حصيلة الفاعل الإنتلجونسي الوظيفة الاجتماعية للفاعل الإنتلجونسي أن يمتد إلى الأحياز الممكنة للامفكر فيه. إنها وظيفة الوسيط الإصلاحي الذي يسعى لتحريك الأسئلة الممكنة، والبحث عن مخارج حقيقية لها. ووسائله في ذلك معرفية أكثر جذرية وحسماً، وأبعد عن التلفيق والتبرير. لكن هذه الوظيفة ليس بالضرورة موضع التزام الفاعل الإنتلجونسي الديني الذي قد يتواطأ أحياناً مع التيار العام ويمارس دور المعقلن لتخلفه. من هنا وقبل الحديث عن دور الفاعل الإنتلجونسي الديني في المغرب، علينا أن نتوقف عند الدور الإنتلجونسي الديني المفترض، حيث ما من دور لا ينفتح على هذه الأسئلة إلا ويشكك في نزاهة الفاعل الإنتلجونسي الديني أو على الأقل ينزله من مقام النخب ذات الحسابات المعرفية النهضوية. ثمة ثلاثة أسئلة يستبعدها الفاعل الدولاني والسياسي الحركي، في حين يحتفظ الإسلام الإنتلجونسي بحق التحرش بها. ولعلها واحدة من مصادر نفوذه وسلطته التي يمارسها وتبرر موقعه ووظيفته أيضاً. ويمكننا القول: إن محنة المثقف أو الفاعل الإنتلجونسي الديني تتجلى في هذا الاستبعاد المكثف للامفكر فيه في عملية الإصلاح الديني. حيث هناك ترتسم جملة من التابوهات: تابو سؤال الكتابة التاريخية. تابو سؤال الأنثربولوجيا الدينية. تابو سؤال الاجتهاد والتأويل وفلسفة النص. -1سؤال الكتابة التاريخية نستطيع أن نجمل الحديث هنا بالتساؤلات التالية: نحن أمة سبَّاقة إلى الكتابة التاريخية. مارست ثورتها الأسطوغرافية منذ اليعقوبي والمسعودي وانتهاءً بابن خلدون. وقد حققنا ثورة في الكتابة التاريخية شكلت حدثاً كونيًّا غيَّر مجرى التاريخ الأسطوري غير القائم على التحقيق، حيث حرر الصناعة التاريخية من تاريخ هيرودوت وأضرابه. ما الذي جعلنا اليوم نخشى من سؤال الكتابة التاريخية[6]؟. حققت الثورة الأسطوغرافية الغربية انقلاباً إن لم نقل قطيعة، لعلها هي من جعل فرانسوا شاتلي يرى أن علم التاريخ هو صناعة للقرن التاسع عشر دون الالتفات إلى بوادر هذا الانقلاب العلمي في لحظته الخلدونية على الأقل. وهكذا بات الغرب يؤرخ لكل شيء ما ظهر وما بطن. يؤرخ للجغرافيا مع فرناند بروديل ويؤرخ للميكروبات وللزواحف وللعبة الورق...، ألا يحفزنا هذا لتدارك الأوضاع للتأريخ لاجتماعنا، بعد أن أدركنا أن التاريخ، وكما أكد بول فاليري يوماً: علم خطير جدًّا؟! إذا كان الإسلام لا خوف عليه، وإذا كان الدين لا يناقض العلم، وإذا كنا نعتقد بإمكانية العلم لا باستحالته، وإذا كان الدين بوصفه حقيقة شهدت أولى تجلياتها في الماضي كحدث تاريخي، فما الذي يخيفنا من الكتابة التاريخية وإعادة قراءة تاريخنا على أسس علمية وموضوعية؟! ثمة بلا شك أجوبة كثيرة على هذه التساؤلات. لكن في تصورنا هناك جواب أكبر؛ هو كوننا ننطلق من الإحساس بأننا أمة خارج قوانين الزمان ومنطق التاريخ. وهذا يتأكد في ثلاث صور خاطئة نحملها عن التاريخ: فوبيا الخوض في الماضي والتسليم به كما هو من منطلق إيديولوجيا ترى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. مع تكريس الفصل التعسفي بين مسار حركة الأمة، على اعتبار أن القطائع الحاصلة هي مجرد قطائع أخلاقية ذات مدلول إيماني، وليست قطائع علمية ومعرفية. هكذا تحتل المعصومية التاريخية للجماعة المسلمة الأولى الوجدان المسلم، وبه يحتل زمانها موقعية النموذج المعياري للأجيال قاطبة. علماً أن المراد من خيرية الزمان هناك، خيرية شخصية وليست خيرية تاريخية. يمكن أن يكون زمانهم أفضل بوجود النبي والأئمة وبعض الصحابة في عظمة الدور وشرف التأسيس ونبل الغايات. لكن هذا لا يتعدى إلى الحكم التاريخي على زمان دون آخر. فمنطق التاريخ يقول: إن الآتي هو خير من السابق. وإذا كان الأنبياء شخصيات فوق تاريخية واستثنائية -وإن كانت وظيفتها لا تتم إلا بشروط تاريخية- فإن العالم من حولهم لم ينفك عن التاريخ وقهر شروطه ومنطقه، بل إن الأنبياء -وهذا ما يفيده الاشتقاق من النبوءة- هم كائنات مستقبلية وإن عاشت في أزمنة غياب الرشد البشري على مستوى الخبرة الجماعية وتخلف العمران البشري. لقد تعاطى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع العالم بشروطه التاريخية، غير أن المتأخرين تعاطوا مع مرحلته من منظور أسطوري، واعتبار حركته فوق تاريخية. موقف سلبي من الحاضر، وعدم الاكتراث للتحولات الجارية والملحة وممارسة النسيان والتجاهل لملف الإصلاح الديني. موقف سلبي من المستقبل قائم على الأماني لا المستقبليات، وهو في نظر هؤلاء مجرد استعادة للماضي لا صورة جديدة تناسب تقدم العمران البشري. وما لم يعالج سؤال الكتابة التاريخية لن يكون لعملية الإصلاح الديني معنى. طالما أن التعاليم الدينية ليست في ذاتها مقصودة بالإصلاح في مرتبة الجعل، بل الإصلاح يصبح ضرورة في حقها بالعرض، ما دامت تحققت بالمورد الأول ومسلسل النوازل، ما يجعلها تاريخية بامتياز. وذلك بأن نستعيد قناعتنا بأننا كائنات تاريخية وليس فوق تاريخية. وبأن نعيد تحرير تاريخنا بالأنس بمناهج التاريخ وفي ضوء فلسفة التاريخ. أي إخضاع التاريخ الإسلامي إلى القراءة والنقد ولا نتعاطاه كما لو كان جزءاً من الحقيقة الوحيانية. -2سؤال الأنثربولوجيا الدينية التعاطي مع المسألة الدينية من جانبها الاعتقاد المدرساني أو من جانبها التاريخي، يمنع السؤال عن جانبها الأنثربولوجي، الذي هو الجانب الأكثر انتشاراً واتصالاً بالقاعدة السوسيولوجية. فمادام هناك حقيقة دينية واعية وأخرى غير واعية، لا بد أن يطرح سؤال الأنثربولوجيا الدينية. ونعني بذلك تلك المساحة السوسيو-ثقافية التي تبرز مفارقة الاعتقاد نفسه، حيث تفقد المقاربة التاريخية جدواها لصالح مقاربة وظيفية أنثربولوجية تتعاطى مع الدين في صورته المأسطرة أو المدمجة في عالم الأسطورة ورموزها. المقاربة الأنثروبولوجية عامة ولا تقتصر على المغرب فحسب. وحتى وإن كان المؤرخون أو المدرسانيون ينزعجون من المقاربة الأنثروبولوجية، إلا أن هذه المقاربة لم تعد محصورة في المجال المحدد لها، بل عرفت تحولاً أعاد تشكيل مجال الدراسات الأنثروبولوجية إلى حد أصبح من الممكن جدًّا بل من الضروري جدًّا معالجة ظواهر المجتمع الحديث انطلاقاً من المقاربة الأنثروبولوجية. وما نراه، يقوم على قناعة بضرورة توسيع مجال هذه المقاربة وعدم حصرها في مجال الثقافات والمجتمعات ما قبل التاريخية. أجل، لقد دخل الإسلام إلى المغرب في أزمنة مبكرة، حيث المجال الطبيعي، تغلب عليه الثقافة الشفهية ولغة الأسطورة. ألا يعني هذا وبعد قرون خلت من الصهر والاندماج والتكامل، أن توجد ثقافة دينية مركبة تستجيب لحاجات المحلي؟! لقد اقتضت عملية التكييف الكبرى هذه، أسطرة الدين -باعتبار الأسطورة هي لغة المجتمع القديم، بها يتعرف على العالم، وهي وسيطه في المعرفة. حيث يتحدد المجتمع البدائي ب: التفكير ما قبل المنطقي حسب بروهل، واللاكتابة -أي الشفهية- ونمط اللادولة - كما عالجها بيير كلاستر -. ومع أننا لا نتعصب مبدئيًّا ومطلقاً لكل هذه المحددات، إلا أننا نسلم بأن المجتمع المغربي قبل الإسلام على الأقل ما انفك عن التفكير ما قبل التاريخي وما قبل المنطقي؛ أي التفكير بالأسطورة ورموزها وعالمها ووظيفتها. وبقايا وآثار هذا التداخل بين الحقيقة الدينية والوظيفة الأسطورية في المجتمع المغربي الحديث على مستوى التعاطي الديني لا زالت واضحة. ولا يحتاج أن يضرب إنسان أمثلة كثيرة على ذلك، ونكتفي ببعضها فقط: ما الذي يجعل الصوم يحمل من القداسة في الوجدان المغربي ما لا تحمله الصلاة أو أي شعيرة أخرى دينية. هكذا تجد مغربيًّا متحللاً من كل الالتزامات الدينية وربما حتى من بعض الاعتقادات الدينية، لكنه ملتزم حد التشدد بالصيام. تقول الأسطورة الدينية -ولا أهمية للخطاب الديني التشريعي في المقام، بأن من فطر رمضان يصاب بلعنة فورية. يعيدنا هذا إلى مفهوم اللعنة أو المصيبة calamite، كما في تصور مانيتو في المجتمع الهندو-أمريكي وليس بالمعنى المتشرعي كما يؤكده الخطاب الديني العام بمعناه الأرثذوكسي. وللمغاربة من أقاصيص هذه اللعنات الفورية والحوادث ما يفوق الخيال. ما الذي يجعل المرأة التي لا تلتزم بالحداد على زوجها المتوفى تتحول إلى كائن غرائبي بالليالي المقمرة، ويسميها المغاربة ب: بغلة القبور. على أساس اللعنة مرة أخرى يتم الالتزام التام بالحداد. وهي قصة تشبه، في بنائها المسوخي، واحدة من الأساطير الغربية حول الإنسان المستذئب وعلاقته باكتمال القمر. المثالان المذكوران يقدمان تصوراً عن حقيقة الالتزام الديني في السوسيو-ثقافة المغربية باعتباره ثمرة رهاب شديد التأثير. أي الالتزام للحؤول دون وقوع لعنة كارثية متوقعة. وعلى الأساس الأنثروبولوجي نفسه نفهم كيف أن الكثير من قبائل الأطلس وغير الأطلس لا تقر بحق النساء في الإرث، مع فرض التزاماتها الدينية الأخرى، بخلاف ما تقرر في الشريعة الإسلامية. لا مجال لفهم ذلك إلا في ضوء نظام القرابة كما عالجه ليفي ستراوس وجعله بنية المجتمعات البرية[7[ ولكي نقف على حقيقة كيف أن للأسطورة كل هذا الدور التفسيري أو التحريضي والوسائطي بين الإنسان والحقائق الخارجية بما فيها الحقائق الدينية. وحسب الحكاية الشعبية المغربية، وبالتالي المتخيل الديني/ الأسطوري المغربي الشعبي، نتحدث عن أن الحرباء كائن ممسوخ. وحتى هنا لا وجود لشيء مثير. غير أن هذا المسخ حدث ليس قديماً كما هو مفترض، أي بعد هجرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة. كانت الحرباء امرأة عجوزاً، و «أمازيغية». وحينما سألها المشركون الذين ساروا في أعقابهما، عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: «ورسنخ أحنيني»! أي لا أدري يا سيدي. لكنها في الأثناء أشارت بعينها إلى الغار. على إثر هذه الوشاية مسخت وهو سبب نظراتها المتقلبة. تحمل هذه القصة معاني كثيرة، لكن واحدة منها فقط، أن العنصر الأمازيغي منذ البداية كان حاضراً في الحدث الإسلامي -حظور العجوز الأمازيغية- ومن ناحية أخرى العقل اللاتاريخي لا يقيم وزناً للتعاقب التاريخي ويكثف المعنى. ومثل هذا سمعتُه في إحدى القرى، حيث أخبرني أحدهم بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مر من هنا وصلى في هذا المسجد. وقد كان المسجد المذكور مبنيًّا بطريقة بدائية ومتواضعة جدًّا، ولكنه حديث العهد. هناك حكاية سمعتها من امرأة قروية ذات مرة تقول أيضاً: إن القمل كائن ضروري وملازم للمسلم. فهو علامة المسلمين لا النصارى؛ «بالقمل نحن مسلمون». يقدم إرنست كلنير مقاربة أنثروبولوجية للوظيفة الدينية في البادية المغربية. وعلى الرغم من أن هناك من النتائج ما لا يمكن أن يلتفت إليه، لا سيما ذلك التطبيق الخاطئ والصوري للانقسامية على المجال، إلا أن ثمة ما هو أساسي في هذه المقاربة. نستطيع بموجبها التأكيد على النتائج التالية: أن للاعتقاد في المجال البدوي بعداً وظيفيًّا أكثر مما هو مجرد اعتقاد. تبني معتقد ما لا يعني مجرد طمأنة الذات بل أيضاً طمأنة الغير. ثمة احتياطي خارج الدين يتم التعامل معه بحذر وإخفاء كل البدائل الأخرى. للعلماء دور كبير في المجتمع الإسلامي، لكنه دور سلبي يأتي لتكريس وضع ما قائم. لكن هذا الدور السلبي للأفراد لا يمنع من التأثير في «طبيعة نسق الأدوار السائدة داخله»، إنهم يؤثرون لكن لا يؤدون الدور الحاسم. ثمة خلط كبير بين صلحاء القبائل والصوفية. تعيين زعيم أعلى للقبيلة بالانتخاب، لكنه لا يتم إلا مع وجود حاجة أو حدث كبير يهم القبيلة ولا يتم هذا التعيين فقط لمجرد ضمان استمرارية القبيلة. - ألا يلتقي هذا النزوع إلى اللادولة مع المنظور الخوارجي حيث يمكننا تفسير سبب تغلغل الفكر الخوارجي في قبائل البرغواطة في المغرب مثلاً. وللحديث عن ضحالة المعرفة الدينية في المجال القروي المغربي، والتي تعكس مكر الأجنبي الذي يستغل سذاجة الناس وأيضاً قابليتهم للتدجيل، ننقل قصة يوردها إرنست كلنير، عن قبيلة آيت عبدي تقول الحكاية: «ذات يوم حل بين آيت عبدي نصاب يتظاهر بالتدين والتقوى. وكان في الواقع يهوديًّا. استضافه رجال القبيلة وعاملوه معاملة الفقيه العالم رغم جهله التام: فعوض تلاوة القرآن كان يردد أسماء بعض الأماكن المعروفة في المنطقة، وينتهي بهذه الكلمات: إني أريكم بلادكم يا رؤوس الحمير». من هنا، ندرك الصورة التي يحضر بها الدين في الاجتماع المغربي، بوصفه اعتقاداً مجرداً عن حقيقته المتشرعية، وكطقوس وأساطير مدينة أو دين مؤسطر. لم يوجد الدين في المغرب على نحو سواء، فهو يختلف من المجال البدوي؛ مجال صلحاء القبائل والصوفية وبين المجال الحضري؛ مجال الفقهاء. لكن السؤال المطروح: ماذا بعد كل ذلك الترييف الممنهج للمدينة المغربية التي أفقدها تراثها وذائقتها الحضرية؛ حيث أنتج واقعاً سوسيو-ثقافيًّا أربك توازن المدينة، وجعل الوعي الديني المديني يعود مجدداً ليغرق في بَدْوَنَة الدين، ما جعل عملية الإصلاح الديني تواجه تحدياً كبيراً. أردنا القول: إن القاعدة السوسيولوجية للإصلاح الديني تعيش تراجعاً لصالح البَدْوَنَة الدينية، وهذا واقع يستثمر سياسيًّا من قبل الفاعل الحركي نفسه الذي يمجد بنقاء البدونة في حين يحتفظ في مركز قياداته بضرب من التدين البورجوازي! يتحدث باتريك هيني، باحث سويسري في العلوم الاجتماعية، ومتخصص في الظاهرة الإسلامية، مؤلف كتابي «عالم الفتوات» و «إسلام السوق، الثورة المحافظة الأخرى» عن ظاهرة إسلام بورجوازي ما فتئ يتخلى عن العناوين التقليدية للحركة الإسلامية مثل العدالة الاجتماعية. وهو إسلام بدأ يسم المرحلة الجديدة، ويمثل تحولاً في النمط والخطاب. ولست هاهنا أختلف مع ما ذهب إليه الصديق باتريك، لا سيما وأن أهمية الفكرة تكمن في كونها نتيجة بحث سوسيولوجي ميداني، لكنها لا تكاد تقتصر على مصر وحدها بل لدينا من حالاتها في المغرب، إذ يمكننا اليوم الحديث عن هذا النوع من الإسلام البرجوازي أو برجزة الإسلام، من خلال كبرى الحركات الإسلامية المغربية. بل يمكننا القول بأن ما وراء الاختلاف الظاهري بين حركتي التوحيد والإصلاح، والعدل والإحسان، إن هو إلا تجسيد لنموذجين من التأسلم: إسلام متبرجز وإسلام الفقراء؛ وهو التناقض الذي ستبرز معالمه جلية في المستقبل المنظور. -3سؤال الاجتهاد والتأويل يكاد الإسلام الإنتلجونسي بنموذجه الإرشادي المعرفي النقدي يتفرد بسلطة هذا السؤال. غير أنه ليس دائماً منخرطاً انخراطاً عضويًّا في رهاناته النقدية؛ فغالباً ما ينحاز الإسلام الإنتلجونسي إلى ممارسة دور المعقلن للمواقف الرجعية. مثل هذا حدث في عموم العالم الإسلامي، ونصيب المغرب منه كبير. ومع أننا نتحدث عن فاعل إنتلجونسي ديني في المغرب بكثير من التسامح، إلا أننا نعتبر أن الأسئلة الكبرى المطروحة في إطار الإصلاح الديني تأتي من نخب أخرى، ويواجهها هذا الفاعل بصورة سلبية تعيد صياغة الفكر ذاته بلغة مراوغة وتلفيقية؛ أي استدعاء المضمون نفسه بلغة معرفية حديثة، مع بقاء معالم الانفصام النكد بين اللغة والمضمون. بل إننا نجدنا حتى إزاء النخب التي تطرقت لقراءة التراث وعالجت إشكالية النهضة والإصلاح لم تستطع الخروج عن سلطة الباراديغم التقليداني، حيث بدت في وارد استعادة الأزمة نفسها بتقنيات معرفية مكثفة، في حالة من الانتقاء والتكييف لهذه التقنيات. سؤال الاجتهاد والتأويل واحد من التابوهات التي لم يجرؤ عليه فاعل من الفواعل الوسيطة في عملية الإصلاح الديني. وربما لا زلنا نشهد تواطؤاً بين الفواعل الثلاثة في محاصرة سؤال الاجتهاد والتأويل. وهي الحالة الوحيدة التي تتواطأ فيها الفواعل المذكورة! الإنتلجونسيا الدينية وإشكالية الصدمة حاول الفاعل الإنتلجونسي الديني أن يلتف حول مأزق الصدمة بتصعيد الخواف من الآخر، وإنشاء نوع من الممانعة المغشوشة المبنية على السلبية من الآخر والانزواء والشعور المزيف بالأنا. ولقد عبرت الإنتلجونسيا الدينية عن حالة من الجرح النرجسي إزاء القضايا الكبرى التي فرضها تحدي الحداثة، حيث معالم التعويض السكوباتي ظل هو سيد الموقف. وجدت الإنتلجونسيا الدينية في فكر نقد الحداثة وأدبيات هجاء الحداثة ملاذاً بديلاً للاستجابة المغشوشة بدل إكراهات الاستجابة الإيجابية لتحدي الصدمة عبر التحليل والاستيعاب وتصعيد الوعي بالصدمة إلى أقصاه ومحاولة الفهم والتجاوز. لقد حاولت أن تجعل مرة أخرى من الأنا استثناءً في حركة التاريخ، لتؤكد على ممانعتها ضد هذه الصدمة، دون أن تدرك الأهمية التاريخية للصدمة باعتبارها هي الشرط الأول للاستجابة. وثمة جملة من الصدمات تطرق فرويد إلى بعضها، أصابت العقل الأوروبي في مسار تقدمه بهذا الجرح، وكسرت كبرياءه. لكنها في نهاية المطاف شكَّلت التحدي الأكبر للعقل الأوروبي حيث سعى بعد ذلك لتكييف حركته على إيقاع هذه الصدمات. الصدمة الأولى تجلت في الانقلاب الكوبرنيكي - الفلكي الذي أعاد الأرض ومن عليها إلى هامش المركز الحقيقي. ولم يحدث هذا الانقلاب ثورة فلكية فحسب، بل انعكس إيجاباً على نمط التفكير برمته. وهناك صدمة أخرى تجلت في الانقلاب البيولوجي مع ظهور أصل الأنواع، الذي أعاد التأريخ لأصل الإنسان بوصفه حصيلة تكيّف وتطوّر وليس أصلاً فريداً. وهذه الصدمة بغض النظر عن النقاش الذي جرى حولها ولا يزال، انعكست على نمط التفكير الأوروبي واحتلت مكانها في ثنايا الفكر الحديث. وهناك صدمة ثالثة تجلت في التحليل النفسي، حيث حدث انقلاب كوبرنيكي على خرافة مركزية الوعي، وأصبح للاوعي دور رئيس سوف ينعكس ذلك على علوم اجتماعية أخرى. ويمكننا الحديث عن انقلاب صادم رابع يتعلق بنقد العقل الخالص مع كَانْت الذي أزاح العقل من مركز المعرفة، وحدد له مساحة معينة للتعقل في نطاق الظواهر المعروضة على الفهم، وكسر فكرة العقل المدرك لكل الأشياء بما فيها المتعالي والشيء في ذاته. أمام هذه الصدمات الكبرى كان الفكر الحديث في أوروبا ينجز أشكالاً من الاستجابة، وإن حملت أثر هذا الجرح، لكنها كانت استجابة واقعية وإيجابية للعالم. ولم يكن الإنسان الحديث في أوروبا الناهضة يقدم أمام هول هذه الصدمات قرابين الخوف من لعنة الطبيعة التي استطاع بيكون أن ينقلها إلى مرحلة التحدي، وهذا لعله أكبر مبرر سيجعل كَانْت يرى حقًّا في رسالة التنوير أن البشرية اليوم بلغت حد النضج. أمام هذا الفيض من الصدمات المعرفية التي شكلت قطائع بين أنماط معرفية وحقب في تاريخ المعرفة، كان الفكر الإسلامي كما تصوغه الإنتلجونسيا الدينية يحاول ممارسة التهوين والمكابرة إزاء واقع هذه الفتوح المعرفية، فكانت استجابتها أن جَرَّمت الفكر الحديث وتعاطت مع التطور التاريخي للمعرفة بوصفه ملحمة تآمرية. يمثل كتاب (جاهلية القرن العشرين) أبرز نموذج عن هذه الاستجابة الرفضوية التي اختزلت كل هذه التحولات والقطائع والصدمات، في مؤامرة صهيونية غربية لتضليل العالم[8]. لم يحضر القلق المعرفي في استجابة الإنتلجونسيا الدينية، سلباً أو إيجاباً. بل ما ساد هو عقل التجريم والتضليل والإحساس بالمؤامرة وإلغاء تاريخ المعرفة. في المغرب تواطأ الفاعل الحركي مع الفاعل الإنتلجونسي الديني في تجريم الحداثة وعدم الإنصات للتحديات التي تفرضها التحولات التاريخية على الإنسان كل الإنسان في مجالنا أو مجالهم. دعنا نقدم مثالاً يجسد مواقف الفواعل الثلاثة من موضوع المرأة ومشروع إصلاح المدونة مثالاً. لقد اعتبر الفاعل الدولاني موضوع المدونة، مشكلة تم حلها أو على الأقل حلَّ جزءاً منها. وقد رأى فيها الفاعل الحركي انقلاباً على آخر قلاع الشريعة، حيث ظلت مواقفه كلها سلبية، إذ لم يبادر إلى أي مشروع للنهوض بواقع المرأة وحقوقها وإن من منطلق رؤيته الإصلاحية. ثمة مفارقة كبرى في الجدل الذي حدث على إثر مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ومجمل النقاش الذي انتهى إلى تعديل مدونة الأحوال الشخصية وإقرار قانون الأسرة. حيث ليس ثمة فرق كبير بين بنود الأولى والثانية. وقد عزز قانون الأسرة من تلك البنود ما كان مرفوضاً في وثيقة مشروع الخطة الوطنية. وحتى لو اعتبرنا أن هذا الفصيل الذي حرك مسيرة مليونية ضد مشروع الخطة كان جاداً وواعياً بخطورة الموقف، فإننا نذكر فقط، بأن الجدية تقضي بأن يبادر الإسلاميون أنفسهم لتحريك ملف المرأة، والنضال الإيجابي من أجل حقوقها بدل أن يكتفوا بالدور السلبي. إن الحزب الإسلامي بالمغرب هو حزب سياسي وليس حزباً لتصدير فتوى فقهية. حيث يفترض في الحزب الإسلامي المبادرة إلى التجديد والتطوير، في حين أن دور الفقه هو دور سلبي، أي وظيفته تكمن في تكييف الفتوى مع الواقع. لكن الفعل الإيجابي يصنع ويفرض وقائع ولا يتكيف معها دائما. هذا في حين كان موقف الفاعل الإنتلجونسي الديني غارق في السلبية لا يحسن سوى إعادة إخراج المضمون الرجعي نفسه بلغة مختلفة، فيها الكثير من التبرير. ناقلاً الإشكال إلى الإسلام في نفس الأمر، ومن ثمة الحديث عن أن الإسلام كرّم المرأة؛ مرة أخرى تبرز ثقافة التحشيد للتعاليم مجردة عن الباراديغم المعاصر. يتحدث طه عبد الرحمن وهو مصداق بارز للإنتلجونسيا الدينية المذكورة، في معرض الرد على خطاب حقوق المرأة، عن لفظ المرأة بمدلوله اللغوي الاشتقاقي، بوصفها مؤنث المرء، وهو زيادة في الإنسانية التي يتيحها وصف المروءة. بهذا تنحل في نظر الإنتلجونسي الديني معضلة المرأة بمجرد لَغْوَنَة الإشكال ولَغْوَنَة حلوله. وقد كانت المرأة تسمى كذلك حتى في الجاهلية حيث كانت توأد نحت التراب، وتباع كالمتاع وهي كذلك كانت تسمى وبالمدلول اللغوي نفسه. فالإنتلجونسيا الدينية، بهذا المعنى تساهم في تحريف سؤال التجديد الجذري، وتعوِّض الحلول الحقيقية بحلول مزيفة كالمثال الذي ذكرنا آنفا. بالنتيجة: يتضح مما سبق، أن حصيلة الإصلاح الديني انطلاقاً من الفواعل الثلاثة، لا يجمع بينها هدف واحد، ولا تنتظم في رهان مشترك. فغياب الإرادة السياسية، وخيانة الإنتلجونسيا الدينية وانتهازية الفاعل الحركي، جعلت من الإصلاح الديني رهاناً سياسويًّا وإيديولوجيًّا، لا يقوم بذاته بل يقوم بما يتحقق من تردداته من آثار في حسابات ورهانات متضاربة، وسوف يظل الوضع كذلك حتى إشعار آخر! ----- [1] هاني، إدريس: خرائط إيديولوجيا ممزقة، ص 209 2025، ط 1 2006 مؤسسة الانتشار العربي، بيروت. [2] لفهم ذلك راجع المقاربة التي أنجزها ماكس وييبر حول طبيعة الحضور الديني في المجتمع الأمريكي وعلاقته بالإنتاج، في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية. [3] دوركهايم، إميل: قواعد المنهج في علم الاجتماع، ت: د. محمود قاسم و د. السيد محمد بدوي، ط 1988، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية. انظر أيضاً: - Emile durkheim/ le suicide..etude de sociologie - Presses universitaires de France.1930..paris [4] لمزيد من الاطلاع، انظر: إدريس، هاني؛ محنة التراث الآخر، الفصل الاول: الكتابة التاريخية، ص38 45 ط1 1998، الغدير للدراسات والنشر، بيروت. [5] انظر غارودي؛ روجيه: الأصوليات المعاصرة، أسبابها ومظاهرها، تعريب د. خليل أحمد خليل، الناشر دار عام ألفين - باريس - ط1 1992. [6] انظر هاني، إدريس: محنة التراث الآخر، فصل: الكتابة التاريخية، ط1 - 1998، الغدير للدراسات والنشر - بيروت. [7] انظر: Claude levi -strauss/ anthropologie structurale..librairie plon.1959..paris [8] انظر هاني، إدريس: الإسلام والحداثة، إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، مركز فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد - بغداد ط1، دار الهادي - بيروت 2005.