توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات مثيرة لجواسيس نفذوا عمليات خطيرة فوق الأراضي المغربية
من جرير الشماخ إلى ابن غبريط.. مسار جاسوسية بطعم الدين والفكر والسياسة
نشر في المساء يوم 16 - 02 - 2014

هل يمكن اعتبار ابن جرير الجدري، الملقب بالشماخ، الذي قام بتصفية السلطان إدريس الأول، هو أول جاسوس أجنبي في تاريخ المغرب؟. أم أنه مجرد مجرم كان يؤدي مهمة العباسيين في حربهم ضد الخارجين عن الحكم.
تعددت روايات الاستخبار واتخذت أكثر الأشكال تلونا، لاسيما مع وجود «بروفايلات» ملائمة لجواسيس زمن بالأبيض والأسود، أغلبهم من اليهود. مارس اليهود المغاربة التجسس على غرار يهودا بن مشعل، الذي كان سباقا إلى احتراف العمالة لحساب قوى استعمارية أجنبية، قبل أن يلتحق به رجال دين وفكر على غرار باديا العباسي أو علي بيه، الذي وضع له الإسبان تمثالا في طنجة قبل هدمه وحمل شارع في تطوان اسمه. إضافة إلى المبشر شارل دو فوكو والجزائري قدور بن غبريط، وانتهاء بمليكة اليهودية.
الملف يرصد عمليات الاختراق، التي تحالف فيها الفكر والدين مع الخداع والنذالة.
واهم من يعتقد أن تاريخ الجاسوسية بدأ مع اندلاع الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وأن الجاسوسية تزدهر في الحرب وليس في السلم، وأن الدهاء «فرض عين» في أكثر المهن «حقارة» وجسارة أيضا.
تنتعش الجاسوسية في السلم والحرب، وتقطن هواية الاستخبار في دواخل كل إنسان، دون الحاجة إلى جهاز أو وكالة أو إدارة ترسم خارطة الاستخبار. لكن الجاسوسية بمفهومها المهني تحولت إلى وظيفة تتطلب شروطا ومعايير لا تختلف كثيرا عن باقي المهن ذات الارتباط بالشأن الأمني.
قال نابليون يوما وهو يحدث كبار عساكره ويحذرهم من خطورة الاختراق: «جاسوس واحد في جيشي أخطر من ألف جندي في جيش عدوي». وهي قولة تكشف عن مخاطر الاختراق الاستخباراتي لاسيما العسكري.
في عالم يتطور بشكل سريع، أصبحت التكنولوجيا الحديثة في خدمة الجاسوسية، فالحبر السري والجوازات المزورة وتغيير الملامح واستنفار العنصر النسوي، أمور أصبحت متجاوزة في زمن الأقمار الاصطناعية التجسسية التي تنوب عن العيون في مراقبة الحدود الترابية، وتلغي فرضية الخطأ التي ارتبطت بالإنسان.
الآن، هناك خصم مشترك، إلا من بعض الاستثناءات في الشرق الأوسط، والأنظمة الحاكمة لا تخشى على وجودها من حركة معارضة، تملأ بطاريتها وجيوبها من خصوم سياسيين للوطن، بل تخاف على كينونتها من التنظيمات المتطرفة، أو ما أصبح يصطلح عليه بالإرهاب الدولي.
لكن الحكومات تفضل الاستعانة بالأنظمة التجسسية المتطورة، دون الحاجة للكشف عن نواياها وعن قلقها من تحركات المتطرفين، لذا فهي تحاول أن تقنع شعوبها بغايات أخرى ل»مساعدة الحكومات على حماية الحدود ضد تجار المخدرات وضد المهربين والمهاجرين غير الشرعيين»، دون الإفصاح عن الغاية المستترة من التجسس التكنولوجي الهادف إلى تتبع تحركات التنظيمات المتطرفة.
تقول إسبانيا إنها استعانت بقمر اصطناعي لرصد المهاجرين السريين وهي تقصد الإرهابيين، بينما تؤكد مصادر إسبانية أن عملية «حصان البحر» عمل استخباراتي ليس من أولوياته جحافل «الحراكة»، بقدر ما يرمي إلى رصد تحركات المد المتطرف.
وما قيل عن إسبانيا ينطبق على إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وكثير من الدول، التي تؤمن بأن طائرة تجسس واحدة تغني عن توظيف جيش من المخبرين، لقدرتها على التصوير الرقمي الدقيق.
ولأن المغرب يعرف أن الخطر يأتيه من الجنوب والشرق والشمال، فإنه لم يتردد في الاستعانة بالتكنولوجيا المتطورة لتحصين التراب الوطني وتأمين سلامة النظام، دون التفريط في «الرادارات الآدمية» التي تركض خلف المعلومة لتقدمها لمن يهمه الأمر وعليها عبارة «سري للغاية»، في ظل فترة زمنية تتميز بارتفاع منسوب الغضب في الشارع، وما تولد عنه من حراك أسقط كثيرا من الأنظمة، التي كانت صامدة ضد عوامل التعرية.
لم يعد رأفت الهجان رمزا للجاسوسية، لأن الاستخبار تجاوز حدود طاقات البشر ودهائه، إلى ما هو أكبر، من المشي خلف مسؤول رفيع المستوى وتفتيش حقيبته، لأن الهاكر انضم إلى الجهاز، وأصبح عنصرا أساسيا في العمل الاستخباراتي، فوكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهيئة الاتصالات الحكومية البريطانية لهما برامج معلوماتية جد متطورة عن التنصت الإلكتروني، مكنهما من اعتراض البيانات المستخدمة من طرف مئات الملايين من مستخدمي موقعي «غوغل» و «ياهو»، في ما يعرف بفضيحة التجسس بين الولايات المتحدة وحلفائها.
لكن مهما كان الاختلاف بين جاسوس الأمس واليوم، إلا أنه لا يمكن الاستغناء عن المورد البشري، فالعميل جزء لا يتجزأ من العمليات الاستخباراتية مهما بلغت التكنولوجيا من تطور، وهو ما كشفت عنه تسريبات ويكليكس التي نشرت غسيل الجاسوسية الأمريكية، وكشفت عن دور الديبلوماسية في جمع المعلومات بحسن أو سوء نية، لهذا فإن أغلب السفراء والقناصلة مارسوا الاستخبار طوعا أو كراهية، منذ نشأة الديبلوماسية، قبل أن تضطلع البعثات الاجتماعية والفكرية والدينية بهذا الدور.
كان النظام المغربي من دولة الأدارسة إلى العلويين، حريصا على تحصين حدوده البرية والبحرية، لأن الخير والشر يأتيان سواسية من وراء الحدود، لكن بعد نيل الاستقلال انتشرت نظرية المؤامرة، وأصبح القلق داخليا والهوس محليا من الاتحاديين والانفصاليين والإسلاميين. إلا أن الانشغال الكبير بالجزائر كمصدر قلق وبالصحراء وما وراء الصحراء، ومن المتطرفين الدينيين لا يعفي جهاز المخابرات من رصد تحركات الخصوم التقليديين.
اليقظة شرط أساسي في هذا العمل التنكري، وتطور حاسة الشم أمر مطلوب لدى العاملين في جهاز يراقب حركات وسكنات الديبلوماسية الجزائرية في علاقتها مع الانفصاليين، كما تراقب رجالات البوليساريو في علاقتهم مع متطرفي «المغرب الإسلامي»، دون الإخلال بالثوابت التي تجعل الموساد الخطر الأكبر القادم من الشرق. لاسيما أن السير الذاتية لكثير من المخبرين الإسرائيليين كشفت عن توغل الموساد في النظام المغربي منذ أن نال الاستقلال، حيث كشف كتاب «الحروب السرية» لمؤلفيه «يان بلاك» و»بيني موريس» أن اليهودي دافيد قمش سهل ارتباط الجنرال أوفقير بالموساد. كما كشف الكتاب أن الجنرالين أوفقير والدليمي سافرا أكثر من مرة إلى إسرائيل بجوازات سفر إسرائيلية سلمت لهما بباريس.
استعان الفرنسيون برجال الفكر والدين في رسم خارطة الطريق نحو المغرب، ولم يعبدوا طريق الحماية إلا بعد أن أرسلوا رجالاتهم بأقنعة متعددة لقراءة أحوال البلد ورسم خرائطه الاجتماعية والجغرافية والسياسية. كما تمت الاستعانة باليهود لتحقيق دخول آمن إلى بلد ظل محصنا ضد كل النوايا الاستعمارية. الاختراق تجاوز حدود فهم بلد إلى ولوج تحصينات السلاطين وتقلد مناصب عليا داخل غرفة القرار، وعلى نفس النهج سار المستعمر الإسباني، الذي وظف كثيرا من عملائه لتحقيق أهدافه التوسعية.
ادريس الأول.. أول عملية تصفية استخباراتية في تاريخ المغرب
اعتقد المولى إدريس بن عبد الله أن فراره من قبضة العباسيين عقب معركة فخ، سيمكنه من الاستقرار في المغرب بعيدا عن عيون وسهام هارون الرشيد، والشروع في بناء فكر جهادي ضد العباسيين بنشر الدعوة العلوية في بلاد المغرب العربي. جاء في كتاب القرطاس لابن أبي زرع، أن مقتل عشيرة ادريس بن عبد الله في معركة فخ دفعته إلى الهروب متنكرا من مكة إلى المغرب عبر مصر وتونس، وعلى امتداد الطريق تحول ادريس بن عبد الله إلى عابر سبيل يطوي المسافات صوب مقصده، وجاء في "الاستقصا" أن ادريس ورفيقه راشد حلا بالقيروان وأقاما فيها ومنها إلى تلمسان ثم رحلا صوب طنجة قبل أن يستقر بهما المقام في مدينة وليلي على سفح جبل زرهون، و"كانت مدينة حصينة كثيرة المياه والغرس والزيتون، وكان لها سور عظيم من بنيان الأوائل يقال إنها المسماة اليوم بقصر فرعون، فنزل بها إدريس عند صاحبها ابن عبد الحميد الأوربي، فأقبل إليه ابن عبد الحميد وبالغ في إكرامه وبره، فعرفه بنفسه وأفضى إليه بسره فوافقه على مراده وأنزله معه في داره". لكن "ضيافة النبي" تجاوزت الثلاثة أيام، بل تحولت العلاقة إلى مصاهرة، بل إن مضيفه كان أول من بايعه في قبيلة أوربة أكبر حواضر قبائل البربر في المغرب الأقصى وأكثرها تعدادا، وتوالت بيعة القبائل كزناتة ومصمودة وصنهاجة وهوارة لتنضم إلى جيشه الذي شرع في فتوحاته ابتداء من تامسنا وصولا إلى تادلة ناشرا الدعوة الإسلامية.
لكن القدر لم يمهله لتوسيع غزواته ونشر ديانته وفق أحكام الشريعة التي كان متشبعا بأفكارها، إذ تم اغتياله بدس سم في قنينة عطر، فيما يرى مؤرخون آخرون أن مؤسس الدولة الإدريسية قتل بسم في مسواك إثر إصابته بآلام في الأسنان، فيما ذهب البيهقي إلى أن الاغتيال كان بدس سم في "بطيخة". ومهما تعددت الأقاويل إلا أن المرجح هو اغتيال السلطان بسم زعاف بواسطة شخص يدعى ابن جرير الجدري الملقب بالشماخ، وهو رجل جاء من العراق موفدا من طرف هارون الرشيد في مهمة خاصة تروم القضاء على سليل أسرة علي بن أبي طالب والمعارض للنظام العباسي الذي كان يحكم الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية، وكان الشماخ قد وضع خطة لتصفية مولى إدريس بالتقرب إليه مما مكنه من خلق إجماع حوله نال به ثقة السلطان قبل أن يجهز عليه.
وتقول بعض الروايات التاريخية إن سليمان الشماخ رتب المؤامرة مع القائم على شأن القيروان، قبل أن يجهز على السلطان سنة 177 هجرية وكان عمر الفقيد 47 سنة، وعزز تاريخ الطبري هذه الرواية بالقول "إن الرشيد دس، إلى إدريس، الشماخ اليمامي، مولى المهدي فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم، وعظمه، وآثره على نفسه، فمال إليه إدريس، وأنزله عنده، ثم إن إدريس شكا إليه مرضا في أسنانه، فوصف له دواء، وجعل فيه سما، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر، فأخذه منه، وهرب الشماخ، ثم استعمل إدريس الدواء، فمات منه". وحسب الروايات ذاتها، فإن دقائق كانت كافية لمصرع مؤسس دولة الأدارسة الذي كشف لزوجته عن اسم الفاعل قبل أن يتحول إلى كائن "مسموم" حينها تمت مطاردة الفاعل الذي غادر المكان، وقيل إنه قتل في المنطقة التي تسمى الآن وجدة من طرف رجال "اقتفوا أثره ووجدوه في مكان غير بعيد من وجدة الحالية وقتلوه" ومنها جاء اسم وجدة، ومن المؤرخين من يقول بأن يد الفاعل قد بترت، ومنهم من أكد أن هارون الرشيد كافأ الشماخ بتعيينه على بريد مصر وهو المنصب الذي تلقاه منفذ عملية الاغتيال بقلق، لأنه كان يعتقد بأن التصفية تتطلب منصبا أكبر.
من يهودا بن مشعل إلى مليكة اليهودية
لعب اليهود المغاربة دورا كبيرا في العمليات الاستخباراتية منذ زمن بعيد، ويعد يهودا بن مشعل سباقا إلى الاشتغال بهذه المهنة بعد أن لمس ارتفاع الطلب عليها خلال فترات التمرد ضد سلاطين المملكة الشريفة، حيث كان يقطن في ضواحي مدينة تازة ويجند دهاءه للقيام بعملياته بعيدا عن الأعين، قبل أن ينكشف أمره ويداهمه سكان قبيلة بني يزناسن. وجاء في "تاريخ الدولة السعيدة" لمحمد الضعيف الرباطي، حديث عن النهاية المأساوية لهذا الجاسوس الذي كان يتلقى عمولات من أجل نقل أخبار محيط السلطان ويساهم في نشر الفتنة بين القبائل، "حين تمت مداهمته ليلا والبطش به وعثر في بيته على ذهب وفضة ومتاع نفيس مما حرك الصراع من جديد حول هذه الثروة بين مولاي الرشيد وشقيقه محمد". وظلت مناورات اليهود حاضرة في المشهد السياسي في بدايات عهد الدولة العلوية، إذ أن يهوديا يدعى شتريت اشتغل طبيبا للمولى سليمان سرب إشاعة مغرضة تقول إن السلطان قد مات، مستغلا مرضا أقعد الحاكم وحال دون خروجه إلى الرعية في صلوات الجمعة وفي غاراته على القبائل المتمردة، انتشرت الإشاعة كالنار في هشيم بلاد تعاني من سقم التفرقة، ووصف هاشم المعروفي في كتابه "عبير الزهور" الوضع عقب تسريب معلومة خاطئة بالمضطرب: "وقع الهرج في الناس وأخذوا في كيل الزرع والفاخر والسمن والإدام والحطب من الظرفية المقلقة، وحلت الفتنة وأراد العبيد دخول بيت المال، وحل ابنه محمد من درعة أملا في خلافته، وتمرد ناس درعة ورفضوا دفع الإتاوات، وشاع الخبر في سلا والرباط وخرج اليهود يبيعون الزرع، والاغتناء من هذا الوضع قبل أن يخرج عامل المدينة محمد السلاوي ويلقي القبض على اليهود ويسجنهم". كان الناس يقسمون بموت السلطان، الذي تأخر خروجه فزاد من انتشار الإشاعة، قبل أن يقرر إنهاءها بحضوره صلاة الجمعة في حشد كبير، وليتبين أن الطبيب اليهودي كان يخدم مصلحة شقيق السلطان.
ظل العمل الاستخباراتي "حرفة من لا حرفة له من اليهود"، كما يقول الكاتب المصري صلاح الإمام، الذي رصد هذه العلاقة وتحدث عن جاسوس إسرائيلي يدعى نبيل النحاس أعدمته السلطات المصرية مباشرة بعد حرب أكتوبر 1973. حل نبيل بالمغرب في ذروة الصراع حول الصحراء وتنقل خفية إلى مدينة الداخلة وأقام في الدار البيضاء لدى عائلة يهودية مغربية، فأقام علاقة مع إحدى بناتها وتدعى مليكة التي تبين أنها تشتغل مع الموساد، "في خضم افتتانه بمليكة المغربية، اقترحت عليه السفر والاستقرار معها بباريس، وهناك عرفته على باسكينر, ضابط الموساد الإسرائيلي، الذي درس شخصيته دراسة دقيقة فتولى أمره وتعهده ليصنع منه جاسوسا ملما بفنون الجاسوسية، ولما أيقنت مليكة أنه سقط في براثنها نبهته بطريق غير مباشر إلى ضرورة إدراك حقيقة لا بد من أن يعيها، وهي أنها يهودية تدين بالولاء لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد والجنسية ولغتها عربية فرنسية، وأمام هذا المستجد المدروس أبقى الضابط باسكينر مليكة إلى جوار الجاسوس الجديد، فوجودها مهم للغاية في تلك المرحلة الأولى من الإعداد والتدريب، بالإضافة إلى أن خضوعه كان مرهوناً بوجودها، إلى جانب آلاف الدولارات التي ملأت جيوبه فأسكرته، وأنسته عروبته وقوميته، فهي تمنحه النعيم ليلاً بينما يدربه باسكينر وزملاؤه نهارا".
ورصد كتاب "من القدس إلى دمشق وبالعكس" من تأليف روني شاكيد، أن رجلا يدعى مسعود بوتون لبناني الأصل، "بعد انتهاء حرب 1948 أوفدته الوكالة اليهودية إلى المغرب العربي للمشاركة في تهجير اليهود، وبعد عودته في العام 1954 تم تجنيده في شعبة الاستخبارات، وهي الوحدة المكلفة بتجنيد وتدريب عملاء إسرائيليين للعمل في الدول العربية".
لوروا فينفيل.. العميل الذي نجا من الموت بفضل ماخور فضالة
حكاية هذا المخبر بدأت من المغرب وانتهت في فرنسا، قدر الكولونيل لوروا فينفيل أن يقتات من العمل الاستخباراتي، في علاقة غريبة مع المغرب، إذ بدأ أولى خطوات الجاسوسية في بلادنا حين عين ضابطا بالجيش الفرنسي بالدار البيضاء، وانتهى مدانا في ملف اختطاف المهدي بن بركة، عندما كان مسؤولا في جهاز الاستخبارات الفرنسية، وبين المرحلتين انتدب قائدا عسكريا في المستعمرات الفرنسية بإفريقيا السوداء.
عاش الأيام الأخيرة من ظلمة الاستعمار في المغرب، بل إنه كاد يقتل حين صادفته جموع من المغاربة وهو بمدينة المحمدية في طريقه إلى الرباط لغرض إداري له طبيعة استخباراتية إذ كان محملا بوثائق سرية، يوم عودة الملك محمد الخامس من المنفى وتمت مداهمته لولا حضور دورية فرنسية بالصدفة إلى عين المكان.
يقول الكاتب فليب بيرنير في رصده لسيرة هذا الجاسوس، إن لوروا كان مستعدا لتصويب طلقة نارية إلى رأسه على أن يسقط في يد المغاربة، نظرا لسجله الحافل بالاعتداءات على الوطنيين وأسرهم، ويضيف بأنه اضطر إلى قضاء ليلة في ماخور على الشريط الساحلي لفضالة، يقول المخبر العسكري في بوحه " كانت طريق الدار البيضاء مقطوعة، ومن المستحيل الوصول إلى الرباط. قلت لرفيقي لن نبلغ قاعدة مديونة على قيد الحياة. هناك حل واحد، اللجوء إلى مكان قريب، بناية شامخة مررت أمامها عدة مرات دون ولوجها، علما أن السيارات الفاخرة المركونة قربها أثارت انتباهي". طلب الرجلان اللجوء الوجداني إلى الماخور، الذي كان يسمى ب"سفانكس" أجواء مخملية بعيدا عن صخب الشارع الثائر. ولم يغادراه إلا بعد أن هدأت العاصفة.
باديا العباسي.. جاسوس ظل اسمه على شارع رئيسي لتطوان
كبرت أطماع إسبانيا في المغرب، وتمكنت من احتلال كثير من الثغور الساحلية في حقب تاريخية متباينة، قبل أن تنال حصتها من كعكة الاحتلال في الفترة ما بين سنتي 1912 و1956. لكن هذه الرغبة تعززت بأقراص التجسس التي فتحت شهية ابتلاع مغرب كان يعيش تحت صفيح ساخن.
الحكومة الإسبانية شخصا يدعى باديا العباسي، لكن اسم الشهرة أو الاستخبار هو علي بيه. وعد الرجل أسياده بتمهيد الطريق ليس نحو احتلال المغرب، بل لبسط السيطرة على شمال إفريقيا في ما يشبه الحرب الصليبية، على أساس جعل المغرب منطلق الحملة. اختارت إسبانيا لهذه المهمة مخبرا مسلحا بالفكر والدهاء، فقد كان باديا عارفا بعلوم الرياضيات والعلوم مجيدا للغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والعربية وطبعا الإسبانية، هذه المؤهلات مكنته من احتلال مراكز قيادية قبل أن يبلغ عقده الثاني.
ولد باديا في غرناطة سنة 1795 ونشأ فيها وتزوج من الثرية ماريا لويس، فساعده صهره على إنشاء منطاد إلا أن تجربة الطيران باءت بالفشل، مما جعله يصرف النظر عن الاختراعات ويفكر جديا في دوره الاستخباراتي، فانتقل إلى المغرب وأصبح يعرف بالأمير العباسي، في عهد المولى سليمان الذي عرف عهده حركات تمرد في كل ربوع الوطن، بأمر من شارل الرابع، ولقد رافقه في هذه الرحلة رفيقه روخاس كليمانتي، بعد أن نالا ما يكفي من مال وزاد.
تجمع الكتابات التاريخية على غرابة التصور الذي قدمه الجاسوس الإسباني علي بيه، إذ قرر انتحال صفة "عابد متنسك" عربي "وادعاءه الحج إلى الأماكن المقدسة كسليل للنبي وكونه يسعى بذلك للحصول على ثقة سلطان المغرب أو مساعدة التعاون ضد الثوار وجعل السلطان يقوم بنفسه بطلب التأييد الواسع من البلاط"، أما مرافقه روخاس فانتحل صفة شخص ورع وحمل اسم محمد بن علي.
اشتغل الرجلان تحت وصاية الجنيرال الإسباني كودوي، الذي ظل على اتصال مستمر مع موفديه إلى المغرب، منذ أن وطأت قدماه مدينة طنجة سنة 1803، يقول الجنرال الإسباني في مذكراته: "لقد أدركت غرابة القصد بالنسبة لباديا ومحاولة انتقاله لا كإسباني بل كعربي مسلم وحاج وأمير من نسل النبي، بحثا عن ثقة سلطان المغرب، فاقترحت عليه طلب السلطان التعاون معنا والتحالف ضد الثوار، وإذا ما قبل السلطان ذلك كان باديا هو المنفذ والمحاور رأسا في ذلك مع بلاطنا وحصوله على السلطات الواسعة لذلك، وإذا لم يبلغ من ذلك مآربه، يقوم بعملية الاكتشافات كرحالة والتعرف على قوات المغرب ورأي شعوبه، بعد أن يحاول التفاهم مع خصوم السلطان بإعلان الحرب ضده وإمداد الإعانات اللازمة مقابل التنازل لنا عن قسم من الإمبراطورية طبق ما نريد".
كانت مهمته تحتمل الفشل والنجاح، مما يؤكد سوء نوايا الحكومة الإسبانية التي كان همها وضع اليد على المغرب، لهذا حمل الجاسوس وجهه في يد وقناعه في اليد الأخرى، مع الحرص على إشعار الحكومة الإسبانية بتفاصيل كل خطوة.
نجح المخبر الإسباني في نسج علاقات صداقة مع المولى عبد السلام شقيق السلطان المولى هشام، وشرع في تحريضه على التمرد، معلنا رغبة إسبانيا في دعمه ومساندته، لكن الخطة وصلت إلى علم السلطان الذي أمر بإلغاء كل المعاهدات المغربية الإسبانية. وحين فشل الجاسوس في مهمته عاد إلى مدريد حيث استقر بها مكتفيا بالحد الأدنى من العيش، وهو يجتر ذكريات سنتين في المغرب.
لكن بالرغم من الضرر الذي عرفته البلاد نتيجة غارات هذا الجاسوس ورفيق دربه الجنرال كودوي، إلا أن مدينة تطوان لازالت تؤرخ لمرورهما الماكر في شمال المملكة، بإطلاق اسميهما على شارعين متقاربين هما من أهم شوارع الحمامة البيضاء.
شارل دو فوكو.. عبد طريق الاستعمار بالتبشير
بدأ هذا الشخص عسكريا وتحول إلى مخبر لدى الحكومة الفرنسية، قبل أن ينتهي به المطاف مبشرا في شمال إفريقيا. وصفه هشام المعروفي في كتابه "عبير الزهور" بركن من أركان الاستعمار الفرنسي، ولأنه كان رساما ماهرا فقد رسم لوحة صور فيها الشمال الإفريقي كطائر صدره الجزائر وجناحه الأيمن تونس والأيسر المغرب، وطيلة دعوته لاحتلال تونس والمغرب كان شارل يردد قولته الشهيرة: "لا يمكن للطير الفرنسي أن يبقى بدون جناحين"، في زمن كان فيه الجزائر يعيش تحت مظلة المستعمر.
في سنة 1887 حل شارل بالمغرب وبدأ يتجول في ربوعه بزي يهودي، إلى أن اكتشف أمره، فاغتيل من طلقة نارية من أحد المغاربة الذين تربصوا به، وقتلوه حين لمسوا دعواته إلى استبدال الدين الإسلامي بالمسيحي، وتناسى هويته اليهودية المستعارة.
كان دو فوكو من الممهدين للاستعمار الفرنسي بالمغرب، كانت مهمته واضحة "رسم خارطة الطريق"، إذ كان يجوب الدواوير والقرى والمدن، لإيمانه الراسخ بأن السبيل الوحيد لضمان ولاء المغاربة لفرنسا هو تنصيرهم، على حد قول الباحث المغربي محمد السروتي في "مدخل لتاريخ التنصير".
تشبع شارل بالفكر الاستعماري حين عين ضابطا عسكريا في مدينة سطيف الجزائرية، حيث شارك في قمع العديد من الانتفاضات التي اندلعت من طرف المجاهدين، كان عمره آنذاك 23 سنة، إلا أن ميولاته نحو اكتشاف المناطق الجديدة، خاصة دول المغرب العربي ساهم في تقديم استقالته من الجهاز العسكري والانكباب على البحث والتحري، بعد أن طاب له المقام في العاصمة الجزائرية، وتعرف على شخص يهودي يدعى ماك كارتي كان قائما على المكتبة الجزائرية، وتعرفه على الحاخام مردوخي أبو سرور، الذي شجعه على التنكر في زي يهودي لاقتحام المغرب الأقصى بأقل مشاكل.
لكن الغريب في مسار هذا المخبر الفرنسي، أنه لم يأخذ من اليهودية سوى زيها، إذ حرص على عدم مخالطة الطائفة اليهودية، ولم يدخل الملاح إلا نادرا مما أثار شكوك المغاربة. اشتغل الرجل على جغرافية المغربية واعتبرها مسلكا آمنا لاحتلال البلاد، لاسيما وأنه تمكن من الإلمام باللغتين العربية والأمازيغية ونزر قليل من العبرية.
دون شارل ملاحظاته ورسم بدقة الطرق والأنهار والقناطر والجبال والسهول وكل المعطيات الجغرافية حول المغرب، في رحلة دامت سنة كاملة، وبدل أن يعود إلى فرنسا اختار الجاسوس الجغرافي العودة من حيث أتى أي الجزائر عبر وجدة ولالة مغنية.
فور وصوله إلى الجزائر سنة 1884، جمع دو فوكو أشلاء البيانات التي جمعها حول المغرب، وحولها إلى كتاب "التعرف على المغرب" وهو مرجع مثقل بالوثائق والصور والخرائط والمعطيات الديموغرافية والطبيعية، كما خصص حيزا لرصد العادات والتقاليد والديانات، مما جعله ينال تنويها خاصا من "الجمعية الجغرافية لباريس"، لأنه أسدى للحكومة الفرنسية وللإدارة الاستعمارية خدمة كبيرة، جعلتها تحقق المبدأ الذي اعتمدته في صراعاتها "اعرف عدوك"، والمعرفة هنا كانت عبر الجغرافيا والتبشير. انتهى الرجل داعية للمسيحية في دير بالقاهرة، وقضى أيامه الأخيرة تائها بعد أن فقد بوصلة التاريخ والجغرافيا.
مسعود زكار.. المخبر الجزائري الذي سطا على القاعدة الأمريكية بالقنيطرة
لم يكن أحد يعتقد أن رشيد الشلح مجرد اسم مستعار لشاب جزائري يدعى مسعود، امتهن حرفة الاستخبار في مدينة القنيطرة، خلال فترة الستينيات لفائدة الجزائر. لم يكن، حسب أقارب هذا الشاب، هناك مبرر لوجود عمليات استخباراتية في هذه المدينة، قبل أن يتبين أن مهمته تنحصر في الكشف عما يوجد خلف أسوار القاعدة العسكرية الأمريكية بالقنيطرة وفي مخازن الذخيرة أيضا. لذا نسج مسعود علاقات وطيدة مع الضباط الأمريكيين، الذين قاسموه الملذات والسهرات الماجنة، ولم لا وهو الذي عزف على وتر الشهوة لدى القادة العسكريين. ويرى كثير من أهالي القنيطرة أن اختراقه للقاعدة جاء بعد أن تمكن من توظيف أحد أقاربه في الثكنة، وهي الخطوة التي مكنته من الحصول على تجهيزات جد متطورة وضعها في خدمة القضية الجزائرية.
تجمع الأبحاث التاريخية حول الثورة الجزائرية على أن مسعود، تمكن من الحصول على جهاز اتصال جد متطور كان يستخدم عادة للتواصل بين البواخر، قبل أن يتحول إلى جهاز للبث الإذاعي لمحطة "صوت الجزائر" السرية، التي كانت قائمة في مدينة الناظور. كانت الإذاعة تبث برامجها الداعمة للثورة الجزائرية من سراديب معمل في ملكية رجل هنغاري، كان ينتج الملاعق والشوكات، دون أن يفطن أحد لدوره الإعلامي، حيث وصل الأمر إلى حد نسج مسعود علاقات مع أكبر الشخصيات الأمريكية، خاصة حرم ‬السيناتور ‬جون ‬كينيدي، ‬الذي‬ أصبح ‬بعد ‬سنوات من ذلك، ‬رئيس ‬الولايات ‬المتحدة ‬الأمريكية. ‬كما تمكن من الوصول إلى ديوان الرئيس الفرنسي الجنرال دوغول وشكل نواة حقيقية لمخابرات عسكرية مغتربة في المغرب، دون أن تفطن له عيون المخبرين المغاربة، الذين اعتبروه مجرد فتى يعشق السهر. كان المخبر الجزائري حريصا على مبدأ السرية، رغم أن ظاهره يعطي الانطباع بالارتماء في حضن اللهو، بل إن أغلب العاملين في هذه المحطة التي جهزها من مسروقات ثكنة القنيطرة، كانوا من نفس المدينة التي ولد فيها وهي العالمة، بل إن العمال المغاربة الذين اشتغلوا في هذا المصنع لم يكن لهم علم بدوره الموازي.
في سنة 1974، أقنع مسعود الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون باستقبال الرئيس هواري بومدين، بل إنه تمكن من دعوة كاسي المدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية لزيارة الجزائر، وكذا رائد الفضاء فرونك بورمان الذي زار بدوره الجزائر بدعوة من مسعود واستقبل من طرف الرئيس هواري بومدين.
فطنت السلطات المغربية لدور مسعود، بشكل متأخر، لكن تبين لها بأن الاستخبار المغاربي لا يفسد للود قضية.
الدكتور سيجربير.. جاسوس فرنسي في وزرة بيضاء
يقول الدكتور فابيو سيجربير في كتابه "الدار البيضاء والشاوية"، الذي يرصد من خلاله مهامه في مغرب آيل للانهيار السياسي سنة 1900، ويكشف عن طبيعة عمله الاستخباراتي: "لما جئت إلى المغرب كانت معي خريطة فلوت روكفير، لكنني اكتشفت شيئا فشيئا أنها ناقصة وتحتاج إلى ترميم لن يتم إلا عبر الملاحظة بالأسفار "، وأضاف أنه سمع "الناس يتحدثون عن حركات السلطان الذي وضع حدا لتمرد الرحامنة، مما شجعه على تعميق البحث حول المغرب، والاقتراب أكثر من الفاعلين السياسيين الذين كانوا يأتمنونه نظرا لمهنته كطبيب، بل إنه قام بعلاج بعض المرضى المغاربة مجانا حين كانوا يقصدونه سرا إلى بيته، فيستغل الفرصة لنيل أكبر عدد من المعلومات، لاسيما حول الحوادث التي كانت تعرفها المناطق المجاورة للدار البيضاء، أو ما يعرف بالشاوية.
في سيرته الذاتية يتحدث سيجربير عن زياراته لضواحي الدار البيضاء وخاصة مديونة وبرشيد وورديغة، ويرصد تدخلاته الطبية وعلاجه لأعيان القبائل بشكل تطوعي حتى استمال قلوب ودغدغ عواطف زعماء القبائل، كما تحدث عن زيارته للرباط أملا في تقديم الإسعافات الطبية لأحد أفراد الأسرة الحاكمة، وكيف تمت مطاردته من طرف قطاع الطرق في طريق بوزنيقة.
ولأنه نال ثقة أعيان مدينة الدار البيضاء، وأصبح الطبيب الخاص لعامل المدينة أحمد بن العربي المديوني، فإن هذا الأخير أسدى من حيث لا يدري خدمة كبيرة للجاسوس الفرنسي الملتحف وزرة طبية بيضاء، حيث "كان يدعوه للذهاب إلى "المحلة الشريفة" التي كانت تعسكر في ضواحي ورديغة لعلاج الصدر الأكبر با احماد الذي كان مريضا بالتوفيس"، كما جاء في عبير الزهور للمؤرخ هاشم المعروفي، بل إن الطبيب تحول من معالج للصدر الأعظم إلى عضو في الطاقم الطبي للسلطان، إذ رافقه الموكب الملكي في تحركاته صوب مراكش وقضى ستة أشهر كاملة يعالج المحيط المخزني ويملأ حقينته من المعلومات، التي كانت تصل إلى القنصل الفرنسي بأدق التفاصيل، دون أن يهتم أحد بسر تردد الطبيب على بيت القنصل.
استغل سفره بين الدار البيضاء والنواحي لإنجاز خريطة دقيقة حول الشاوية وأراضي تامسنا، ركز فيها، بالخصوص، على الجانب الديمغرافي خاصة علاقة السكان بالأرض وفيما بينهم ومع الآخر، وهي معطيات استفاد منها المستعمر الفرنسي الذي قرأها بتمعن.
في تلك الفترة كان سيجير بير يكتفي بعلاج زبائنه الأجانب، لأن الناس لا يقبلون زمنئد على الأطباء ويفضلون اللجوء للفقهاء، فكان الطبيب يقضي وقته في التنقيب على المعلومات، إذ
رسم مخططا جهنميا للدار البيضاء "كان يرسم خرائطه وهو على ظهر فرسه، ولم تكن عنده من آليات العمل سوى بوصلة ومؤشر الضغط الجوي"، كما ورد في "عبير الزهور"، إلا أنه مع مرور الوقت تبين أن الرجل كان منهمكا في كتابة وصفة دواء لإزالة المقاومة المغربية وتدميرها لفائدة فرنسا. مات سيجربير بورم خبيث عجز الأطباء عن كشفه.
ابن غبريط.. حارب المسلمين ودفن في مسجد باريس
ولد قدور بن غبريط في الجزائر وتحديدا بمدينة سيدي بلعباس سنة 1873، من عائلة نازحة من الأندلس، لكنه تحول من داعية إسلامي إلى مخبر في صفوف الجهاز الاستعماري الفرنسي، الذي ألحقه بالإدارة كمترجم أولا لإلمامه باللغات الحية والميتة، قبل أن ينتهي به المطاف جنرالا في الجيش الفرنسي، وهي رتبة أنعمت بها فرنسا على رجل خدمها.
يتحدث الكاتب الجزائري الهادي الحسني عن شخصية ابن غبريط بكثير من الاستخفاف، فيصفه بعبد فرنسا المطيع، الذي "استخدمته في أقذر المهمات، فكان عينا لها وأذنا ضد إخوانه في الدين والوطن، فاستحق ما يستحقه كل خوّان أثيم، من لعنة الله عز وجل".
علاقة هذا الرجل بالمغرب تعود إلى سنة 1893، حين أرسلته السلطات الاستعمارية إلى مدينة طنجة ليشتغل كمترجم في بعثتها، وانتدب لحضور اجتماع رسم الحدود بين المغرب والجزائر في مدينة لالة مغنية، لكن دوره كبر عندما وضعت فرنسا يدها على المغرب فكان ابن غبريط إحدى وسائلها للضغط على السلطان المغربي عبد الحفيظ للتوقيع على "معاهدة الحماية" التي فرضتها فرنسا على المغرب في 30 مارس 1912.
شرب الرجل حب فرنسا من ثدي الجنرال ليوطي، أول قائم بأعمال فرنسا في المغرب، وتحول إلى أمين على مصالح الفرنسيين، بل إنه وصف بالفرنسي الأكثر عشقا للجمهورية من الفرنسيين أنفسهم.
الغريب في مسار هذا المخبر، أن اسمه مدرج ضمن موسوعة أعلام الجزائر، الصادرة عن "المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر". والأغرب أن يتولى في نهاية مساره إدارة مسجد باريس ويدفن بداخله.
قال عنه القبطان بول مارتي مدير ثانوية مولاي ادريس بفاس في مذكراته، "كان بن غبريط مخبرا لفرنسا في طنجة وفاس قبل احتلالها للمغرب بنحو عقدين، ومنذ مطلع القرن العشرين وهو حاضر في اللقاءات الديبلوماسية المخزنية مما أتاح له فرصة التآمر على السلطان مولاي عبد الحفيظ والضغط عليه للاستنجاد بالجيش الفرنسي لإنقاذ الموقف وتوقيع عقد الحماية المشؤوم سنة 1912, ثم التنازل عن العرش ونال مقابل خدماته الدنيئة للفرنسيين طيلة نصف قرن مناصب هامة منها رئيس جمعية الأحباس بالحرمين الشريفين ومدير المعهد الإسلامي ومسجد باريس ثم وزير فرنسا الشرفي المفوض".
لحسن حظه أنه توفي قبل أيام من بزوغ فجر الاستقلال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.