تتسم الحصيلة السينمائية للدورة الثامنة عشر من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، بالتنوع سواء من حيث الاتجاهات الفنية، أو اللغة الحوارية أو القضايا المطروحة وكذا الأمكنة التي احتضنت وقائعها، كما أن الفيلم الوثائقي كان له حضور، مثلما أن هناك أفلاما تم المزج فيها بين ما هو تخييلي ووثائقي، كما هو الحال بالنسبة لفيلم "عرق الشتاء" الذي خلف صدى طيبا لدى مشاهدي هذه الدورة. لعل أولى الملاحظات التي يمكن تسجيلها عند إلقاء نظرة على جينيريك أفلام هذه الدورة، سواء القصيرة منها أو الطويلة، هو هيمنة الكفاءات الأجنبية على عناصر هامة في الفيلم، من قبيل التصوير، وإذا قمنا بسرد قائمة هذه الأفلام، قد نأتي على ذكرها بالكامل، وهناك من هذه الأفلام ما اشتغل الأجانب على كل عناصرها التقنية: التصوير والصوت والمونتاج.. كمثال على ذلك فيلم يد فاظمة، فإذن أين تتجلى مغربية الفيلم الوطني وهو على هذه الصورة؟ هل يكفي أن يكون المخرج من جنسية مغربية لنعتبر فيلمه مغربيا ونشركه ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان وطني من هذا القبيل، بغض النظر عن هوية هذا الشريط ومن أبدع مجمل عناصره؟ يبدو من المهم جدا أن تقوم لجنة انتقاء أفلام المسابقة بالأخذ بعين الاعتبار هوية هذه الأفلام. فهناك العديد من الأفلام المشاركة في هذه الدورة التي لا يمكن أن تحدد ما إذا كانت مغربية أم أجنبية، حيث كل شيء غريب عن هويتنا: لغة الحوار، الفضاء الذي تجري فيه الأحداث، أسلوب العيش، التقنية التي أبدع بها الفيلم التي يكون وراءها أجانب، إلى غير ذلك من العوامل التي تجعلنا غير قادرين على الاقتناع بأن ما نشاهده يتجسد فعلا في فيلم مغربي، هناك أمثلة عديدة على ذلك. إلى جانب ذلك، من الملاحظ اشتغال تقني محدد في العديد من هذه الأفلام، نخص بالذكر هنا التقني كريم الروندة المتخصص في مجال الصوت. هذا الوضع المختل يترجم مدى شح الكفاءات المغربية في ما يخص الجوانب التقنية التي تشكل نقطة حسم في نجاح أي فيلم أو فشله، ولكن هل الواقع المغربي فعلا يعكس خصاصا في هذا المجال، لا نعتقد ذلك، بالنظر إلى أن بلدنا خلال العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، أنشئت به عدة معاهد سينمائية، منها ما هو تابع للقطاع العام أو القطاع الخاص، ومن المفروض أن يتخرج فيها تقنيون في مختلف مجالات الصناعة السينمائية، ومن بين هذه المجلات: التصوير بطبيعة الحال، حيث لم يتم الاعتماد عليهم في جل الأفلام التي تشكل حصيلة هذه الدورة على الأقل. هناك مؤاخذة أساسية يمكن تسجيلها على الطاقم التقني لهذه الأشرطة، كون جل المخرجين يحتكرون كتابة السيناريو، وهذا يشكل خللا ملحوظا، ما معنى أن يقوم شخص بعينه بعملية الإخراج وكتابة السيناريو، وهناك كذلك من يجمع أكثر من هذين التخصصين. أين كتاب السيناريو، أين كتاب القصة والرواية وغيرهم من المبدعين والمثقفين الذين لا شك أنهم لو أتيح لهم المجال للمشاركة في الإنتاج السينمائي المغربي، لقاموا بإغنائه والرقي به. على مستوى القضايا التي طرحت في أفلام هذه الدورة، يمكن التأكيد على أنها اتسمت بالتنوع، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو نفسي.. إلى غير ذلك من الجوانب، وهذا من حسن المصادفة، خصوصا إذا علمنا أن الجهة المدعمة لهذه الأفلام، المتمثلة في المركز السينمائي المغربي، لا تحدد المواضيع التي على المخرجين الاشتغال عليها. غير أنه من الضروري الأخذ بعين الاعتبار عدم الجمع بين عدة تخصصات، لأن هذا في النهاية يسيء إلى جودة إنتاجنا السينمائي، وقد وقفنا على تفكك العديد من السيناريوهات، وكان ذلك نتيجة احتكار بعض المخرجين لهذا العنصر الذي يعد حاسما في نجاح أو فشل أي عمل سينمائي. على المستوى التقني دائما، قد يجد المتفرج نفسه حائرا أمام جل الأفلام المشاركة: هل هي أفلام سينمائية بالفعل، أم أنها مجرد أفلام تلفزيونية؟ هناك من المخرجين من لا يزال غير واع بالحدود الفاصلة بين هذين الصنفين. حضر في هذه الدورة، على غرار الدورات السابقة، الشريط الذي يصبو إلى أن يكون فكاهيا، وعيا من أصحابه بأن الرهان على الشباك لا بد أن يمر بالضرورة من جانب الفكاهة، مستدلين بذلك بالعديد من النماذج، من قبيل فيلم الفروج وهو من إنتاجات الدورة السابقة الذي كان قد حقق أعلى المداخيل، غير أن الفكاهة تعد من أصعب الاختيارات، على اعتبار أنها تخاطب ذكاء المتلقي، وبالتالي يمكن اعتبار النموذج الذي قدم خلال هذه الدورة والمتمثل على الخصوص في فيلم الحاجات، قد خيب أمل العديد من المشاهدين، سيما وأنهم كانوا يثقون في الأسماء المشاركة في تشخيص أدواره الرئيسية، وهي أسماء راكمت تجارب عديدة في الميدان السينمائي، لقد وقع هذا الشريط الذي شاء له أصحابه أن يكون فكاهيا، وقادرا على استقطاب الجمهور، وقع في التهريج، عوض أن يعتمد على المواقف التي تجمع بين الفكرة المعبرة الحابلة بالدلالات والمتيحة لعدة تأويلات حتى.. وبين الطرافة التي تخلق الفرجة. اختلاف أماكن التصوير ضمن هذه الحصيلة، كان أمرا محبذا جدا، على اعتبار أنه مكن المشاهدين من الإطلالة على الواقع المغربي من زوايا متعددة، وبالتالي فإن هذا لا يمكن إلا أن يشكل إغناء لرصيده المعرفي. جميل أن يتم الانفتاح على عدة فضاءات من بلدنا، ويتم الالتفات بالخصوص لفضاء القرية، لكن لم يتم مقاربته بالشكل المطلوب، لقد حضر باعتباره خلفية لحدث مركزي معين، عادة ما يكون مشتركا داخل مختلف الفضاءات، داخل القرية وخارجها، فإذا استثنينا فيلم عرق الشتاء الذي يمكن اعتباره فيلما قرويا بامتياز، فإن باقي الأفلام التي تناولت هذا الفضاء، تعاملت معه بشكل سطحي. إنها حصيلة سينمائية، بالرغم من كل شيء تظل جديرة بالمتابعة، مع العلم أن إنتاجنا السينمائي السنوي لا يزال ضئيلا من الناحية الكمية، ولا شك أن حلم أي مهتم بهذا القطاع الفني، يتمثل في الانتقال إلى الصناعة السينمائية، بكل ما تتطلبه من إمكانيات وجرأة. **** تصريحات.. المخرج السينمائي حميد بناني المهرجان هو فرصة لإبراز إنتاج سنة كاملة، هذا مهم ولا بد منه، أشارك في هذه الدورة بفيلم ليالي جهنم، وهو عمل استغرق مني الكثير من الوقت، لأنه من المعلوم أن السيناريو لا يمكن تنزيله كما اتفق، وأعتقد أن أهم شيء هو إعادة الكتابة، فالقصة لا تكفي بل لا بد من التقنيات التي يتم بها عرض هذه القصة، فكل فيلم له تقنيته الخاصة، وتحدياته الخاصة كذلك، حيث من المطلوب من المخرج أن يبحث عن أشياء جديدة، يكتشفها الجمهور ربما لأول مرة، ويستفيد، غير أن أهم شيء لنجاح أي فيلم هو طبيعة العلاقة التي يقيمها المخرج مع الممثلين، هذه العلاقة هي التي تبني الفيلم بشكل جيد. هناك عزوف للجمهور عن القاعات، وفي اعتقادي أنه من أجل استرجاع هذا الجمهور، من المهم تجهيز فضاءات العرض وتقديم أفلام جيدة مغربية وعالمية، على الجماعات المحلية أن تولي عنايتها لهذا القطاع، ينبغي أن نعلم بأن الثقافة السينمائية شيء هام جدا، من حيث التثقيف وكذا السلم الاجتماعي. الممثل السينمائي محمد بونواشة أحرص على حضور مختلف دورات المهرجان لأنه يساعدني على تنوير أفكاري، وتبادل الأفكار مع المهتمين والمشتغلين في الحقل السينمائي، لأنني أعتبر حضور المهرجان ليس للاحتفال، بل يشكل مدرسة قائمة بذاتها، من الأفلام التي لفتت انتباهي خلال هذه الدورة، فيلم حكيم بلعباس، فهذا المخرج له رؤية سينمائية تخلق الفرجة عبر قضايا واقعية جادة، معالجة قضايا الفلاحين البسطاء، تقريبنا من معاناتهم وظروفهم الاجتماعية القاهرة، وفي ما يخص الأفلام القصيرة فقد أعجبني بالخصوص فيلم تيكيتة السوليما، على اعتبار أنه يعالج موضوع الفن، وكيف أن القاعات السينمائية في الطريق نحو الاندثار، كما أعجبني فيلم الطريق إلى الديدان الذي يعالج بدوره الفن من خلال عرض الظروف الاجتماعية للفنان. الناقد السينمائي عمر بلخمار الأفلام التي عرضت خلال هذه الدورة، يمكن اعتبارها متفاوتة المستوى، ولكن على العموم مستواها ليس عاليا جدا، ليس في مستوى الطموح، أفلام تختلف من ناحية معالجة الأفكار والمواضيع، هناك أفلام مصنوعة بذكاء وبكيفية جيدة، ولكن من ناحية المعالجة ليست أقوى، عادة ما نجد إما الفكرة أو المعالجة أقوى من الأخرى، ولكن على العموم ليست أفلاما رديئة، هي أفلام عادية، مضبوطة من الناحية التقنية واختيار الممثلين.. لكن ما ينقصها هو بعض اللمسات الفنية السينمائية الذي يبعدها عن الأسلوب التلفزيوني، ذلك أن السينما تتطلب مجهودا أكبر على عدة مستويات: الكتابة، التصوير، التقنيات، الحكي، التعبير غير المباشر، الحوار.. من بين الأفلام المتألقة والتي لفتت انتباهي: فيلم عرق الشتاء، وفي ما يخص الأفلام القصيرة، هي الأخرى متفاوتة من حيث الجودة، لكن هناك بعض المخرجين الذين لا يفهمون بعد ما هو الفيلم القصير، فهو ليس ذلك الفيلم الملخص، إنه يتطلب معالجة خاصة، لقد أعجبني فيلم تيكيتة السوليما، إنه فيلم جيد على مستوى التشخيص والفكرة ومعالجة هذه الفكرة كذلك. رئيس جمعية نقاد السينما خليل الدامون من بين الملاحظات الأولية على حصيلة هذه الدورة، تفاوت السن بين المخرجين، هناك من يشارك بفيلمه الأول أو الثاني، وهناك من يعتبرون من المخرجين الرواد، مثل حميد بناني وأحمد المعنوني وحتى حكيم بلعباس وهشام العسري، هؤلاء لهم تجربة ولهم بطبيعة الحال كتابتهم السينمائية الخاصة، وبالنسبة لأفلام الرواد، كنا بصراحة ننتظر منهم الأفضل، من ناحية الحبكة والحكاية والتحكم في إدارة الممثلين، بحيث نلاحظ تراجعا في هذا الباب، بعضهم حافظ على أسلوبه وكتابته السينمائية كما هو الحال بالنسبة لهشام العسري الذي يشتغل على الأحداث التاريخية بالمغرب. فقط هناك نوع من التمطيط، كان يمكن أن يكون الفيلم في أقل من المدة الزمنية التي عرض بها، نفس الشيء بالنسبة لبلعباس الذي جاء لنا بكتابة جديدة ورؤية جديدة كذلك في حكاية تختلف عن الحكايات السابقة وعن أفلامه السابقة التي كان يتقاطع فيها الروائي والوثائقي، في هذه الدورة لاحظنا أنه روائي تماما. في ما يخص أفلام الشباب، لا بد لهم أن يبذلوا مجهودا في ما يتعلق بالتصور العام للكتابة السينمائية، حيث نلاحظ دخول وخروج وأحداث تقع لا نفهم لماذا تقع، وإقحام بعض الأشياء الخارجة عن صلب الحكاية. بصفة عامة كنا ننتظر من مخرجينا أن يقدموا لنا منتوجا أفضل، على أي حال هذا واقع ناتج عن ظروف الدعم والتكوين السينمائي في المغرب، تأثير التلفزيون على الكثير من المخرجين، فالاعتقاد بأن الكتابة للتلفزيون هي نفسها الكتابة للسينما، خطأ فظيع جدا، لأنه في التلفزيون نأخذ بعين الاعتبار تلبية رغبات الجمهور العادي في البيوت، لكن السينما يجب أن نستشف منها وجهة نظر المخرج سواء من الناحية السينمائية أو الموضوعاتية. الناقد السينمائي أحمد السلجماسيعلى مستوى الأفلام الطويلة، لفت انتباهي فيلم بلادي هي بلادي، مع أنه الفيلم الأول لمخرجه، يتميز هذا الفيلم بالصدق، يتداخل فيه ما هو روائي وما هو وثائقي، فيه حكي عن تجربة الطفولة والهجرة إلى أوروبا وصعوبة الاندماج، وتشتت هويته بين المغرب وبلد المهجر، وعرف هذا العمل مشاركة تقنيين أجانب، ولهذا نجده من هذه الناحية جد متفوق، ولكن يبقى الإيجابي في هذا الفيلم هو الصدق، والعفوية والتلقائية، وأعتقد أن الصدق هو ما يمنح قوة لأي عمل إبداعي، هذا فيلم متكامل وقوي وعميق وتحضر فيه الروح المغربية، بينما الأفلام الأخرى، نجد فيها نقاط القوة والضعف، إلى حد يشعرنا بأنها غير متماسكة، حتى على مستوى التشخيص هناك تفاوت، هناك من يشد الانتباه كما هو الحال في فيلم البحث عن السلطة، الذي تميزت فيه الممثلة نوفيسة بنشهيدة، فهي التي رقت بهذا الفيلم عن طريق التشخيص، وهناك أفلام سطحية يغيب عنها العمق، مع أن مخرجيها لهم تجارب سينمائية سابقة. كما لا أغفل الإشارة إلى فيلم ضربة في الرأس، إنه فيلم يؤكد لنا أن مخرجه له بصمته الخاصة وعوالمه الخاصة، من خلال الاشتغال على الأحداث التي عاشها المغرب في سنوات الثمانينات: الإضراب، الاختفاء القسري، القمع.. هناك تميز كذلك من حيث إدارة الممثلين، فقد كانوا جد مقنعين في أدائهم، خاصة الممثل عزيز الحطاب وكذلك عادل أبا تراب. في ما يخص الأفلام القصيرة، هي بشكل عام مقبولة، مقارنة مع الأفلام الطويلة، ولكن بها تفاوت، هناك أفلام أكثر قوة كما هو الحال بالنسبة لفيلم الطريق إلى الديدان، موضوعه به جدة، نظرا لأنه يتحدث عن الوضعية الاجتماعية للفنان الذي لا يتم الالتفات إليه إلا بعد مماته، كما أثارني فيلم محمد الإسم الشخصي، لأنه يتناول مشاكل الاندماج في بلاد المهجر، ومحاولة تصحيح نظرة الغرب للمسلمين.