خص الأديب المغربي محمد صوف فضاء رمضان لبيان اليوم، بالنص الكامل لروايته الجديدة «أورام موروثة»، التي لم يسبق نشرها. ندرجها، ها هنا، ضمن حلقات، على امتداد الشهر الفضيل.. وهي حلقات حافلة بالإثارة والتشويق والمتعة. ------------------------------------------------------------------------ وللأديب محمد صوف إصدارات عديدة، في الإبداع القصصي والروائي، وكذا في مجال الترجمة، كما له اهتمام بكتابة السيناريو، وبالنقد السينمائي. ومن بين عناوين إصداراته: رحال ولد المكي (رواية)، هنا طاح الريال (مجموعة قصصية)، أبناء قابيل (مجموعة قصصية)، يد الوزير (رواية)، الرهان(رواية). *** استيقظ مروان . فرك عينيه . شعر بانبساط. و هو يرتدي ثيابه مد يده إلى الهاتف .رسالة هاتفية من كاميليا تقول ‘' حبيبي. لقد سقط القناع وافتضح أمره .'' كان يعرف أنها تقصد زوجها لكنه لم يفهم أي قناع سقط و أي أمر افتضح. وفي المقهى رآها وابتسامتها. كانت مقطوعة فيفالدي تؤثث اللحظة وجاء صوتها المبلل. - أهلا بك. أعرف عاداتك. شع من عينيها بريق غامض . ووجد نفسه يحدق دون أن يدري في صدرها النافر .تطلع إلى الشعر الكستنائي وعادت إليه جلسة الفندق. قالت: - أتذكرني؟ حرك رأسه بالإيجاب - تبدو لي عاشقا متينا تماما كما رأيتك في الفندق. عندما تفكر فيها تنسى كل شيء .تنسى زوجتك وأطفالك وبيتك و أهلك و يومك وغدك أصاب دماغه خدر ووجد نفسه يتابع الصوت اللزج و يتلذذ بإيقاعه. - ما سأقوله ليس درسا. أنت أستاذي .مجرد اقتراح أعي أنك تعيه لكنه قد يغيب عنك و أنت قلق مشتت موزع الخواطر مبلبل الفكر. في لحظة بدت له عيناها طينيتين و ديتين ورأى على شفتيها المكتنزتين مشروع قبلة . أضافت : - أنت تريد أن تحقق نتيجة ولديك هدف . والوصول إليه يتطلب إستراتيجية .العفوية والتفكير التلقائي لا يفيدان.كلنا نريد أن نحب أن يحبنا الآخرون. أن نفلح في ما نفعل . ماذا يجب علينا أن نفعل إذن؟ أن نحدد الطريق الذي نسلكه إلى ذلك .إستراتيجيته كما يقول الساسة. إذا عرفت أي سبيل ستسلك و إذا حددت الطريقة إلى ستتبناها في سلوك هذا الطريق ستخرج من التردد والحيرة. ويكفي الخروج من التردد لتطل على القرار كالوصفة التي تهتدي بها لإعداد أكلة ما. الوصفة إستراتيجية والأكلة هي الهدف. الوصفة تتضمن قائمة المواد التي نحتاج إليها و طريقة الاستعمال وفق نظام وترتيب معينين.جهازك العصبي لا يختلف عن أي جهاز آخر. و ما تحصل عليه من نتائج مصدره كيف توظف طاقاتك و جهازك العصبي في الاقتصاد كما في الحب . هناك من يملك موارد ذهنية أكبر . لكن من يحسن توظيف موارده يدرك مبتغاه بسرعة أكبر و في وقت أقل .. الكيف أستاذي الجليل .. الكيف قاطعها مبتسما: - لا شك أنك مولعة بالبرمجة العصبية اللغوية. توقفت عن القول و بادر : - حدثيني عنك - ربما أطلعتك على حياتي كاملة في يوم من الأيام. الآن.... تأرجحت على شفتيها ابتسامة مترددة و تابعت: - سأقول لك شيئا عني . يمكنك أن توقفني إذا أزعجتك .لن أغضب منك.لم يجب مروان و ظل ينتظر ما ستسفر عنه اللحظة . - لا أحب حياتي . لا أطيق إيقاع العمل والتنقل والنوم رغم الأجر الذي يقولون عنه محترما. أسعى إلى العثور عن المجهول ولن أحل المعادلة إلا بلقائه . هل تتصور أن السؤال الأبدي الذي لا يتوقف عن دغدغة كياني هو ماذا سيحدث لي عندما أموت.. هل تعرف شخصا واحدا يستطيع الرد على هذا السؤال ؟ أرجوك أوقفني إذا أزعجتك . - لا عليك .تابعي . - كلما أمعنت في التفكير والقراءة لا أجد غير احتمالين اثنين لا ثالث لهما . إما أن ينتهي كل شيء عند فناء الجسد وإما أن هناك شيئا يستمر بعد الجسد. فإذا كان فناء الجسد هو النهاية الفعلية ما جدوى الحياة ؟ ما جدوى أن تركض خلف المتعة و تفادي الألم؟ ما جدوى أن تجمع مالا حطاما لتتمتع حتى النهاية؟ ما جدوى أن تعيش في عالم كل ما فيه مجاني . العنف مجاني . والجور فيه مجاني أيضا؟ لكن إذا كان هناك استمرار لشيء ما يصبح الأمر مختلفا .ربما أصبح هناك معنى ما . لا أحب فكرة باسكال الذي قال حتى لو لم يكن هناك إله فمن الأفضل أن نؤمن به , لن نخسر شيئا بل سنكافأ إذا ما كان فعلا موجودا . أراها فكرة مفتعلة تستهين بذكاء الله . وشرعت أبحث عن مرفأ علني أجدني فيه . وجدته في الحب. الحب رفيق الألم . أن نحب بالمعنى العريض .كل الناس أولا. لا يوجد شخص أفضل من آخر . لا شيخ ومريد .لا يوجد أستاذ وتلميذ كلنا أساتذة و كلنا تلاميذ . لكل واحد منا رسالة .لكل واحد منا شيء يبلغه للآخرين . وبالتالي يتعلم الأستاذ من التلميذ مثلما يتعلم التلميذ من الأستاذ و مثلما يتعلم الشيخ من المريد. بدأت أعيد قراءة النصوص المقدسة واعتقدت أني فهمتها ثم اكتشفت أن اعتقادي يظل مجرد اعتقاد . أنا كالبلهاء التي ترى الأصبع فقط عندما يشير الحكيم إلى القمر . بدأت أشعر أني أعيش مع كائنات غريبة تحيط بي و تدغدغني حتى . لو حكيت ما سمعت الآن لغيرك لاعتقدني مجنونة . أما أنت أحس أني أعيك . تلاقت نظراهما .شيء ما شده إليها . أخرجته هذه المرأة من عمله و طعامه و ثرثرة أصدقائه فهمس: - كم أنت ظمأى. ردت بنفس الهمس: - من منا ليس ظمآن؟ و ماذا تريد أن تعرف عني أيضا؟ إنها تأوي إليه ولها رغبة في الإفضاء . فهل يقص عليها حكاية كاميليا . هل يفشي مكنونه ؟ تغاضى عن البوح و اكتفى بالجواب . - لقد عرفتك بما فيه الكفاية . أسقطت الحاجز الذي كان يفصل بيننا جدار انهار. ضحكت - جدار برلين ؟ - كنت أقرا زاويتك في الجريدة و أقول في نفسي . في حياة هذا الرجل امرأة تمنحه اليقين. امرأة تدخل الله إلى غرفته .فهل تعي هي ما تفعله فيه. ثم أقول في نفسي . هذه هي الأذن التي ستصغي إليك .هذه هي العين التي ستراك في عالم مصاب بقصر النظر .. الآن أستطيع أن أبتسم فكم صرخت وبكيت و في كل مرة يعجز قلبي على الانفتاح .و رأيتك صدفة في الفندق . أنذكر ؟ حرك رأسه موافقا - ثم قلت لا يمكن أن تكون صدفة وفي الشارع كان يحمل مشاعره واللحظة التي قضاها مع هذه المرأة الكستنائية الشعر. دخل بها مكتبه. وإذا بالهاتف يحمل إليه صوت مصطفى العصوي يحدثه عن الصفقة و عن العمال وعن المال الوفير الذي ينتظره. ظل ينصت إليه دون أن يفتح فمه بكلمة . يريد أن يعيش كما يشتهي. أن يكسب على طريقته عبر العمل الذي هو به مقتنع. لم يخلق لهذه الأشياء . والآخر يسرد عليه أشياء لا يعيها . وجد نفسه يسأل نفسه هل يعرف حقا لأي شيء خلق ؟ هل يعرف حقا ما يريد؟ ودون أن يعي أغلق السماعة و الآخر لما يكمل حديثه بعد. ترى أين هي الآن؟ و ماذا تعني برسالتها الهاتفية سقط القناع عن أي قناع تتحدث؟ مد يده إلى الهاتف و ركب رقمها. ظل هاتفها يرن. ولا جواب.