رزئت الساحة الثقافية والفكرية المغاربية والعربية في واحد من أكبر رموزها المعاصرين، بوفاة المفكر محمد أركون... المغرب الذي أحبه الراحل، واختار ترابه لراحته الأبدية، يحس اليوم بالخسارة وبفجاعية الفقدان... في زمن التكفير وانتشار العتمة، يشعر التفكير باليتم بعد رحيل أركون، وقبله محمد عابد الجابري، نصر حامد أبو زيد، فؤاد زكرياء ومحمود أمين العالم... العقل في حداد... لقد سلبت منا المنايا شجاعة وجرأة مفكر، نحن في أمس الحاجة إليهما اليوم، وقد برع أركون في استثمار أدوات تحليل ومنهجيات قراءة مختلفة، استدعاها من العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، ونجح، بذلك، في امتلاك مشروع فكري متميز كان في موقع المواجهة مع التفكير التقليدي والمناهج القديمة، ومن ثم لا غرابة أن يتعرض أركون لهجومات المتطرفين الدينيين، حتى أن بعض منظريهم لم يترددوا في تكفيره، واتهامه ب (الخروج عن الملة)، ولم يتردد هو نفسه في مواجهتهم، وعلى الاستمرار في الاجتهاد، حتى أن الكل لم ينتبه إلى أن سنه زاد عن الثمانين، لأنه لم يفارق يوما حيوية الشباب فكريا وجسديا. اقترن اسم المفكر محمد أركون بالقراءة التجديدية للنص الديني، معتمدا على ما توفره مناهج من قبيل: المنهج التاريخي، الأنتربولوجي، الألسني، السيميائي وغيرها، كما أنه بلور مفاهيم ستبقى تحيل عليه وعلى منجزه الفكري مثل : المفكر فيه، واللامفكر فيه، سوسيولوجيا النسيان والإخفاق، السياج الدوغمائي...، وانطلاقا من كل هذا فان أركون تميز أساسا بهذا التعدد في المناهج وفي المفاهيم لدى قراءته للتراث الإسلامي، علاوة على جرأته واجتهاده واختراقه لكل الزوايا المسكوت عنها. آمن أركون بالعقل وأصر على إعلائه في مشروعه الفكري، ومن هنا فالاحتفاء بأركون اليوم يعني أن نصر جميعا على تجذير قيم العقل والعقلانية في مجتمعاتنا، ونوسع فضاءات الحرية، ونستمر في بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي... لقد حارب أركون باجتهاداته مختلف (الأصنام) الفكرية، وواجه كل العقبات التي نصبت في طريقه المتوجه إلى تحديث العقل الإسلامي والعربي، وفي هذا درس كبير علينا كلنا أن نواصل السير فيه لمواجهة كل أمراضنا الثقافية والفكرية والاجتماعية. أركون أحب بلدنا وعاش متنقلا بينه وبين فرنسا، وحمل غربته عن وطن الولادة والنشأة، وعانقها كما فعل أبو حيان التوحيدي الذي أحبه الراحل، وحتى بعد الممات اختار لجثمانه تراب الدارالبيضاء وأوصى بدفنه تحت سمائها. في المغرب نحس اليوم باليتم، وبحرقة الفراغ... الرحمة لأركون... والعزاء لنا كلنا...