تعد المدرسة في صورتها العلمية الدينامية, نظاما معقدا من السلوك الاجتماعي يؤدي وظائف اجتماعية وتربوية مهمة، وهي تشكل بدورها بنية اتصالية تفاعلية. وتهدف التربية عبر برامجها وفلسفاتها ومناهجها وأنشطتها ووسائلها إلى غرس القيم الفاصلة التي ارتضاها المجتمع لتنمية الحس الانساني، وعندما يختل التوازن في المؤسسات التعليمية، وتهتز قيمة الأمانة والصدق والثقة، ينحرف مسار تعليم الناشئة فكرا وسلوكا... ويظل الغش المدرسي سرطانا وسلوكا منحرفا يشل العملية التعليمية- التعلمية، بل يشكل معول هدم لأحد ركائزها الأساسية؛ المتمثل في التقويم التربوي. إذ يعمل الغش في الامتحانات المدرسية على تشويه معالم التقويم وتزييف حقائقه، ويضعف مخرجات منظومة التربية والتكوين، مما ينعكس سلبا على تجويد التعليم والارتقاء به. كما أن خطورة الغش في الامتحانات ليست مشكلة محلية بل تعولمت بشكل متنام لتشمل البلدان النامية والبلدان المتقدمة، ولم تقتصر حدودها الجغرافية عند المدرسة بل اقتحمت أسوار الجامعات ومعاهد التكوين...والأدهى والأمر، امتد اخطبوطها ليشمل جوانب الحياة، لتعود الفرد على الغش وتزييف وتزوير الحقائق!! أسباب الغش في البيئة المدرسية: في هذا السياق يميز بين العوامل المدرسية وغير المدرسية في استفحال هذه الظاهرة : * العوامل المدرسية: وتتمثل في: - طبيعة المنهاج: وفي هذا الاطار يمكن الحديث عن طرائق التدريس التي تركز فقط على التلقين دون إدماج المتعلم في بناء الدرس والمساهمة فيه. كما أن المدرس يكلف المتعلم بأعمال منزلية مرهقة لا يجد لها حيزا زمنيا لإنجازها. أضف إلى ذلك، اكتظاظ الفصول الدراسية وطول المقرر الدراسي الذي يجعل المدرس يركز على إلقاء وإملاء الملخصات دون إشراك المتعلم في بناء العملية التعليمية -التعلمية والتعلم الذاتي. - نظام التقويم التربوي: الذي يركز على اختبار المتعلم في الجانب المعرفي (الحفظ والاستظهار)، وإغفال مستويات العليا من التفكير (التحليل، التطبيق، النقد، التركيب...). كما أن نظم التقويم الحالية المتمثلة في الامتحانات، لم تعد موائمة للتطور, بل معيقة لاستمرار الفرد في التجديد والإبداع. إن قاعدة عمليات التعليم التي تقوم على أساس معايير جامدة تقليدية تؤدي إلى الغربلة والتصفية بناء على نتائج الامتحانات دون تطويرها لتوجيه غير المسايرين لتوجهات أخرى من قبيل التكوين المهني في تخصصات ومهن أخرى طبقا لمبادئ نظرية الذكاءات المتعددة . - ضعف الإجراءات الإدارية (المراقبة التربوية): إذ أن بعض المؤسسات التربوية- في إطار رغبتها في الحصول على تكريم من طرف الوزارة الوصية على التعليم- تضطر إلى التنسيق فيما بينها-إدراييها وأساتذتها- لتجنب الصرامة في المراقبة، مما يساهم في تسيب الامتحانات، ويرفع من عدد الناجحين بدون استحقاق.كما أن تعرض الأساتذة المراقبين للتهديد من قبل التلاميذ وذويهم ، وعدم تكفل الدولة بحمايتهم، يجعلهم لا يعيرون أي اهتمام للمراقبة... دون أن ننسى أن بعض المديرين يرون أن الصرامة في المراقبة وإتمام الاجراءات الإدارية في تسجيل عملية الغش يمس بسمعة المؤسسة، ويلفت الانظار إليها، ويجعلها عرضة للافتحاص الإداري المتكرر بدعوى عجزها عن أداء الدور المنوط بها. - ضعف الإجراءات القانونية: بالرغم من صدور بعض القوانين الزاجرة للغش في الامتحانات، إلا أن تفعيلها وأجرأتها يبقى من قبيل اليوتوبيا. فالأولى عرض لائحة الغشاشين في المؤسسات التربوية واتخاذ اجراءات صارمة في حقهم، حتى لا تستمر الظاهرة في الاستشراء. - ضعف التوجيه والتحسيس التربوي: ونسجل في هذا الباب أن الموجهين التربويين لا يقومون بدورهم من خلال القيام بحملات تحسيسية في المؤسسات التعليمية، حيث يتم إشراك جمعيات آباء وأولياء الأمور وجمعيات المجتمع المدني في إطار ما يسمى بالمقاربة التشاركية . العوامل غير المدرسية وتتجلى في: - التنشئة الاجتماعية:فالمتعلم الذي ينشأ تنشئة أسرية سلبية ينقل سلوكاته المنحرفة إلى المدرسة. فالعلاقات التربوية السلبية مثلا وتعلم سلوكات انحرافية كالتدخين، ومصاحبة أصدقاء السوء يمكن أن ينقل المتعلم تأثيراتها إلى المجال الأسري، ويبقى تتبع هذا التأثير واكتشافه ومواجهته قبل أن يتحول إلى سوء تكيف مدرسي، وانحراف مرتبط بطبيعة الجو الأسري والعلاقات الأسرية. - هيمنة المجتمع التحصيلي:إذ الغالب في مجتمعاتنا العربية والإسلامية،ما يتم التركيز على نجاح المتعلم من مستوى تعليمي إلى آخر دون مراعاة مدى ما تحقق لديه من تحسن وتقدم في أدائه التعلمي- التربوي. - وسائل الإعلام:فالإعلام من أشد وسائل التربية خطرا لسهولة تقبله فبدلا من أن يساهم مع المدرسة ويأخذ دوره الحقيقي في بناء الأجيال وغرس القيم الأصيلة، نراه ينشئ جيلا فارغا مزعزع الثقة بالنفس وتحمل المسؤولية.فماذا تفعل المدرسة أمام الإعلام الذي يشيع الفاحشة وثقافة الرداءة والمكر والخداع والتزوير للحقائق؟ - التكنولوجيا الحديثة:فالإنترنت من خلال أدواتها خاصة مواقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك) التي تنشر أشكالا شتى وطرائق متعددة للغش، وخطة عمل هذه الصفحات؛ أنها تقوم بتجنيد أعضاء "عصابة إجرامية" (قد تتكون من طلبة حاصلين على شواهد عليا أو مدرسين يقومون بدروس خصوصية مؤدى عنها...)، ما إن يجد المتعلم فرصة حتى يرسل لها صورة من الامتحان فور دخوله، بعدها يقوم فريق مستعد من "العصابة" بكتابة الإجابات بشكل سريع ورفعها على الصفحة بشكل واضح للمتعلمين الذين يؤدون الامتحان، ويتم مطالعة هذه الحلول بواسطة الهواتف النقالة والبلوتوت، وذلك بعد إخفائها في أماكن حساسة بالجسم لا يتم تفتيشها، لأن الهواتف لا يسمح بإدخالها إلى قاعة الامتحان. - القدوة السلبية: إذ نجاح بعض المتعلمين الغشاشين في الحصول على درجات عالية غير مستحقة يدفع أقرانه إلى الاقتداء بهذه التجربة الفاشلة، رغم أن الشاذ لا يقاس عليه. آثار ونتائج الغش على العملية التعليمية: للغش آثارا سلبية على نظام التربية والتعليم,كما يلي: - إن ممارسة المتعلمين للغش في الاختبارات تُعد مظهراً من مظاهر عدم الشعور بالمسؤولية، وسبباً لتكاسل المتعلمين وعزوفهم عن أداء واجبهم الدراسي. - أن الغش يؤدي إلى قتل روح المنافسة بين المتعلمين. - يقلل من أهمية الاختبارات في تقويم التحصيل المدرسي للمتعلمين،ويؤدي إلى إعطاء عائد غير حقيقي وصورة مزيفة لنتائج العملية التعليمية تنتهي إلى تخريج أفراد ناقصي الكفاءة وأقل انضباطاً في أعمالهم. - تزداد خطورة الغش عندما تتورط فيه المدرسة، وهو ما يهدد قيم المجتمع، فمؤسسة القيم أصبحت تدمر القيم بممارستها غير المسئولة. - إ ن مضارَّ الغش تمتد إلى ما بعد الدراسة، فالموظف أوالمهني الذي اعتاد الغش أثناء تعليمه، قد يستحلُّ المال العام، ويمارس الكسب غيرالمشروع والتزوير في الأوراق الرسمية، وقد يستحل الرشوة.وعليه فإن مكافحة الغش تكفل رفع مستوى الكفاءة وتحسين أداء الأفراد بعد تخرجهم في مجالات الحياة العملية. الاجراءات والاقتراحات للحد من استفحال الظاهرة: قد يكون من العبث، إن قلنا بأن هذه الاجراءات التي سنقترحها، ستعمل على استئصال الغش المدرسي وإزالته، لكن- على الأقل- ستقلل من حدته. ومن أبرز هذه الاجراءات ما يلي: الاجراءات التربوية التنظيمية: - تنظيم حملات التحسيس والتوعية بالدور المهم والأساس للامتحانات في تحديد مدى تحسن وتقدم مستوى المتعلمين للوقوف على جوانب الضعف والقوة في مسارهم التعليمي. وأن الغش المدرسي، لا يبين المستوى الحقيقي للتلميذ، بل تتوقف مسيرته في محطة تعليمية موالية، من خلال عرض بعض التجارب الفاشلة للطلبة الذين لم يستطيعوا مسايرة أقرانهم المجدين. - إعادة النظر في التقويم التربوي؛ إذ أن التركيز على الامتحانات الإشهادية الأخيرة التي تحدد نجاح أو رسوب المتعلم مع التقليل من شأن باقي الأنشطة التربوية التقويمية الأخرى مثل المراقبة التربوية الرسمية أن يشجع على الغش، لهذا ينبغي تنويع التقويم وتوزيع متساوي بين التقويم اليومي والتقويم الاشهادي. - ينبغي تركيز النظام التربوي على التعليم والتكوين والتأهيل, بدل التركيز فقط على التقويم: إذ أن أغلب النظم التربوية العربية تجعل الهاجس الأكبر للمتعلمين هو النجاح في الامتحان بدل التكوين والتعليم...مما يجعلهم في حالة توتر واضطراب، وهنا يضطر المتعلم إلى استعمال ما يسمى بالعنف الوسيلي قصد الغش في الامتحان؛ امتثالا للمبدأ الميكافيللي :"الغاية تبرر الوسيلة". - تسخير وسائل الاعلام في الحد من الظاهرة: وكلنا- نحن المغاربة- يتذكر الدور البارز للوزارة الوصية على التعليم في المغرب في عهد الوزير السابق الذي سخر وسائل الإعلام المختلفة (المرئية والمسموعة والمكتوبة) في التحسيس والتحذير من مغبة استعمال الوسائل التكنولوجية (الألواح الرقمية) السماعات والهواتف النقالة في الغش المدرسي...إذ ساهمت بالفعل في التقليل من اتساع دائرته، بل لقي استحسانا من قبل المدرسين والآباء والتلاميذ... - تفعيل دور المرشد التربوي والنفسي والاجتماعي في إعداد المتعلمين نفسيا للامتحانات وعلى أسلوب التعامل الصحيح وتنظيم الوقت المخصص للاختبار دون ارتباك... الاجراءات القانونية: - إصدار نصوص تشريعية قانونية صارمة مع تفعيلها؛ وذلك للقطع مع كل أشكال التلاعب والاستهتار بالامتحان، بالإضافة إلى حماية الاستاذ المراقب الذي يتعرض للتهديد والترهيب من طرف المتعلم أو والده أو أحد أفراد أسرته. - معاقبة كل من تورط في تسريب الامتحانات قبل موعدها، للحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص. - معاقبة المدرسين الذين لا يتحلون بأخلاقيات مهنة التدريس؛ خاصة الذين يميزون بين صنفين من التلاميذ: الصنف الأول يزوده بطرائق ومنهجية التعامل مع الامتحانات بحكم تلقيه للدروس الخصوصية بالمقابل المادي. في حين أن الصنف الثاني محروم من كل هذه الامتيازات حتى يجبرهم على أخذه هذه الدروس الإضافية... خلاصة القول، فالغش المدرسي وباء فتاك ومرض عضال ينهش كل أعضاء بنية النظام التربوي ويزعزع أركانه، مما يسهم في تفريخ جيل مشوه القيم ومعاق عن أداء واجبه التنموي ?الحضاري للأمة. فخطورة الغش ?إذ ترسخت في عقلية ومسار الفرد-لن تبقى محصورة في الجوانب المدرسية، بل تتجاوزها إلى الجوانب الحياتية : في الوظيفة، وفي المعاملات... * باحث في علوم التربية / تخصص ديداكتيك العلوم الاجتماعية