ما تزال عبارة «صباح الخير أيها الليليون، صباح الخير أيها النهاريون»، التي افتتحَ بها محمد شُكري حياته الأدبية، في مطلع سيرته الروائية «الخبز الحافي»، تَرنُّ في روحي كلازمة إيقاعية تُدَوْزنُ فِعلَ الافتتان بالحياة، بالرغم من أنواع الحرمان، التي يمكن أن تذيقنا إياها هذه الفاتنة «ابنة الكلب»، خاصة في تلك المرحلة من العُمر، التي تكون فيها أجسادُنا، مثل صغار الطيور، بلا ريش يدفئ عظامنا، ويساعدُنا على تذوق متعة التحليق. ما تزال عبارة شُكري ترنّ بداخلي، مثقلة برمزية كاتب أحبَّ الحياة حتى العظم. هي ما تزال ترن، ليس فقط لأن الليل والنهار نظامان زمنيان قاهران، يطبعان حياتنا بِِقسْرية صارمة، ولكن أيضا لأنهما تُخمان يُحدِّدان فضاء حيوية الإنسان، حيث ذلك التعاقب الدائم بين حركة الجسد والمطارق والمناجل والأزرار وأصوات المحركات وماكنات الخياطة وطناجر الضغط، وبين حركة النفس والأحلام والكوابيس وفراديس اللاوعي بأزهارها وعسلِها وأنهارها وأفاعيها المتوثبة، التي تكون دائما بانتظار الخطوة البشرية الضالة. عِبارةُ شُكري، مِنْ قَلبِ تفَجُّرها الشِّعري، تَضعُني في كُلِّ هذا السياق. وهي مِن قَلب هذا التفجر، تشتغلُ كمطلع روائي، يفتتح السرد بالمناداة على الليليين والنهاريين وتوجيه تحية الصباح إليهم. تَحِية لا بُدَّ منها لِأناس النِّظامَين. فَهُما معاً، ليليون ونهاريون، متورطان في طين الحياة، بعد أن تخلَّقا من صلصالها، وورثا عن آدم عادة العمل والحلم واستنشاق الهواء والنط على تفاح الفردوس. عادة ستكبر وتنمو وتحبل بعادات أخرى، لتخفيف وطأة العيش، ومدِّ الانسان بذلك الرحيق الخاص، الذي يساعد جسده وروحه على فَرْز ريشٍ مُلَوَّن، يُسعف على التحليق، وتجاوز الشروط الأرضية المأساوية: أعني ريش الكتابة. من هذا الريش تخلّقتْ عادة التعبير والخلق، التي تُمَكِّن الانسان من مواجهة الحياة والموت، وما يقوم بينهما من خصام أو تواطؤ، بطاقة رمزية تخييلية واستعارية، تسمو بهذا الانسان وتحرره من قدَرية ضاغطة، تُوزع الأدوار وتُحدِّد نوعية الفِعل ومداه، في سياق تبتدعُ فيه الميتافيزيقا نظامَها المجتمعي الملائم. ينقسم، في الواقع، أهل الكتابة بين النظامين، فمنهم الليليون ومنهم النهاريون. فحتى يُسهم أهل هذه الصناعة في إنتاج ذلك الرحيق المُسعِف على «تحلية الحياة»، وجعلها أكثر خفة مِن روح طائر، فهم مدعوون للاختيار بين الليل والنهار. الكدحُ الفني النهاري له كتابُه، المبشرون بمزاياه وروائعه، والسعيُ الفني الليلي، له، كذلك، مبدعوه المأخوذون بفتنته وأصدافه ولآلئه. وربما، لا يكون هذا الاختيار، دائما، صادرا عن وعي ووضوح بصيرة، فيحدثُ أن يستسلم الكاتب لغواية الإبداع، تاركا ليدِه الكاتبة حريةَ اختيار زمن مواجهة البياض أو الحدب عليه. وقد يحدثُ أيضا، أن اليدُ تبدأ في الانضباط المُتدرِّج لزمنها الخاص، لتُفرز، في اللحظة المناسبة، ذلك السائل المُعلن عن حالة الكتابة والميسر لمُراودة المجهول. مِن مكان صغير، وضيق، ومعزول غالبا، يحاول الكاتب الليلي أو النهاري القبضَ على حظه من السِّر، وإذاعته، في الوقت المناسب، على الناس، بسعادة العائد من وليمة سرية، لا يكفُّ فيها المدعوون، نبلاء وصعاليك، عن إطعام قلوبهم لبعضهم البعض. يُمكنُ لحكمة الزمن، وجِدية السَّعي المأخوذِ بِحُرقة الكلمات أنْ يُؤسِّسَ لِتقاليد الكِتابة. حِينها، تتَّضِحُ معالمُ نهار الكاتب أو ليله، فَيَتَعوّدُ الكاتبُ على كتابة قمرية تنتزعُ ضوءَها من طبقات الليل وتخومه البعيدة، أو كتابة شمسية تستقرئ الليل البشري، في امتداداته الزمنية المترامية، التي لا يحدُّها تُخمٌ ولا أفق. وبين هذه وتلك، ينتصبُ الحُلمُ الإبداعي مهتدياً بجنون الليليين وحكمة النهاريين، لِيغذقَ على الحياة، بتلك النسوغ والأخيلة والاستعارات التي تجعلُها أجمل مِن طبعتها الأصلية.