سؤال مشروع يطرح نفسه علينا قبل الخوض في هذا الموضوع الخلافي والإشكالي معاً وهو: هل من الوجهة التاريخية والمعرفية (الابستموبولوجية) نستطيع القول إن بداية التفكير المنطقي لدى الإنسان بدأت عملياً مع بداية تفكيره الفلسفي وتخليه عن تفكيره الأسطوري؟. هذا مع تأكيدنا على أن الإجابة عن هذا السؤال تفرض علينا بالضرورة توضيح دلالات كل من مفهومي التفكير الفلسفي والأسطوري معاً. فإذا كانت الفلسفة في أبسط صورها كما بينها ابن رشد, بأنها فعل ليس أكثر من النظر في الموجودات... والموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها, وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم, كانت المعرفة بالصانع أتم..( ثم يتابع).. فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.. وهو أتم أنواع النظر, وهو المسمى برهاناً.. (1). (فلسفة ابن رشد (فصل المقال) – المكتبة المحمودية التجارية – مصر- دون تاريخ نشر – ص2-3 ) وبغض النظر هنا عن مفهوم العقل ودلالاته الذي ربطه ابن رشد بالفلسفة, ومن حيث رؤية ابن خلدون ذاته أيضاً لطبيعة العقل إن كان معطى معرفياً تاريخياً شكله الوجود الاجتماعي للفرد أو المجتمع, أو هو قدرة ذهنية أفاض بها الله على المرء كي يميز بها الخير من الشر, ويستطيع التكيف مع المحيط الذي ينشط فيه, فهو بالمحصلة إقرار بأهمية العقل وقدرته اللامحدودة على استخدام القياس والبرهان عند تعاملنا مع الواقع والحقيقة معاً, أي مع مقولات الفلسفة الواقعية والعقلانية مثل الحركة والتطور والنسبية والضرورة والمصادفة والعام والخاص .. الخ, وهذا ما يتنافي مع التفكير أو المنطق الأسطوري اللاعقلاني الذي لا يقر بارتباط العقل بالواقع, وبالتالي تشكله عبر هذا الواقع ذاته, ليتحول فيما بعد إلى وسيلة لتحليل الواقع وإعادة بنائه من جديد وفقاً لتصورات ورغبات حوامله الاجتماعيين ومصالحهم في المرحلة التاريخية المعاشة. فالعقل الأسطوري هنا, يشكل في طبيعته معطى كلياً بشكل مسبق, وقائم بذاته, وهو بالتالي مفارق بالأساس للواقع الذي يتعامل معه أو ينشط فيه, وغالباً ما يتمسك بالجوهر والماهية وبالإيمان المطلق والمتناهي تجاه الحقائق, على حساب النسبي, والمتحرك والظاهر. وهو في ذلك موقف فلسفي أيضاً, بيد انه موقف فلسفي مثالي. إذاً, إن التفكير الفلسفة العقلاني, أو العقل النقدي, يعمل منهجياً على استخراج ماهية الأشياء من ظاهرها, من ما هو محسوس ومعاش وعياني. أو بتعبير آخر إن للفلسفة العقلانية وظيفة أو مهمة, هي اكتشاف وإدراك سر الوجود والطبيعة اللانهائية لكل كائن, وهذه هي المهمة الرئيسة والمركزية للمعرفة الفلسفي العقلانية. أما العقل الأسطوري, فقد تجاهل أو لم يستطع طرح أو فهم العلاقة بين ماهية الشيء وظاهره طرحا أو فهماً جدلياً, أي لم يستطع حل التناقض بين ماهية الشيء القابلة للإدراك بواسطة العقل النقدي القادر بدوره على الدخول إلى عمق الشيء ذاته, وتفسير حركته وآلية عمله وتجلياته، وبين الشيء القابل للإحساس بواسطة الحواس, والوقوف عند هذا الحد من المعرفة الظاهرية السطحية للأشياء, حيث تشكل هذه المعرفة عنده بداية تاريخ الشيء ومنتهاه. إن البحث في المطلق والعام والمعطى بشكل مسبق والدائم, وفي عالم الفكر المجرد, هو إذن الموضوع المركزي للتفكير أو العقل الأسطوري. وهذه الإشكالية المعرفية والمنهجية معاً، قد استمرت آلاف السنين ولم تزل قائمة وتمارس دورها بشكل مباشر وغير مباشر على حياة ومستقبل إنسان هذا العالم, بدون أن يتمخض ذلك عن جواب يشفي الغليل . (والسبب أن الإشكالية هي في أصلها إشكالية مغلوطة، ولذلك لا حل لها في الإطار الذي وضعت فيه، وبالطريقة التي طرحت بها(. , حيث تحولت إلى إشكال معرفي ومنهجي مستعصي عن الحل، بل راح هذا الإشكال يمارس دوره بروح ومنهجية أكثر فاعلية وحيوية في تسير السياسة الاجتماعية والسياسية والثقافية في حياتنا المعاصرة. على العموم :إن الفلسفة العقلانية والواقعية معاً, ليست هي وسيلة معرفية أو عقل أداتي يستخدم للتخلص من التفكير التبريري والأسطوري القائم على الإطلاق والثبات, وعلى أشكال من الوهم والخيال واللامعقول التي تسيطر على البنية الفكري والعملية للإنسانا المعاصر,(بل هي عراك ميداني مع الوهم, وحالة نهوض اجتماعي نحو الحقيقة, وأن الفيلسوف العقلاني (العضوي), وهو المنحدر من عامة الناس والمندغم بمجتمعه الإنساني, رغم ارتقائه إلى النخبة الفكرية بفضل مجهوده النظري ونمو وعيه النقدي, فهو يتحمل اليوم مسؤولية كبيرة على عاتقه وهي الالتزام بقضايا الناس الذين ينحدر منهم وتكريس حياته من أجل خدمتهم, وفضح, كل أشكال الاغتراب الفكري الذي راح ينتشر اليوم انتشار النار في الهشيم على الساحة الثقافية والفكرية, وبكل مستوياتها الاجتماعية, ويمارس عبر ما هو متاح من وسائل توصيل إعلامية وثقافية, تتحكم في إدارتها وتوجيهها قوى عالمية تسعى جاهدة لنشر وتعميم الجهل والتخلف, وتغليب الغريزة والشهوة على العقل والمنطق خدمة لمصالحها الأنانية الضيقة إن الفلسفة العقلانية النقدية ممثلة بحواملها لاجتماعية ومنها الفكرية والسياسية على وجه الخصوص, إذا أرادت أن تواجه التفكير الأسطوري, وتنتصر للقيم الكونيّة الايجابية, فينبغي عيها أن تبادر بدراسة أشكال الصراع الاجتماعي, وان تحشر نفسها في هذا الصراع من أجل الوقوف إلى جانب الفئات الأقل حظا, والانتصار لحقوق الإنسان المغرب والمشيء والمستلب اليوم, والإمساك بأشياء هولاء الناس بالأيادي الحقيقية, والرؤية المباشرة للأحداث الملموسة, فهم صناع أمل وحرية المواطن انطلاقاً من مواقعهم في الدولة والمجتمع, وعليهم أن يدركوا أنهم عمال حقيقة, وليسوا خدماً لمؤسسات, ولا أصحاب ولاءات, أو وحراس سلطات, يترقبون التسميات وينتظرون الترقيات والامتيازات.