العودة .. في المساء عبر طريق العودة واقفا في منتصف الأوطوبيس رقم 11 ، مسندا ظهره إلى بلور الإغاثة السميك ، ينتشي بنسيم رقيق متصاعد من البحر ، متسربل بعطور ملائكية !! لأول مرة يكتشف البحر ليلا .. ذوائب تتراقص ، تقترب لتتقاطع ، فتبتعد لتختفي .. هنا كل شيء شاعري ، الجمال في كل ما تقع عليه الأحداق : المعمار ، الطرقات ، الحدائق ، الأسواق ، الناس .. حتى القمامة لا تخلو من بهاء !! ليس مثل مدينته السفلى التي تكالب عليها القبح و الألم و الزوابع الغبارية .. أطفالها يجتهدون ويبدعون ، فيقلدون الدجاج والضفادع و الحمير !! و رجالها يمتنعون عن مناداة زوجاتهم بأسمائهن !! و نسوتها يلكن تينا يابسا ، يخضبن به وجوههن و أذرعهن الخشنة ، و يخلدن للنوم !! اكتشف الأمكنة لوحده ، و أخلص في عشقه لها ، و اعتاد على ارتيادها في أيام معلومة ، إما للمذاكرة أو للاختلاء بالنفس .. ما بين باب الرواح و صومعة حسان ، و قصر الأوداية و الطريق الساحلي ، و حديقة التجارب و حديقة الحيوان .. كان الزمن يسرع من حوله ، و يحس به ينفلت من بين أصابعه مثل الزئبق !! و تتملكه رغبة شديدة في العدو دونما توقف ، حال من يسابق ظله للتخلص منه !! مدرجات الكلية و بهوها ، ودهاليز الثكنة التي تحولت إلى حي جامعي ، علمته أن لحب الوطن ضريبة غالية ، يدفع ثمنها كل ثمل ولهان أو فيلسوف مجنون !! ها هنا كان اللقاء .. اللقاء مع النغم الأصيل ، و الهموم الكبرى ، و السجالات و الملاسنات ، و حمى السهر ، و جلجلة المفاتيح لاقتناء تذكرة سائبة تسمح بتناول وجبة هزيلة في المطعم ، يتآلف فيها الحصى و العدس ، و قطعة لحم أسود غارقة في مرق أشبه بالحامض الفوسفوري !! يعمد أحيانا إلى زيارة مقهى السفراء ، و يكتفي بالدخول و الخروج مقلبا بصره في الزبناء ، كأنما له موعد مع أحد ما .. يختلس النظرات إلى نخبة من الفنانين و رجال الشاشة ، الذين يتوافدون على المكان لاحتساء القهوة و الدردشة . يريد أن يراهم عن كثب بلحمهم و دمهم ، و يشفي بشأنهم غليل فضول قديم لازم قلبه الصغير منذ صباه ، و هو يعلم أن لا أحد من أبناء بلدته القصية سيصدق أنه شاهدهم بأم عينيه !! ذات السحنة الخمرية و العينين الحوراوين و الشعر المصفوف نحو الخلف ، و معطف الفروة الأسود و سروال القطيفة البني .. ترسم الخطى مثل فراشة مزهوة لمقدم الربيع ، ابتسمت و شدت مع الست : " عودت عيني على رؤياك " ، و اختفت في زحمة الحياة !! شعارها كان : " ما أبعد ما فات وما أقرب ما يأتي "!! عون مصلحة بالكلية قلما يظهر ، و إن حدث ، رأيته في إحدى الزوايا متأبطا مكنسته في مشي متربص .. ارتبط اسمه بقوة بيوم واحد في السنة ، يوم الإعلان عن نتائج الامتحانات الكتابية ، إذ تناط به مهمة تعليق بياناتها . كان لا يتوانى في إغاظة الطلبة لساعات طوال ، بالتلكئ و التباطئ بدم بارد جيئة و ذهابا خلف الشباك المخصص لسبورة الملصقات !! فتتعالى الأصوات المبحوحة متأرجحة بين التوسل والاحتجاج و الشتم ، و كثيرا ما وصل الأمر حدود الرشق بما في الأيدي من كتب و كراسات و أقلام و مفاتيح و طعام !! و لعل هذا ما أكسبه لقبه الشهير ( بطل 20ماي!! ). أحمد ابن ضاحيته ، سباح أم الربيع الماهر ، هزمه البحر و جره نحو القاع ، و لم يلق بجثته إلا بعد أن فقأت السرطانات و الأخطبوطات عينيه الغائرتين !! و عمر الملقب بالشاعر خرج ذات خريف و لم يعد .. و عُلِم من بعض معارفه أنه شوهد بعد عام ، بجسد ضامر و لحية كثة ، في معتقل يهذي !! و خدوج بنت الفوال استبدلت اسمها ب " انتصار " ، أحكمت الكلام باللهجة الشمالية ، و أصبح لها رفاق مسنون ، لا عيب فيهم سوى أن لهم سيارات فارهة و فيلات فاخرة و أرصدة مكدسة !! توثق إغلاق أعينهم بمناديل معطرة ، و تلعب و إياهم لعبة الغميضاء و أشياء أخرى تفقد الوعي و الكرامة !! ... لم تمهله المدينة حتى يلملم حقيبته .. أودعته الحافلة المهترئة ذاتها التي جاء على متنها ذات يوم قبل أربعة أعوام خلت و إن اختلف السائق .. عقب وصوله مدته والدته برسالة تسلمتها منذ أسبوعين ، تبين له بعد الاطلاع على محتواها أنها تحمل إشعارا بالإعفاء من الخدمة المدنية !! بين كل هذا و دوار السفر ، و علمه برحيل والده الذي أفنى عمره على فراش المرض ، و عوز الأسرة المذقع حد اشتغال والدته الطاعنة في السن خادمة في البيوت ، و سخرية الأقدار .. خامره شعور غريب مفاده أنه مهاجر سري .. و لكن في وطنه !! ذ. إدريس الهراس / الفقيه بن صالح