مصر،عمق تاريخي وحضاري قوي،ارث إنساني كبير،ومعالم تاريخية لها من القوة الحجية ما يجعلنا نفهم أن المنطقة لها وزن خاص في الحضارة الإنسانية،هذا ما تعلمناه،وهذا ما حاولنا أن نقرأه عبر ما يٌرصد من مؤشرات تاريخية،يمكن أن يقدم ازدواجية في الدلالة والفهم والرصد. فالأهرامات مثلا،عنوان هندسة رفيعة،عقل بارع في العمارة والتشييد،وهو عنوان أيضا لعدد رهيب من العبيد الذين ساهموا في البناء والعمل الشاق،وعنوان أيضا لحالات الفكر الاقتصادي المصري والذي لم يهتم يوما للحفاظ على مقدرات الأمة،ولم يسعى إلى التدبير الجيد للفائض من الأرباح الضرورية لاستمرار الحضارات، هذه الازدواجية هي ما يمكن أن يكون عنوان المرحلة الحالية،فبعد ثورة 25 يناير،كان المحلل الموضوعي،يلمح إلى أنها لم تكن ثورة اخوانية بالأساس،وأن الفاعل المحوري في الحراك لم يتم رصده بشكل دقيق،وقد تبين ذلك من خلال التباينات الواضحة في سقف انجاز الثورة،هل هو إسقاط مبارك فقط،هل هو تحقيق نموذج ديمقراطي تداولي يخرج مصر من حالة هيمنة الحزب الواحد،أم أنها حالة من التوجه العام الساخط على الوضع الاقتصادي والاجتماعي،وأن ليس هناك فكر ما بعد الثورة،إلا التغيير ولا يهم كيف سيكون،وأن ما بعد الثورة ،يأتي انتخاب لكي تقدم من سيدفع ثمن كل هذا الحراك،فكان الإخوان المسلمون،كبش الفداء. لاشك أن ما وقع لم يكن في الحسابات العادية لكثير من المتوقعين،سواء مؤسسات رسمية،أو محايدة،والمؤشر الصريح على ذلك،هو حالة الفوضى والتخبط التي أصابت النخبة القديمة والمتحكمة في الشأن المصري،بل حتى السيناريوهات المحتملة كانت توضح أن الرهان على بعض الشخصيات الدولية المدنية،والذي تبث فشله،دليل على أنها سيناريوهات مطبوخة بشكل سريع ولم يتم التعامل معها بالنضج الكافي،لاستغلال نتائج الثورة وتحويل مسارها . طبعا حالة مصر كانت نموذجا واضحا لكي يفهم الإسلاميون الراغبون في التداول الديمقراطي،أن القواعد النظرية،لا يمكن أن تطبق حرفيا،ولكن صياغة شكل من الأشكال الديمقراطية،المناسبة لكل بنية ونظام ،لم يصل بعد إلى الشكل النهائي من الدولة الأمة،لا يمكن أن تتبنى نموذجا ديمقراطيا صريحا،لاعتبار أن مصطلح التعايش،ومفهومه السياسي،يعطي الحق للأنظمة الحاكمة في التعامل بشكل سياسي وأمني،مع كل حالة الهيمنة المتوقعة. إن الأنظمة السياسية عندما تحكم،تخلق نوعا من المصالح المبنية على تراكم الثروة،وعلى المنفعة المتبادلة بين كل مكونات النظام الحاكم،ومعه تؤسس نوعا من الشراكة الدولية ويعطيها غطاءا سياسية لحمايتها ،وبذلك تصبح شرعية التعامل مع كل من يسعى إلى تحريك البناء القائم ،شرعية قائمة على منطق التخوين ،الإرهاب،و الاتهام بزعزعة النظام، وهنا يرابط المشكل العميق في التحولات السياسية، التحول المؤسس على الأزمة الاجتماعية.والأزمة الاجتماعية الساعية إلى تغيير الأنظمة. من خلال هذه الثنائية يظهر جليا، الإشكال الفلسفي العميق في تعريف النتائج والأسباب، فنطرح السؤال بوضوح على الحالة المصرية، هل هو مشكل سبب أم مشكل نتيجة؟؟ في كل الحالتين لا يمكن أن نحلل من وجهتي نظر مختلفة لكي نتكلم على التحليل الموضوعي والمحايد، لنقبل وبشكل مسلّم،أن الأنظمة الديكتاتورية ،نظم غير طبيعية في البناء السياسي ،ولنسلم أن الشعوب لها الحق في التعبير عن إرادتها بشكل واعي وحر،حينها لنا أن نقبل وبشكل محترم خيارات الشعوب،دون تدخل في صياغة مصيرها، على مرجعيات غير أصيلة ولا تتلاءم مع البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات.هل من المقبول أخلاقيا أن ننقلب على ما تم الاتفاق عليه،وعلى الأرضية المشتركة لكل الأطياف المشكلة للدولة،لمجرد أن القواعد الديمقراطية ستعطي لتيار معين،الحق في الهيمنة والتجدر جماهيريا؟، أم انه علينا أن نقبل بذلك، مادام قواعد اللعب السياسي قد تم الحسم فيها مبدئيا. إن ما يحدث الآن في مصر،هو على الشكل التالي:ثورة 25 يناير ،أعطت للشعب المصري ولأول مرة في تاريخه،الحق في اختيار حر وسليم،وبعده تبين أن نتائج الاختيار لن تكون في مصلحة بعض الأطراف التي أسست مصالحها على الوضع القديم ،المستثمرون وأصحاب المشاريع الضخمة،إسرائيل،والدول النفطية......فكان الحل هو انقلاب على الثورة، وتأجيلها 30 سنة أخرى. عمر الثورة سنتان بين مخاض التجدر والاستقرار،وبين التخلص من كل معالم ثورة حقيقية،فكان للخيار الثاني الأحقية ،واستعمل كل الوسائل للقيام بذلك،من الغطاء الدولي إلى التمويل النفطي والإعداد اللوجيستيكي الضروري للتنفيذ،وجعل الشعب المصري أمام الأمر الواقع،وبين خيارين،الفوضى أو الإخوان.وهذا هو الشكل القديم الذي يمارسه الانقلابيون لكي يحولوا رأي الشعوب إلى خيارات بعيدة عن إرادتها،والى القبول بأخف الضرر"الاستقرار الاجتماعي عقيدة العقائد".يعني سياسة الأمر الواقع، السؤال المحير هو:لماذا عجز الإخوان المسلمين عن حماية الديمقراطية في مصر؟ هل أصبح من اللازم اليوم على كل تنظيم يمتلك أدوات الهيمنة الجماهيرية والرغبة في العمل السياسي التداولي،أن يمتلك أدوات الحماية اللازمة للمشروع السياسي؟.خاصة في دول لا تملك بنية مستقرة في نظامها الحاكم،يعني الأنظمة الجمهورية.أم أن حالة أللاستقرار هي حالة كل بلد اختار نموذجا ديمقراطيا غير موجه؟.حالة مصر درس في العمق،للأسف كل مبررات الانقلابين كانت تسير إلى الطبيعة التوسعية لأحزاب الإسلام السياسي،وأنهم اقصائيون،ويسعون الى نظام الحزب الوحيد، طبعا هذه المبررات دفعت بعض البلدان كتونس،أن تقدم اجتهاد سياسي لفن التعايش والمؤسس على قاعدة،"التنازل على الخاص لحماية العام".وهي قاعدة سليمة في عمقها،وهو ما ستنتهجه بعض الأحزاب الأخرى التي ستعتبر النموذج التونسي،نموذجا ملهما في الوقت المعاصر،فأصبحنا نرى التوافق المبني على قاعد المشترك وبرنامج الحد الأدنى ،والنسبية الأخلاقية في السلوك السياسي. طبعا سيبقى من المقلق جدا أن نجد تميزا واضحا وانتقائية كبيرة في التعامل مع الفاعل السياسي الإسلامي،بعد الربع العربي أصبح واضحا أن هناك عقل إسلامي جديد يتشكل،من أسسه التخلي عن المشروع السياسي الإسلامي،وتبني مقاربة حداثية إسلامية،غايتها تخليق وتدبير الشأن العام،في ظل الأنظمة السياسية الحداثية والمنفتحة