بحثت عنها في الزقاق الذي عهدتها فيه فلم أجد لها أثرا , وكأنها لم يعد لها وجود أصلا, غابت وغاب معها نور القمر الذي كان يضئ علينا بنعومة أشعته ولألأة أنواره.. فبادرت بسؤال البقالَ الذي أتعبه طول انتظار مشتر لأن أغلب زبنائه هجروه بالمرة ، سألته : لما هذا الشحوب والحزن الذي يبدو على محياك ؟ أجابني بصمت عميق كعمق بحر من فوقه موج عاصف, ونظر إلي نظرة المغشي عليه وتبسم, ابتسامة لم أر مثلها من قبل, فوجدته يتهرب من الجواب وينظر إلى الزقاق نظرة نظرتين ثلاث, فوجدت أن جوابه يكمن هنا في نظراته المتكررة ولم أعقب عليه. ألفناها بيننا بل أحببناها حتى أصبح الشعراء ينظمون عنها قصائدهم, والكتّاب يؤلفون قصصهم ورواياتهم حولها, وحيث أني لم اعد المسها بين غالبية الناس, ولم تعد لها نكهتها الخاصة التي عرفت بها عند أجدادنا. دفعني نوع من الفضول إلى البحث عنها بين أكوام وأوراق اليوم قبل الغد, فبدأت بالزقاق الذي لقيت فيه نوعا من السكون والحنين إلى الماضي, فاللقاء الأول كان مع بقال الزقاق ولم أصل من خلاله إلا إلى نظرة يأس وبؤس صاحبها الذي غادره كل شيء إلا ابتسامته التي بدأت هي الأخرى ترغب في الرحيل عنه, لأنها لم تستأنس به لوحده. فالزقاق خال من المقاهي التي تملأ المدينة إذ نجد في جل أحيائها مقهى بجانب أخر لا أساس للحياة فيها إلا بالمقاهي وسوق أسبوعي يشكو هو الآخر همّه, فبدأت اسأل الزقاق لعلي أجد رغبتي وضالتي, قلت ما الذي جرى؟ وما هذا الصمت الرهيب الذي يسود مكانا كان بالأمس كسوق عكاظ؟ المكان كان تائها بين زمكان لا يعرف معنى الكراهية والظلم, يحفل بالحلقات وتتعالى منه الكلمات والأغاني وقهقهات ناس ألفوا الاجتماع والتنظيم والحق في التعبير, ولكن بين ليلة وضحاها الصمت والسكون هو الغالب. وبكل صدر رحب وقلب مزقته أيدي بني آدم جريح مرير مرارة تغطي المكان بشعار ألاّ إنسان الذي فر هاربا كأنه فر من قسورة إلى حيث الهناء وطمأنينة البال والحرية التي لم تعد تجد صداها في بلاد متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا, ووضع مكانها سلطة القوة وقوة السلطة التي ارتأت شج رأس هذا الزقاق واردته أرضا طريح الفراش يشكو علته إلى كل زائر يزوره. قلت, بكل صدر رحب بدأ حديثه من حيث انه شهد عاصفة دكته دكا أتت على الأخضر واليابس من أعلى السقف إلى أسفله, ونسيت أن التاريخ لا ينسى ولا يرحم, واسترسل في الكلام مشيرا إلى ماضيه الذي كان كل الناس يتكلمون عنه وكان مجمع حديثهم وتفرقهم منه, وحاضره الذي ترك فيه الزمن مكانا شاغرا بين دروبه, هجره ناسه والسكون الذي يغمره من حين إلى آخر. والضربة التي قصمت ظهره نصفين هي فقدانه لشعبيته وتهميشه وإهماله بدون أدنى رحمة. واستخلصت أن هذا الزقاق يعاني مشاكل وبدأت أصوات قطع شرايينه تتبدى للعامة والخاصة, فحديثه يحمل في طياته نبرة حزن.. والحديث عن فقدان فلان لشعبيته والتيه بين شعبية هذا وذاك, فزقاقنا أيضا فقدها مع فقده لأدنى حقوقه ألا وهي الحرية في ليلة شديدة السواد, ظلام دامس تحس فيه انك في قعر جب لاقرار له, بدأت طبول شيء غير متوقع ولم يكن في الحسبان, كمين أو جرثومة خبيثة نخرت الكريات الحمراء والبيضاء ولم تترك غير السوداء.. وحملت معها كل معاني الجمال الإنساني وكل ألوان الطبيعة الغراء برونقها ورقيها.. ووضعت مكانها كل معاني الجبروت والقمع, وكل معاني الاعتداء بشتى أنواعه على مكان كم كان جميلا لو بقي على ما كان عليه في الماضي تشتعل فيه نيران الطهي كل يوم.. لأنه بكل مرارة قلب فقد كل أشياء تربطه بمعنى الحياة, وأصبح مسجونا أو معتقلا بين جدران السكون, وزقزقات عصافير مناضلة آبت الرحيل والهجران. هذا كان أنين وآلم زقاق من هجر وطول مكث أهله عليه لان في أنينه هذا لحن الغروب , فما بالنا بأزقة هجر منها أهلها قسرا وهربا من طاعون آتى بما لا تشتهيه الأنفس.. فأضحت تشكو آلامها إلى قلب حنون يحن عليها ويرفع عنها نار الحقد المشتعلة بأسباب تافهة وبصراع دام لسنين.. فحديث الزقاق ذي شجون ويحمل أكثر من معنى, كما انه يمكن تأويله وتفسيره بجميع التفسيرات التي تحيلنا إلى أن هناك أمور نفقدها أو لم نعد نلمسها بيننا وأسبابها واضحة وضوح الشمس ولاجرم لو أننا نأخذ بعين الاعتبار ما آلت إليه أحوالنا جراء الجري وراء أطماع لاطائل من ورائها, وما لا نريد الوصول إليه, مقولة شهيرة لمجموعة السهام في إحدى أغانيها خويت بلادي وعمرت بلاد).. فبلادنا أولى وفي حاجة ماسة إلى كل كفأتها من غيرها .