دائماً، حين تمسهم «يا بحرية»، ويرافقونها بالرايات الحمراء والمناجل والمطارق، تلوّح ببطء، وبالتصفيق الإيقاعي، يتناقلون معرفته جيلاً من بعد جيل. دائماً، حين يأتون بالعشرات، جالبين معهم أطفالهم وذكرياتهم وثقافتهم السياسية الخاصة، وعنادهم على الوقوف احتراماً لحزبهم الذي صار في السادسة والثمانين، دائماً.. كلما حضنوا «جمّول» بحب من يعرف أنها فخر أحمر خالص من أي شائبة، صندوق مقدساتهم، فيه وجوه شهدائهم، وآلام جرحاهم، وأيام أسراهم، فهمهم لوطن يقاتل لأجله أفراد من كل حناياه، عنادهم على بقائهم بالرغم من كل واقع في هذه البلاد يبدو مستغرباً كلما ازاداد حزب العمر سنة، فحضر للاحتفال له شبان وشابات جدد، ما زالوا يمشون تلك الطريق الضيقة المعتمة التي توصل إليه. دائماً: حين يلونون مساحة صغيرة من العاصمة بالأحمر، ويحولون الذكرى الخطابية إلى مناسبة اجتماعية، يلتقي فيها الأصدقاء القدامى ويتمازحون، ويتذكرون، قبل أن يغادروا عائدين إلى كل جهات الوطن. دائما، كلما اتصلت الفكرة من العتيق فيهم إلى المراهق، اتصال الكلمات في هذه الجملة الطويلة، فما زال في لبنان متسع من اختلاف، وما زال في لبنان، بالتالي، متسع من خير. في صالة سينما أريسكو بالاس في الصنائع، وفي باحتها الخارجية، احتفل الشيوعيون بالذكرى السادسة والثمانين للسنديانة. هاجت مجموعة من الأولاد وماجت، تملأ الأدراج والممرات بضوضاء تكبر بها قلوب قدامى الشيوعيين. الجيل الطازج من الرفاق، ما زال يتلمس دربه بالتطلع إلى الوجه الأيقوني لأرنستو تشي غيفارا، بطلاً آتياً من زمن يشبه الأحلام. مجموعة أخرى، أكبر سناً، أكثر التزاماً، كانت جدية بالاهتمام بتنظيم احتفال لا يحتاج إلى تعقيدات في التنظيم. فالحشد هو من أهل البيت، والوزير الضيف ظله خفيف وحضوره لا يثقل على أحد بل على العكس يبدو أن شعبية زياد بارود محسومة له في أي جمهور حل. ومن الرؤساء الثلاثة، وحده الرئيس نبيه بري كلف النائب هاني قبيسي بتمثيله، إضافة إلى سفيري كوبا والصين وممثلين عن سياسيين. إلى ضوضاء الأولاد، وانشغال الشبان والشابات بالتنظيم، كان الجمهور الذي اختلط فيه الأصدقاء بالملتزمين بالمسؤولين الحزبيين. هذا الجمهور أصغى لست كلمات كانت أولاها من رفيق عزيز على قلب الشيوعيين هو النائب السابق أسامة سعد، تلاه عضو المكتب السياسي في «الحزب الشيوعي السوري» نبيه جلاجح ثم عضو المكتب السياسي في «الحزب الشيوعي السوداني» الشفيع خضر ثم الأمين العام ل»حزب الشعب الفلسطيني» بسام صالحي ثم عضو المكتب السياسي في «حزب التجمع المصري» نبيل تركي لطفي. قبل هؤلاء، كان عريف الاحتفال الدكتور حسن إسماعيل، عضو اللجنة المركزية، يفتتح الاحتفال بتعداد يدل إلى هوية الحزب. مما قاله: «كانت المسيرة: نضالاً ضد الانتداب. مقاتلة الاستعمار. الحريات. الديمقراطية. قانون العمل. الضمانين الاجتماعي والصحي. الجامعة اللبنانية. عمال التبغ في النبطية يعانقون رفاقهم في بكفيا. فلسطين. الحرس الشعبي. جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. قافلة الشهداء من فرج الله الحلو إلى جورج حاوي وحسين مروة ومهدي عامل وخليل نعوس وسهيل طويلة، ومن علي أيوب إلى شهداء صريفا والجمالية (في حرب تموز 2006).. والقافلة طويلة». كان إسماعيل يتلو بعضاً من قاموس أدبيات هؤلاء الناس، الكبير، والذي فيه كل ما لهذه التجربة اليسارية اللبنانية من إيجابيات.. وسلبيات. آخر الخطباء كان الأمين العام الدكتور خالد حدادة الذي غالباً ما تأخذه الحماسة في هذه الذكرى. مما قاله إن «واجب الشيوعيين الأول، هو التصدي لاحتلال وطنهم كواجب وطني له أسسه الطبقية والاجتماعية، وألا يتراجعوا إلى الوراء. إن عدوهم الأساسي هو تلك الهجمة التي تستهدف لبنان والعالم العربي، الامبريالية الأميركية والصهيونية ومعها التحالف العربي الرجعي الذي انحدر إلى التبعية في ما يسمى «محور شرم الشيخ» الذي غطى كل الاعتداءات على جنوب لبنان وغزة». وقال: سنفرض أنفسنا في كل أشكال المواجهة، من المواجهة العسكرية إلى السياسية، متحدين مع كل أطراف المقاومة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. قلت سنحاول أن نفرض أنفسنا ولن نستجدي موقعا من احد. ودعا الشيوعيين إلى «النزول للشارع»، مضيفاً: نعلن اليوم ونبلغكم قراراً للتنفيذ، لكل منظمة حزبية ولكل قطاع حزبي ومن دون العودة إلى قيادة الحزب، إذا كانت هناك قضية تهم أية بلدة وأي شارع وأي حي، من الغلاء إلى الكهرباء إلى الماء إلى النظافة، فلتتحركوا والقرار لديكم، بذلك تعززون ثقة شعبكم بكم، فانخرطوا في قضايا الأحياء والبلديات ومقاومة نهج من عين في هذه البلديات بفعل النظام السياسي القائم مقاومة جماهيرية، قائمة على حمل قضايا الناس المباشرة جديا. حدادة تحدث في ختام كلمته عن مظلة الحزب الحامية للوطن. كان يستنبط من ملصق الاحتفال. فيه، تفتح حمامة بيضاء جناحيها طائرة، تحت مظلة حمراء عليها المنجل والمطرقة. يبدو الطير المسالم آمناً وحرّاً، وتبدو المظلة واجباً كبيراً، قد لا يتلاءم مع واقع الشيوعيين وقدراتهم، غير أن هذه المظلة المفتوحة على اتساعها تحمي أحلامهم عن لبنانهم، تطير آمنة تحت اللون والمنجل والمطرقة... ولو أنه ليس هناك من يحملها في الملصق!