تسارعت تطورات مشهدنا السياسي والحزبي في الأيام الأخيرة لتنتج سياقات ووضعيات، وإن تبدلت في الظاهر عما سبقها فهي حافظت على ذات التعقد و...الانحباس. وعلى ضوء ذلك، يتفق كثير من المراقبين على أن المطلوب اليوم هو انتصار... الإيجابية، أي أن يخرج الجميع من منغلقات الأنانية وعقلية رفع سقوف المزايدة، وأن يجري الانتصار لمستقبل البلاد. هذا ليس كلام المثاليين والحالمين، وهو ليس إنشاء أو تصفيف كلمات، وإنما هو دعوة للتفكير بشكل مختلف. منذ مدة فهمت بعض طبقتنا السياسية، خصوصا وجوهها الطارئة، على أن الزعامة يصنعها وحده الإعلام، وتيسر لها الضغوط والأموال شروط التحقق، ولا حاجة إلى المعرفة أو التكوين أو الخبرة أو قوة الشخصية أو إلى المصداقية والالتزام والنزاهة الأخلاقية، ولذلك ابتليت ساحتنا بأشخاص كرسوا ممارسة حزبية تطفح بالعبثية وعنف الكلمات واستهداف الخصوم بلا أي نظر، وجرى تشجيع كتابات صحفية ترفع شعار السطحية وافتعال الوقائع، فضلا عن تبخيس الرافضين و"قتلهم" أو على الأقل إخراسهم، وكل هذا أفضى إلى توفير سلاليم قادت كثير غوغائيين وعميان إلى تسلق درجات السياسة والوصول إلى الواجهة، وزاد خواؤهم أعطابا جديدة إلى ما تعانيه حياتنا السياسية من أعطاب واختلالات، كما فرضوا هم سيطرتهم على النقاش العمومي، في السياسة وفِي الإعلام، وتراجع كثير من العقلاء مبتعدين عن كامل هذه "الجدبة" التي ضعف إغراؤها. قلنا مرارا بأن السياسة هي فعل جدي يقتضي الكثير من المصداقية والالتزام والوضوح والاستقلالية، وبأن الانشغال بقضايا البلاد يفرض التحلي بالمسؤولية أولا، وبكثير من رصانة التفكير وبعد النظر. إن ما نعانيه اليوم حوالينا أنتجته بالذات عقلية ضرب الأحزاب الجدية وتبخيس دورها وإضعاف قوتها، ومن ثم تنامت التداعيات السلبية لذلك على أرض الواقع ووسط الناس، وتسيد في الساحة قصيرو النظر وحدهم، وباتوا يمشون محاطين بجوقات كلام تستهل الحديث والكتابة في أي شيء، ولا تحتمل من يدعوها لبعد النظر أو التفكير بحجم الوطن وكل ما يحيط به من تحديات. هذه العقلية المومأ إليها لا تريد أن تستسلم اليوم لفشلها وللألم الذي حدث لها جراء الاصطدام بالجدار لأكثر من مرة في السنوات الأخيرة، وهي تصر على ... الاستمرار في الحياة. البلاد في حاجة ملحة اليوم للتفكير بشكل مختلف، أي أن نخرج من تضخم الآنا وعقدها وشروطها، وأن نقدر اُسلوب تقديم التنازلات بشكل متبادل، وأن نجرب التركيز على الأساسي بدل التيه في الحسابات الثانوية الصغيرة جدا، وأن نجدد إصرارنا الجماعي على المبادئ المؤسسة... هذا التفكير بشكل مختلف هو بالذات من يقدر على توسيع فضاء النظر للقضايا العمومية وللسياسة وللتحالفات ولمستقبل البلاد... وهذا التفكير بشكل مختلف هو من شانه كذلك أن يفتح للجميع آفاق جديدة للخروج من المنغلق قد لا تكون جلية عندما نحسب الأشياء لوحدنا، وعندما لا نرى السياقات والمحيط والتحديات والمستقبل إلا انطلاقا من نزواتنا ومصالحنا الأنانية الضيقة المفتقدة للمبرر وللمعنى وللموضوعية. مرة اخرى السياسة عندنا تحتاج أن تعيد امتلاك العقل، وأن تستعيد الجدية ورصانة التفكير والخطو والسلوك، أي أن تعود لتنصت إلى العقلاء وإلى القامات الكبيرة حقا وإلى القوى ذات المصداقية والجدية والأثر. السياسة تحتاج أن تتحرر من كل الغوغائيين والمفتقدين إلى بعد النظر وغير القابلين للانخراط في المقاربات الإيجابية من أجل... الوطن. التفكير بشكل مختلف يجب تجريبه اليوم والانتصار له في عملية تشكيل الحكومة في أقرب وقت، وبالتالي في تمكين البلاد من استعادة ديناميتها المؤسساتية والخروج من الجمود والانتظارية، ثم من خلال جعل ذلك برمته مجرد بداية فقط تستطيع أن تؤسس لمرحلة سياسية جديدة تقوم على الالتزام بالدستور وبمقتضيات دولة القانون والمؤسسات، وتحرص على صيانة التعددية وتطوير الحياة والممارسة السياستين والحزبيتين... لنجرب إذن التفكير بشكل مختلف، ولتنتصر... الإيجابية. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته