواسيس بريطانيا في المغرب.
عندما وصلت الجاسوسية إلى الصحراء.. المعلومات مقابل المال
هنا نورد مثالا لواحد من أشهر نماذج التجسس على المغرب، في منطقة غير مألوفة هذه المرة. يعرف في التاريخ الأجنبي بأنه واحد من أكثر الرحالة والمغامرين جنونا. المغرب بالنسبة إليه محطة عابرة قضى بها مغامرات ومارس التجارة ليقرر الرحيل في الأخير إلى وجهات أخرى. لكنه في الحقيقة كان جاسوسا لصالح دولة بريطانيا. في 1875 أسس هذا الأخير شركة تجارية جعل لها مقرا في العاصمة لندن، ثم اختار أن يتوجه إلى المغرب بالضبط في يونيو 1876، باحثا عن مقر لفرع شركته. تقول المصادر التاريخية إن اسم الشركة كان «West African Company». غادر من ميناء ليفربول متوجها إلى المغرب لبدء مشروعه التجاري في إطار الشركة التي أسسها قبل عام في لندن. لكنه كان يرمي إلى التقرب أكثر من أعيان المغاربة. إذا كان آخرون قد اهتموا بكبار التجار الموالين منهم للمخزن وحتى الذين لا تربطهم به إلا الضرائب، فإن دونالد ماكينزي، اهتم بالمجال البحري أكثر، وآثر أن يتوغل جنوبا أكثر من الذين سبقوه، ليصل إلى طرفاية !
هناك سيرغب في تأسيس فرع لشركته، لكن حس «الجاسوسية» لديه، كان حاضرا بقوة عندما حاول التوجه إلى أهم رجل في المنطقة ليحصل منه على الموافقة ليؤسس مخزنا كبيرا لشركته، حتى يستطيع تصدير ما يحصل عليه هناك إلى بريطانيا مباشرة. هناك، بدأ في نسج أولى علاقته مع التجار المغاربة من أصحاب البواخر، وعقد صفقات كثيرة مع زعماء القبائل، الذين حرص على لقائهم والحديث إليهم أكثر من حرصه على عقد الصفقات. وما يثير الشكوك أكثر، أن التجارة التي مارسها ماكينزي، لم تكن رابحة بالمرة، كما أنه كان يطيل المكوث في سواحل طرفاية، غير آبه لمصير المواد التي كان يصدرها إلى الشركة الأم في لندن، لم يكن مربحا أن يقوم بمقايضة ما يأتي به من بريطانيا، بالمواد الأولية التي يتوفر عليها رجال القبائل وزعماؤهم، لكنه استمر في ذلك الوضع لمدة طويلة، لم يحصل خلالها على المال مقابل المواد التي كان يوفرها، والتي كان يعج بها مخزنه الذي أسسه فوق أرض طرفاية، علما أنه حصل على الأرض بالمجان، كعربون صداقة بينه وبين أحد زعماء القبائل النافذين هناك. نفس المصادر الأجنبية التي تناولت سيرة دونالد ماكينزي، تقول إنه ربط علاقات متينة مع رجل قوي ونافذ في طرفاية، كان اسمه محمد بن بيروك، بالإضافة إلى زعماء آخرين لقبائل بعيدة، كانت التجارة معهم تقوم بالأساس على المقايضة التي كانت برمتها عملية خسارة.
لم يبق من تفسير إلا قرن اسمه بالجاسوسية، لأن الحرص على تأسيس علاقات مع الزعماء، ومجالستهم لأوقات طويلة، والحرص على معرفة طباعهم وميولاتهم السياسية حتى.. كلها أمور غير بريئة، الأكيد أنها لن تدخل أبدا في اهتمامات تاجر ولو كان بريطانيا.
الدولة كانت صارمة مع الجواسيس والقصر جمّد تجارتهم
رغم الصورة التي حاولوا ترويجها عن أنفسهم، إلا أن الجواسيس الذين اشتغلوا في المغرب وأقاموا فيه، لم يكونوا أبدا بالقوة التي تبدو عليها كتاباتهم وتقاريرهم السرية التي كانت ترفع إلى الهيئات الدبلوماسية في طنجة، أو مباشرة إلى المصالح المتخصصة في الدول التي ينتمون إليها، خصوصا فرنسا وبريطانيا.
بعض هؤلاء الجواسيس، كانوا في الأصل رجال تعليم، اختارتهم فرنسا من بين أبنائها الذين ولدوا في الجزائر، أو أمضوا فيها فترة طويلة مكنتهم من إتقان اللغة والإلمام بالعادات، ورصدت لهم مكافآت مغرية مقابل توجههم إلى المغرب وإعداد تقارير عنه. هذه الحقيقة التاريخية تدخل في مجال البحث العلمي الذي روجت له فرنسا في ذلك الوقت، لكن السنوات التي تلت ذلك التاريخ أثبتت أن الأطماع الاستعمارية المتجهة نحو المغرب، هي التي حركت خيوط المرحلة.
وقبل ذلك التاريخ، وفي بداية الدخول الأجنبي إلى المغرب أيام المولى الحسن، كانت الدولة المغربية صارمة مع تحركات الجواسيس، ولم يكن الأمر يتعلق بأرض مفتوحة يمكن التجسس عليها بسهولة.
كانت سياسة المولى الحسن الأول واضحة في هذا الباب، لم يتم السماح للأجانب بتجديد التعاقدات التجارية التي تربطهم بالسواحل المغربية، بما في ذلك الأسماء التي ذكرناها سابقا، والتي جعلت من التجارة البحرية غطاء للتجسس.
السبب أن الحسن الأول وصله غضب رجال الدين من امتلاك الأوروبيين لأراض في السواحل وشروعهم في التعايش مع القبائل في الصحراء، وهو ما جعله يقطع مع الذين عقدوا اتفاقيات مع هؤلاء البريطانيين بهدف التجارة، ويعين مكانهم آخرين، كانت لديهم مواقف متطرفة بخصوص الوجود الأجنبي بالمغرب.
الجاسوسية كانت دائما موضوعا مطروحا لدى المغاربة، لكن أغلبهم كانوا يستبعدون أن يكون الأجنبي الماثل أمامهم واحدا من الذين يشتغلون في جمع المعلومات. الدليل أن أجانب كثرا، كتبوا أن المغاربة لم يثقوا بهم بسهولة، كما كان متوقعا، وأن مسألة الثقة تطلبت منهم التفرغ التام للتجارة وتقديم يد العون للمغاربة وهو ما يعني عدم انتظار الأرباح من الأنشطة التجارية التي كانوا يزاولونها بالمغرب، ولم تنجح الحالات التي نسجوا فيها علاقات وطيدة مع نافذين مغاربة، إلا مع البعض فقط.
نفور المولى الحسن الأول من الأجانب، سجل وقتها موقفا كبيرا للدولة المغربية من الوجود الأجنبي، ووجد أغلب هؤلاء التجار أنفسهم مجبرين على الرحيل من المغرب، بعد أن استحال بقاؤهم خصوصا في طرفاية، بدون مبرر تجاري، أمرا مستحيلا.

جواسيس قتلوا واقتلعت أعينهم وآخرون فروا حفاة خارج المغرب
لا أحد من الذين عاشوا في المغرب ما بين سنوات 1907 و 1909، سينسى، حيا أو ميتا، هول الحرب الأهلية التي دارت رحاها في بؤرة أكبر تجمع للأجانب في المغرب.
تقول بعض الروايات التي واكبت هذه الفترة، إن الشارع المغربي، خصوصا أبناء القرى والمناطق الفلاحية المحيطة بالدار البيضاء والممتدة إلى محيط الرباط والجديدة وحتى مراكش، كانوا غاضبين جدا من وجود الفرنسيين، قبل معاهدة الحماية، في الشوارع المغربية.
الجواسيس البريطانيون أنفسهم رصدوا هذا الأمر، وعلموا من كبار التجار خصوصا في دكالة ومراكش، أن الناس ليسوا راضين أبدا عن الوجود الأجنبي في المغرب وأن غضبا عارما سيجد طريقه إلى الشوارع.
هؤلاء علموا مبكرا أن المجزرة الشهيرة التي حدثت بالدار البيضاء، كانت نيرانها تتقد منذ شهور، لكنهم لم يخبروا الفرنسيين بأي شيء، وتراجعوا إلى طنجة التي كانت آمنة بكل المقاييس.
المراسلات القديمة للدبلوماسية البريطانية بالمغرب، تفيد أن هناك تحذيرات دائمة يوجهها القنصل البريطاني إلى جميع رعايا المملكة البريطانية، الوافدين إلى المغرب، وتحذرهم من الوصول إلى مناطق من بينها وسط المغرب، ولا تقدم لهم ضمانات إلا في طنجة. هذه الخريطة الأمنية التي أوصت بريطانيا رعاياها بالالتزام بها، لم تكن في الحقيقة إلا نتيجة للمعلومات التي توصلت بها من الذين قدموا أنفسهم على أنهم تجار أو مستكشفون.
بالعودة إلى حادثة الدار البيضاء، فإن البريطانيين توقعوا أن تكون هناك ضربة للفرنسيين الذين انتشروا بكثرة في الدار البيضاء والمناطق الزراعية ليبدؤوا التأسيس لسلسلة طويلة من الضيعات الفلاحية، والتي فروا منها بعد الاستقلال خوفا على حياتهم من انتقام الفلاحين الذين اغتصبت منهم أراضيهم في ذلك الوقت.
توقع البريطانيين للضربة عجل بالتخفيف من وجودهم في الدار البيضاء وقتها، وفهم الأمر على أنه انسحاب ورضوخ للقوة الفرنسية التي بسطت نفوذها في المغرب بشكل أوسع، منهية المنافسة البريطانية حتى قبل التوقيع على الحماية، لكن ما لم يعرفه الفرنسيون، أن هناك مؤامراة تحاك في البوادي، للانتقام منهم بعد أن بنوا أحياء متكاملة في الدار البيضاء ونواحيها.
والأخطر أن عدد الفرنسيين كان في تزايد. وتشير بعض الكتابات الفرنسية إلى أن عددا من الوافدين الأوائل إلى الدار البيضاء، كانوا في الأصل مخبرين سريين، مهمتهم مراقبة المنطقة ومخالطة الرجال النافذين، لكن الدار البيضاء وقتها لم تكن تمثل النخبة الحقيقية للمغرب، ولا حتى التجار الذين كانوا يتحكمون في كل شيء، ويحصلون على رضا المخزن.
سيكون على الفرنسيين أن يؤدوا الثمن غاليا، لكن الضربة منحتهم فيما بعد الذريعة الأنسب لتوجيه ضربة عسكرية إلى الدار البيضاء وحيازتها منهزمة بشكل رسمي، تمهيدا لبسط النفوذ العسكري في المغرب كاملا.
حتى لا نستبق الأحداث، فإن مهمة الجواسيس الفرنسيين لم تؤت أكلها، لأن المدة الفاصلة بين تقاطرهم على الدار البيضاء والهجوم الذي تعرض له الفرنسيون في المغرب، كانت قصيرة ولا تكفي لجمع معلومات كثيرة، كان البريطانيون قد وصلوا إليها قبل مدة !
الإعداد للهجوم استمر لأسابيع، غضب خلالها الأهالي من سيطرة الفرنسيين على أجود الأراضي الزراعية التي انتزعت من أصحابها بالقوة، وأيضا لأنهم حصلوا على المنازل الجديدة التي بدأ تشييدها في الدار البيضاء. جاءت الجحافل الغاضبة إلى الدار البيضاء كما لو أن الأمر يتعلق ب«حركة» من حروب المخزن ضد أعداء الدولة، ودخلوا الدار البيضاء بشكل مفاجئ، لم يملك معه الفرنسيون الذين كانوا مدنيين، أن يلتجئوا إلى أسلحتهم التي لم يكن ليخلو منها أي منزل. كان هجوما مفاجئا.
الفلاحون الغاضبون، توجهوا إلى المنازل وأخرجوا الفرنسيين الذين كانوا بداخلها إلى الشوارع، وبدأ البعض في إحراق المنازل والأثاث، وتحطيم واجهات المتاجر، التي كان المغاربة حديثي عهد بها في ذلك الوقت. في وقت توجه فيه آخرون إلى الضيعات الفلاحية، بالعشرات، ليشهدوا مواجهات مسلحة مع الفرنسيين الذين سيطروا على تلك الأراضي الفلاحية، وانتهت المواجهات بمقتل أغلب الفرنسيين الذين وجدوا أنفسهم منفردين ببنادق صيد في مواجهة عشرات أبناء البوادي الأقوياء الذين كانوا يجيدون ركوب الخيل والتصويب والرماية أيضا.
لم ينته ذلك اليوم إلا بمقتل عدد كبير من الفرنسيين وبعض الجنسيات الأخرى، وتقرر فرنسا إرسال أسطول بحري إلى الدار البيضاء لبدء رد عسكري على الهجوم الذي شنه سكان محيط الدار البيضاء على رعاياهم الفرنسيين، وهو الأمر الذي شكل ضربة موجعة للمغرب.
العمل المخابراتي، في تلك الفترة المبكرة جدا من تاريخ المغرب الحديث، وتاريخ علاقاته مع فرنسا وإنجلترا وأمريكا أيضا، لم يكن بدائيا. كان هناك دور كبير للمعلومة السرية في نسج المؤامرة التي أدت إلى بسط السيطرة نهائيا على المغرب.
نهاية بعض هؤلاء الجواسيس لم تكن تتشابه، فإذا كان بعضهم محظوظا بالعودة إلى ما وراء البحر بعد انتهاء المهمة، ليصبح غنيا بفعل مراكمة الأموال التي حصل عليها بعد دخول المغرب بغطاء تجاري، فإن آخرين كانت نهايتهم مأساوية.. خصوصا الفرنسيين منهم.
البعض نزعت أسلحتهم، وطردوا مذلولين بعد أن تخلى عنهم أصدقاؤهم المغاربة، كما هو حال الجاسوس «هاملتون»، حيث وصلته أخبار من بعض أصدقائه أن تاجرا في مراكش يريده ميتا، بعد خلاف حاد بينهما. وبدل أن يعول على دعم أصدقائه المغاربة، بدا له أن قوة التاجر المراكشي لن تنفع معها وساطات تجار أصدقاء، فاختار أن يفر فورا إلى طنجة ومنها إلى بلده، تاركا خلفه أمتعة كثيرة، ولم يحمل معه إلا بعض المال الذي أحسن إخفاءه حتى لا يصل إليه قطاع الطرق.. هؤلاء سلبوه سلاحه لكنهم لم ينجحوا في كشف المال الذي خبأه بعناية بين ملابسه.
يب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.