قطاع المياه في الدول العربية بين مشهد بائس وإمكانات إصلاحية واعدة ضرورة تغيير أساسي في السياسات المائية والأنماط الاستهلاكية أسدل الستار عن أشغال المؤتمر السنوي الثالث المنعقد بيروت مؤخرا من قبل المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أ.ف.د) والذي تمحور حول الإدارة المستدامة للموارد المائية في العالم العربي. صادق المؤتمر على نتائج وتوصيات تتقاطع مع رهانات المرحلة وخصوصيات المشهد المائي العربي، بعدما تداول المشاركون النتائج التي توصل إليها تقرير (أ.ف.د) حول حالة قطاع المياه في الدول العربية وإمكانات القيام بإصلاحات للسياسات المائية. وأكد المؤتمر ما ذكره تقرير (أ.ف.د) من أن حالة المياه في البلدان العربية حرجة وتتطلب عملاً فورياً. واحتمالات حدوث نواقص مائية حادة هي جدية في ظل سيناريو الوضع القائم، مما سوف يساهم في تخفيض الإنتاج الزراعي وزيادة الفقر وتدني الأوضاع الصحية العامة ومزيد من التدهور البيئي. وهذه جميعاً سوف تقوض على نحو خطير أجندة التنمية البشرية التي هي الأولوية المعلنة لكل حكومة في المنطقة. وأكد المؤتمر أنه من دون تغيير أساسي في السياسات المائية والأنماط الاستهلاكية، سوف يستمر حرمان المنطقة العربية من فوائد الاستخدام المستدام والتقاسم العادل للمياه. وشخص المؤتمر وضعية قطاع المياه في الدول العربية واستمرار المعاناة والأزمة المتجلية بأشكال متعددة رغم الاستثمارات الضخمة في البنى التحتية العربية خلال العقود القليلة الماضية، ذلك أن الخدمات الصحية المأمونة والإمدادات المائية الموثوقة ما زالت غير متوافرة للملايين، فالاستخراج المفرط للمياه الجوفية استنزف الطبقات المائية وجعلها عرضة للتلوث، والإمدادات المائية والبنى التحتية للري في المناطق الحضرية تعمل بشكل سيئ حيث يُتوقع أن يواصل معدل توافر المياه انخفاضه تحت خط الندرة المائية الحادة البالغ 500 متر مكعب للفرد في السنة بحلول 2015، وإلى ما دون 100 متر مكعب في بعض البلدان، بالمقارنة مع معدل عالمي يفوق 6000 متر مكعب. ونتيجة ارتفاع معدلات النمو السكاني، سوف يستمر انخفاض حصة الفرد من المياه العذبة، مما يتطلب استخداماً أكثر كفاءة للمياه، وتخفيض الهدر، وزيادة نسبة معالجة المياه وإعادة استعمالها، وتأمين إنتاج أكثر بكمية أقل من المياه، وتحقيق اختراق في تكنولوجيا التحلية لتيسير استعمالها على نطاق واسع. وثمن المؤتمر ما خلص إليه تقرير (أ.ف.د) في كون مجموعة من العيوب السياسية والإدارية تكمن في صلب الأزمة المائية العربية، إذ أن المؤسسات المائية مجزأة، والنظم القانونية المائية ضعيفة، والموازنات المائية الحكومية مقيدة، ثم أن السياسات المائية منفصلة عن البحوث العلمية، والاستثمارات المائية موجهة بشكل سيئ، أما الأموال والأنظمة الخاصة بمكافحة التلوث فهي غير كافية، في حين أن ضوابط الاستخدام الصحيح للطبقات المائية الجوفية مفقودة، وأسعار المياه منخفضة بشكل مصطنع مما يستوجب التصدي لإصلاحات هذه العيوب وسواها .. وفي سياق متصل دعا المؤتمر الحكومات العربية إلى بذل جهد حثيث لاعتماد إصلاحات سياسية ومؤسساتية وقانونية، تتيح تحولاً من ثقافة تنحصر في تأمين مزيد من الإمدادات المائية من خلال مشاريع تطوير باهظة الكلفة، إلى ثقافة تدير الطلب عبر تحسين الكفاءة وتخفيض الهدر وحماية المياه من الاستخدام المفرط والتلوث. ثم اعتماد معايير اقتصادية لتحقيق كفاءة استخدام المياه وترتيب أولويات توزيع الامدادات المائية المتوافرة على القطاعات المتنافسة. ويُطلب من الحكومات بإلحاح أن تفرض تعرفات للمياه من شأنها ترشيد استخدام المياه وتحقيق استرجاع للتكاليف بشكل تدريجي، وتعزيز العدالة من خلال دعم مالي هادف للأسعار، وكذا دعم سياسات زراعية جديدة من خلال تقديم حوافز اقتصادية ومساعدات بحثية ودورات تدريبية وحملات تحسيس جماهيرية، لإقناع المزارعين بتحسين كفاءة الري وتغيير أنماط المحاصيل وتحسين مواعيد الري والتحول إلى المحاصيل والأنشطة الزراعية ذات القيمة المضافة العالية. مع تطوير سياسات للتكيف مع تغير المناخ تقوم على استعمال المياه المالحة في الإنتاج الزراعي، وتطوير أنواع محاصيل محلية جديدة تتحمل أحوال القحل والجفاف، وتأهيل نظم حصاد المياه. وإعادة توجيه دور السلطات المائية الحكومية من دور مزود المياه إلى دور المنظّم والمخطِّط الفعال، بما في ذلك وضع هيكليات قانونية تمكن استثمارات القطاع الخاص والشراكات بين القطاعين العام والخاص من تقديم مياه نظيفة وخدمات صحية مأمونة، مع الحفاظ على الشفافية والمساءلة ثم إتاحة الفرص للقطاع الخاص، من خلال مزيج من الحوافز الاقتصادية والبرامج البحثية التي ترعاها الحكومات، للمساعدة في تطوير تكنولوجيات تنافسية محلية لتحلية مياه البحر، مع تشجيع تطبيقات الطاقة الشمسية في هذا المجال. هذا ومع الالتزام باستراتيجية وطنية للاستفادة من الإمكانات غير المستغلة لمعالجة المياه المبتذلة، وكذلك إعادة تدوير المياه الرمادية، لتعزيز الإمدادات المائية في البلدان العربية. ويجب أن تلتزم الاستراتيجية، كما تنص على ذلك التوصيات، بعمليات تنسيق وتخطيط مؤسساتية قوية لضمان معالجة المياه المبتذلة بشكل صحيح وإعادة استعمالها بشكل مناسب، وفقاً لمتطلبات حماية الصحة والبيئة. فضلا عن الالتزام بالاستثمار في بحوث ذات مصداقية علمية، تتماشى مع السياسات ذات الصلة وتتصدى للمشاكل العملية التي تعترض الإدارة المائية في الدول العربية. وفي أفق معالجة الفجوات الحالية في القوانين السارية، طالب المؤتمر الحكومات العربية بسن تشريعات مائية وطنية شاملة، وإنشاء آليات لضبط وتنظيم الوصول إلى المياه، وتعزيز كفاءة استخدام المياه، وتمكين أنظمة مكافحة التلوث، وإقامة مناطق محمية حيوية للموارد المائية، والنهوض بتخطيط استخدامات الأراضي، وفرض عقوبات قابلة للتنفيذ على المخالفين الذين يلحقون أضراراً بالموارد المائية. والعمل على تطوير إدارة جماعية للأحواض النهرية والطبقات المائية الجوفية المشتركة، وتحديد صيغة مستدامة لتقاسم المياه عبر الحدود، توجهها مبادئ عرفية من «استخدام عادل ومعقول» و»التزام بعدم التسبب بأذى». كما أن الحكومات العربية مطالبة بإلحاح بأن توقع وتصادق على اتفاقية الأممالمتحدة حول قانون الاستعمالات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، وأن تستفيد من مبادئها لإبرام اتفاقات فعالة وعادلة لتقاسم المياه. وإطلاق حملات توعية جماهيرية مستمرة لتشجيع أخلاقيات العناية بالمياه لدى عامة الناس، والحث على تغييرات سلوكية، وإبلاغ مستخدمي المياه بالحوافز الاقتصادية لتحقيق أهداف كفاءة استخدام المياه. ويجب إدخال المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والوسط الأكاديمي ومجموعات القطاع الخاص، في عمليات تخطيط الإصلاحات المائية. ودعا المشاركون في المؤتمر المؤسسات الصناعية الخاصة إلى تطبيق إجراءات مكثفة تتعلق بكفاءة استخدام المياه، لتخفيض الكمية المستعملة في كل وحدة إنتاج تخفيضاً جوهرياً، ومنع التلوث في المصدر، وإدخال تغييرات في العمليات كلما أمكن ذلك للتقليل من حجم المياه المبتذلة المولدة، وضمان معالجة المياه المبتذلة بحيث تستوفي معايير تنظيمية صارمة قبل التخلص منها. كما طالب المؤتمر مطوري العقارات ومستخدميها إلى إعطاء كفاءة استخدام المياه أولوية قصوى في تصميم الأبنية وتشغيلها، والاستفادة من التجهيزات المائية الاقتصادية لتمويل الأبنية القائمة حالياً إلى أبنية أكثر كفاءةً في استخدام المياه. مع حث المنظمات غير الحكومية والوسط الأكاديمي والقطاع الخاص على التعاون الكامل في تنفيذ هذه التوصيات. وتوجه المؤتمر بالشكر إلى المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أ.ف.د) لمبادرته البناءة بشأن الإدارة المستدامة للموارد المائية في الدول العربية، مشيرين إلى وجوب تقديم التوصيات إلى جميع الحكومات العربية والجهات المعنية الأخرى. ومتابعة تنفيذ توصيات المؤتمرات السنوية من قبل مجلس أمناء (أ.ف.د) وتقديم الحصيلة إلى المؤتمر السنوي الرابع. يشار إلى أن المؤتمر السنوي الثالث للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أ.ف.د) حضي برعاية رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وضم 500 مندوب من 52 بلداً، يمثلون شركات ومنظمات غير حكومية ومؤسسات بحوث وأكاديميين ووسائل الإعلام. وشارك وزراء وممثلو منظمات حكومية ودولية كمراقبين.