أقفلت العديد من القاعات السينمائية أبوابها وأصبحت ملاذا للسكارى والمتسكعين، ومستوطنا للأشباح والكلاب الضالة، ومكانا آمنا لمن يريد أن يقضي حاجته البيولوجية في الصباح والمساء، فبعدما كانت السينما منارة يحن لها الصغير والكبير، ويتلهف عليها الشباب لمشاهدة أحدث الأفلام الغربية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، أضحت اليوم خربة مدمرة، وكأن صاروخا حربيا قد أصابها دون أن يترك لها أثرا أو لمحة تاريخية، يمكن أن يعتد بها كمكان عرضت فيه روائع الأفلام، وفضاء ناقش فيه المشاهدون محتواها بعد العرض. بين عشية وضحاها تواطأ الجميع بتلقائية على ترك الصالات التي تعلم فيها الإنسان كيف يفكر ويناقش ويحلل ويتواصل، فعن طريق الأشرطة السينمائية أطل الغرب على المغرب، ومد يده من أجل تبادل الأفكار والخبرات، والتعرف على تاريخ وثقافة الشعوب والحضارات، مقتربين من أمجادهم وأنشطتهم اليومية، من خلال ملابسهم ومأكلهم ومشربهم ومرقدهم وطبيعة بناء منازلهم التي تعبر عن مستواهم ورقيهم الفكري، غير أنه في الحاضر تبدل كل شيء وتنكر جل الناس لفضائل القاعات المظلمة وما لعبته من دور مهم في حياتهم إما بالقليل أو الكثير، بشكل مباشر أو مستبطن. تخلى مريدو فضاء الفن السابع عن هذه الأخيرة بكل سهولة، دون أن يشفيهم حالها الذي أصبحت عليه؛ صدئة، نتنة، متسخة، ومأوى لاستقبال المتشردين والمدمنين على المخدرات، الذين لم يتركوا قطعة حديد إلا اقتلعوها وتاجروا فيها من أجل شراء حبات الهلوسة وكبسولات "السيليسيون"، إذ أصبحت في وضع يرثى له بعد هذه المؤامرة الناجحة التي تعرضت لها من طرف أبنائها الذين هم جزء لا يتجزأ منها، علاوة على الأجهزة الإلكترونية الذكية، التي كان من المفترض أن تستفيد منها في تجويد خدماتها لفائدة الرواد، لا أن تقضي عليها بسمها اللاذع والقاتل. المتنكرون لجميل القاعات المظلمة: أكد مجموعة من الأشخاص، الذين لهم نفس التجربة مع القاعات السينمائية التي لا زالوا يتذكرونها بين الفينة والأخرى مع جيل اليوم، أن السينما شكلت دورا محوريا في بناء شخصيتهم وكيفية تفكيرهم وتنبئهم لأحداث المستقبل، من خلال ما خزنته الذاكرة من تجارب متحتها من أفلام مختلفة الألوان والمشارب، موضحين أنهم كانوا يبحثون عن الدرهم في كل مكان من أجل اقتناء تذكرة والدخول إلى العالم الفريد الذي كان موضة العصر آنذاك، حيث الشوق والحنين لمشاهدة فيلم، وعندما سألتهم "بيان اليوم" عن ارتيادهم للقاعات السينمائية حتى اليوم، أجابوا بنوع من الاستغراب والاستهجان والتنكر، موضحين أنه لا حاجة حاليا إلى هذه الصالات مادامت تطبيقات عديدة على الهواتف والأجهزة الذكية تمكنك من تحميل مئات بل الآلاف من الأفلام "ونحن مع جيل اليوم المتطور والسريع يجب أن نتقدم إلى الأمام لا أن نعود إلى الوراء". وأبرز محمد (55 سنة) الذي أُحرج بسؤال ذهابه ومواظبته على مشاهدة الأفلام في قاعات العرض كما كان من قبل، أن الأقراص المدمجة عوضت السينما وخففت من كلفة سعر مشاهدة الفيلم لذا "فلمَ سأذهب للسينما حتى أضع 35 درها من أجل ساعة أو ساعتين !"، مسهبا أن بيته هو الآخر يوفر فيه طقس السينما، استنادا إلى إطفاء الضوء والجلوس على أريكة رطبة والاستمتاع بالمشاهدة رفقة أفراد أسرته، والمتحدث ما هو إلا نموذج مصغر لمحمدات أخر يحملون نفس التصور ويقتفون نفس الأثر. انطلاقا من هذه الشهادات القاسية في حق الدور السينمائية، يتضح أن العطب متجذر وليس بالسهل معالجته، لأنه مرتبط بثقافة ونمط عيش وأسلوب تفكير، وهو ما يكرس الدونية والاحتقار لهذه المعلمة والصرح الثقافي، الذي لا زال يقاوم ضربات فلذة كبده على الخصوص، الذين من المفترض أن يعلموا أبناءهم وجيل هذا العصر ارتياد السينما ومشاهدة فيلم أو فيلمين على الأقل في الأسبوع، لا تكريس الكسل والخمول والاتكال على شاشات الكومبيوتر والهاتف، التي لا يمكن أن تعوض أبدا لذة ونشوة الجلوس في قاعة العرض، ففي السينما يحتك المرء بالخيال والتأمل والإبداع، بل والإيمان بالقيم الإنسانية من قبيل الحب، والتسامح، والعدل، والمساواة، وما إلى ذلك من العناوين الكونية التي تحمل وزرها الصناعة السينمائية منذ أمد بعيد. أوفياء للزمن الجميل: إذا كان البعض قد خذل القاعات المظلمة وتركها مرتعا لمن هب ودب من العامة من الناس، الذين نهبوها وسرقوها، ولم يحافظوا عليها على الأقل كتراث مادي لزمن كان فيصلا في تاريخ المغرب المعاصر، فإن فئة أخرى جعلت من هذه القاعات نصبا تذكارية تزورها مع كل مرة، رفقة الأصدقاء والأحباب وأفراد الأسرة، متحدّين بذلك الوعكات الصحية، والبعد عن المكان والتوقيت المتأخر من الليل، حيث التقت "بيان اليوم" بالحاج عبد النبي الذي لا زال يزور السينما كلما سنحت له الفرصة بذلك، متذكرا كيف أن قاعاتها أخرجت شباب المغرب من الطبيعة الغفل، وقذفت بهم إلى عالم التنوير والتربية والتسلية وقضاء وقت ممتع مع الرفاق. وأوضح الحاج عبد النبي، الذي ظهر على محياه التعب وعياء السنون، أن الفن السابع لؤلؤة في عينه لأن عن طريقه أدرك العالم بكل حيثياته، لاسيما في فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ناهيك عن التعرف على المدن والعواصم ومشاهير ذلك الوقت، لذلك فهو اليوم يواظب عليها، ويجلس بجانب الشباب الذين تعودوا على رؤيته في القاعة، حاضرا ناظرا متفاعلا بكل حواسه، إذ يجدونه في كل مرة ملتزما بالوقت المخصص للعرض، مصطحبا في الكثير من الأحيان أحفاده من جيل هذا العصر، مربيا إياهم على سنة مشاهدة الفيلم بالصالة المظلمة. وفي جولة قامت بها "بيان اليوم" ببعض الفضاءات السينمائية التي لا زالت تقاوم وتناضل من أجل البقاء، وقفت على الإقبال القليل للناس على السينما، غير أن هناك فئة من الشباب الحاملين لهمّ هذه الطامة التي أصابت الثقافة المغربية ككل، يأتون جماعة في كل وقت يناسبهم لمشاهدة بعض الأفلام وفق برنامجهم اليومي، حفاظا منهم لماء وجه هذه الصالات التي أصبحت فارغة تبكي وتشتكي حالها لكل من دخل بيتها. برامج تعليمية ظالمة وشبح القرصنة: تتحمل المؤسسات التعليمية جزءا مهما في هذا السيناريو الذي آلت إليه القاعات السينمائية، إذ برامجها التعليمية ظالمة للفن السابع ولم توفيه حقه في نصوصها التدريسية، بل ولا توجد مادة خاصة بهذا التوجه إلا في القليل من المدارس إن لم نقل منعدمة ! وهو ما يثبت غض البصر عن هذا القطاع الحيوي الذي ربى أجيالا وأجيالا وسوى شخصيتهم وقوم إنسانيتهم، مسافرا بهم في رحلات مختلفة عبر العالم، مع قصص إنسانية متعددة ومتشابكة الخيوط، مقدما بذلك حكايات وروايات عجائبية وخيالية وواقعية لا زالت راسخة في ذاكرة رواد السينما الأوفياء. ومن جهة ثانية، نجد بعبع القرصنة يطارد الأشرطة السينمائية، بتواطؤ من نخبة وأنتيليجانسيا ومثقفي المجتمع، المدمنين على شراء هذه الأقرصة من بائعيها المغضوب عليهم من طرف شركات الإنتاج ورجال السلطة، إذ يشاركون في هذه الجريمة المكتملة الأركان، المتجلية في ذبح دور السينما من الوريد إلى الوريد، وهو ما أكده لنا أحد الباعة الذائعي الصيت رافضا ذكر اسمه بباب الحد بمدينة الرباط، مفيدا أن رجالا وشخصيات وازنة تتوافد عليه بشكل يومي لاقتناء ما جد من الأفلام التي يحمّلها بأجهزته المتطورة ويقدمها وصفة جاهزة لزبنائه في قرص مدمج. انطلاقا من هذين النموذجين الحيين الذين نحتك ونعيش بينهما يوميا، يتضح لنا أن الموت البطيء لصالات العرض السينمائية هي مسؤولية مشتركة بين الجميع، والكل يحمل على كاهله عاتق ما أفرزته ثقافة الأنانية واللامبالاة، إذ يساهم الجميع في حفر قبر لهذه الصالات لدحرها نحو الانقراض والخفوت عن الأنظار. بُؤس الأرقام ورأي الدولة: بعيدا عن بكاء الأطلال والتشفي في الحالة وقريبا من لغة الأرقام والمنطق والرياضيات، أكد التقرير السنوي لعام 2016 الصادر عن المركز السينمائي المغربي، أن مداخيل السنة السالفة الذكر قد تقهقرت إلى 61.5 مليون درهم، بمعدل بيع مليون ونصف تذكرة فقط، حيث تكبدت القاعات السينمائية خسارة فادحة، إذا ما قورنت بسنة 2012 التي أغَلق فيها الصندوق العام مداخليه على 70 مليون درهم، بنسبة بيع مليونين و12 ألف تذكرة في السنة، وهو ما يرسم صورة قاتمة عن الوضع الكارثي والانحسار الخطير الذي يشهده الحقل السينمائي بالمغرب، الأمر الذي يشجع أكثر فأكثر أصحاب القاعات المظلمة على الإغلاق أو تحويل صالاتهم إلى منصة للأعراس والمناسبات أمام هذه الأرقام المهولة والمخيفة. ويقول الباحث الأكاديمي المهدي شبو في هذا الصدد: "إن الإبقاء على القاعات السينمائية مفتوحة يتطلب التحفيز على استمرار الاستغلال عن طريق المساعدات المالية وإعادة التهيئة، مع إقرار نظام جبائي محفز، فلا يعقل أمام التراجع المهول للاستهلاك السينمائي معاملة المنتوج الثقافي بالمعاملة الجبائية نفسها التي تعامل بها السلع الاستهلاكية ذات الإقبال الواسع، والتي تباع كالفطائر الصغيرة بالشكولاته". أمام هذا النزيف التراجيدي المرعب، تدخلت الحكومة السابقة في وقت متأخر من ولايتها، بعد وصول الوضع إلى حالة يرثى لها، إذ بدأت الصالات السينمائية تتساقط تباعا كأوراق الشجر في فصل الخريف، والشاهد على ذلك هو أنه منذ سنة 1984 كانت تتواجد بالمغرب 238 قاعة عرض، لتنحدر اليوم إلى الهاوية ب 31 قاعة عرض ! والتعليق لقراء "بيان اليوم"، فتدخل الأجهزة الرسمية للحكومة حاليا هو علاج صدمات فإما يحيا مرة واحدة أو يقتل مرة واحدة كما يقول ببير داكوياما، حيث أعلنت "لجنة دعم رقمنة وتحديث وإنشاء القاعات السينمائية"، خلال شهر مارس الماضي عن فتح باب الترشيح للاستفادة من الدعم، إذ باشرت اللجنة أشغالها بهدف تقديم الدعم من خلال تعزيز شفافية الترويج السينمائي في المغرب، وتعميم اعتماد نظام الشبابيك الإلكترونية، وتوسيع شبكة قاعات العرض في إطار التوزيع العادل للبنيات الثقافية على الصعيدين الجهوي والوطني. وحددت اللجنة يوم 05 يونيو 2017، كآخر أجل لإيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الرقمنة والتحديث والإنشاء لهذه السنة، وذلك بعد استيفاء الشروط والمعايير المحددة في دفتر التحملات، حيث تودع الترشيحات بكتابة اللجنة بالمركز السينمائي المغربي بالرباط، فهل هذا التدخل النبيل يمكن أن يحد من سرطان الداء الذي ترك ندوبا واضحة على جسم الفن السابع؟ القادم من الأيام هو الكفيل بالإجابة عن هذا السؤال. إنجاز: يوسف الخيدر (صحافي متدرب)