قراءة في تغير منظومة القيم لم تمر امتحانات البكالوريا هاته السنة دون أن نسمع بتكرار ظاهرة باتت تثير الاستغراب وتهدد منظومة القيم بشكل كبير في مجتمعنا المغربي، المستهدف من خلالها أساسا هو رجل التربية والتعليم، تلك الظاهرة المتمثلة في تهديد بعض التلاميذ بالآلات الحادة لبعض المراقبين خلال إجراء امتحانات البكالورية، وذلك تحت ذريعة حرمانهم من حقهم في الغش حسب ظنهم !! ولقد كنا نسمع بحدوث مثل هاته الظواهر في المدن الكبرى بشكل نادر، لكنها باتت تنتقل وتنتشر بشكل ملفت للنظر في المدن الصغرى والمناطق المحافظة كذلك، مما يشكل معه مؤشرا قويا على تغير خطير أصاب منظومة القيم داخل مجتمعنا. وأنا إذ أعرض هاته الظاهرة للمناقشة والتحليل فليس من باب الإخبار أو الاستنكار فقط، فهو من مهام وسائل الإعلام والصحافة بالدرجة الأولى، ولكني أعرضها من باب بيان من يتحمل مسؤولية تفشيها و يملك آليات الحد منها، وكذلك أعرضها من باب التحذير من التساهل معها وقبولها داخل المجتمع كما قبلت ظواهر أخرى وتم التساهل والتعايش معها فبات يستعصى علينا اليوم التخلص منها. إن بروز مثل هاته الظواهر الشاذة داخل المجتمع، ينبأ عن تغير خطير في منظومة القيم التي تعتبر المعيار الأساس والمقياس الأمثل لصحة المجتمع أو مرضه وإبراز صلاحه من فساده، ويزداد الأمر خطورة عندما تستفحل تلك الظاهرة داخل الأوساط التعليمية وتصدر عن متعلمين الأصل فيهم أنهم قدوة المجتمع ونخبته، الأمر الذي يدعوا إلى التساؤل الجاد عمن يتحمل المسؤولية في هذا التغير الخطير الذي أصبح معه المتعلم يسمح لنفسه أن يشهر سكينا أمام معلمه؟!! إن الجواب على السؤال السابق ليس هينا ولا يمكن أن تستوعبه سطور معدودة في مقال محدد بحكم سياق المقام، ولكن من باب ما لا يدرك كله لا يترك جله ومن باب لا سكوت عما لا ينبغي السكوت عنه، أقول أن المسؤولية مشتركة تشترك فيها دوائر عدة ينبغي أن تتكامل فيما بينها و تمارس أدوارها المنوطة بها كل من موقعه، وإلا فلنستعد مستقبلا لتوفير رجل أمن إلى جانب المدرس داخل الفصل و إلى جانب المراقب خلال الامتحانات وعندها فلا تربية ولا تعليم، والضريبة آنذاك سيؤديها المجتمع بأكمله وتغرق السفينة بالجميع. وفيما يلي عرض لمن يتحمل مسؤولية تفشي الظاهرة قيد المناقشة ويملك إمكانات الحد منها - إن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الأسرة وذلك باعتبارها المحتضن الأساس للأبناء والوصي الأول عليهم وعلى تربيتهم وتأهيلهم لما سيتلقونه فيما بعد من أخلاق ومعارف، وأي تقصير في هذا الدور سيؤثر على مستقبلهم العلمي والعملي وعلى علاقاتهم الاجتماعية بشكل سلبي، ولذلك فإن ما يقع اليوم من انحراف و تدهور في منظومة القيم هو خير دليل على أن الأسر استقلت عن أدوارها وألقت بكل واجباتها في التربية على المؤسسات التعليمية لوحدها، ويا ليتها صنعت في أبنائها التربة لتحمل ذلك، وعليه فإن الأسر هي أول ما ينبغي أن ينتبه ويعود لممارسة أدواره - الدولة كذلك تتحمل مسؤولياتها في دعم المقاربات التربوية وإشراك الفاعلين إشراكا إيجابيا، فنجد مثلا الإعلام بوسائله المتنوعة وبكل -ما يحمله من قوة وتأثير على الأخلاق والقيم- يوجه توجيها سلبيا ضدا على قيم وثقافة المجتمع الأصيلة، ويبث برامج ومواد إعلامية تنمي-غالبا- في الشباب الحس العدواني والانحراف الأخلاقي بما ينعكس سلبا على علاقتهم بالتعليم وبالمؤسسات التعليمية، وكيف لهاته الأخيرة أن تحل هاته الأزمة لوحدها؟ وقد صدق الشاعر في قوله: متى يبلغ البنيان تمامه إن كنت تبني وغيرك يهدم كما أن الدولة لا تعمل على إشراك الفاعلين التربويين - باعتبارهم أهل مكة وهم أدرى بشعابها- في وضع السياسات التعليمية، واقتراح الحلول القمينة بحل مثل هاته الإشكالات، كما أنها لا تدعم المواد التي لها تأثير قوي على قيم المتعلم وسلوكه، مثل مادة التربية الإسلامية واللغة العربية بل تقلص من حجمها وتضعف من معاملها، مما ينقص من قوة تأثيرها على المتعلم ودونك الواقع و التجربة في ذلك كما تتحمل الدولة مسؤوليتها في انتشار أوكار الترويج للمخدرات وصناعة الجريمة واستدراج الشباب - رجال ونساء التعليم كذلك ينبغي أن يتحملوا مسؤولياتهم في تقديم القدوة شكلا ومضمونا بما يعيد لهم موقعهم ومكانتهم داخل المجتمع - المجتمع المدني بجمعياته وهيآته المدنية والسياسية والنقابية.. يتحمل مسؤوليته في نشر التوعية وتأطير الشباب متمدرسين وغيرهم، بتأهيلهم لما يدعم منظومة القيم عندهم وينمي حس المواطنة الصالحة لديهم ويقيهم من الانحراف والتطرف الفكري والسلوكي. - الجامعات والمراكز العلمية والبحثية في مختلف التخصصات بما لديها من دور ريادي في تأطير المجتمع وتوجيهه، وبما تملكه من آليات علمية، ينبغي أن تعطي لهاته الظواهر حقها في النقاش وتسعى لمقاربتها مقاربات شمولية في التشخيص وتقديم الحلول. * أستاذ باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة