قد يبدو للبعض أن التركيز على واقع القراءة وسط شعبنا وحضور الثقافة في انشغالنا الشخصي والعام في ظل سخونة السجال السياسي والإعلامي المرتبط بمشاورات تشكيل الحكومة، نوعا ما غريبا أو أنه "غير راهني"... ولكن عندما نتابع رداءة مجمل الخطاب السياسي الرائج بيننا، وعندما نحلل بعمق تفاصيل سوسيولوجيتنا الانتخابية، وأيضا عديد تمظهرات للسلوك الاجتماعي اليومي لشبابنا ولفئات مختلفة من شعبنا، فإننا نجد أنفسنا مجبرين على البحث عن أجوبة لواقعنا السياسي والاجتماعي والسلوكي في علاقتنا بالثقافة و... بالقراءة. وعندما نعرف مثلا، من خلال بحوث وإحصائيات للأمم المتحدة ولهيئات دولية أخرى، أن المواطن الأمريكي أو الأوروبي لا زال يقرأ بالفعل كتبا، وبرغم الفارق المهول معنا في امتلاك التكنولوجيا والبدائل التقنية والتواصلية العديدة، فهو يحافظ على علاقته بالمكتوب، وفي المقابل عندما نجد أن المواطن، مغربيا كان أو من كل الدول العربية بدون استثناء، لا يقرأ أزيد من نصف صفحة في العام بكامله، فكل الفروق الأخرى بين الطرفين، تصير عادية ومنطقية. إن فئات واسعة من شعبنا لا زالت مغلولة بقيود الأمية الأبجدية، والذين نجحوا في فك طلاسيم الحروف أو امتلاك مستوى من التعليم بقيت مستوياتهم المعرفية والثقافية في حدودها الدنيا، أما الطلبة والتلاميذ، وأيضا مدرسي مختلف أسلاك التعليم، بما في ذلك الجامعي، فعلاقتهم بالقراءة تبعث على الاستياء والحزن. يكفي أن نفحص حجم مبيعات الكتب، في مختلف التخصصات، ومبيعات الصحف والمجلات، لندرك أننا في مرتبة جد متدنية قياسا لأغلب دول وشعوب العالم. هل يمكن إذن لهذا الواقع التعليمي والثقافي وللمستويات المعرفية والتعلمية للطلبة والتلاميذ ولضعف تلقي الإصدارات الأدبية والتاريخية والفلسفية وسواها، والمنشورات الصحفية، أن يكون بلا أثر على سلوكنا الاجتماعي والسياسي كشعب؟ طبعا لا، ذلك أن وعينا الثقافي ورسوخ قيم المواطنة ومعرفتنا بتجارب الشعوب وأحوال العالم وإدراكنا لحقوقنا وواجباتنا، كل هذا يؤثر، بالنتيجة، في اُسلوب تعاطينا مع قضايا بلادنا، ويمنعنا من الوقوع ضحية المفسدين أو الاستسلام لكل أشكال الابتزاز، وبالتالي يساهم في تعزيز نباهتنا وتشبعنا بالتفكير المنطقي، كما أن قوة وجودة التعليم ومتانة الوعي الثقافي يمنعان من السقوط في فخاخ التعصب والتفكير المفتقر إلى العقل، ويبعد السلوك اليومي للناس عن التوتر والعنف، ويقلل من الجرائم ومن باقي الانحرافات السلوكية والاجتماعية. واضح إذن أن إشعاع التعليم ومحاربة الأمية والتحفيز على القراءة وتقوية مستويات التربية والتكوين وتشجيع ثقافة العقل، سيؤدي إلى إعداد شعب مشبع بقيم المواطنة، ويمتلك حس القيام بالواجب والتشبث بالحقوق، ويرفض الانسياق بدون عقل، ولا يقبل الرداءة أو الابتزاز. أما القول بأن القراءة تعيش التراجع عبر العالم كله، بفعل التحولات التكنولوجية المهولة، فهذا ليس استنتاجا مطلقا بالنسبة لواقعنا المحلي، أو على الأقل لا يعتبر السبب الوحيد أو الجوهري. الحلول بالنسبة لنا، هنا والآن، يجب أن نبحث عنها في واقع منظومتنا التعليمية وفي الوضع العام للمدرسين وفي المقررات والمناهج والأهداف. الحلول كذلك يمكن البحث عنها في ضرورة توفير الإمكانات المالية والهيكلية لتشجيع التأليف والنشر والتوزيع، ومن أجل توفير الفضاءات المناسبة للقراءة والتحفيز على الإقبال عليها، وفي العناية كذلك بالمبدعين والكتاب والباحثين، ودعم المنظمات الثقافية وبرامجها، وأيضاً في صياغة مخطط وطني كبير لدعم الصحافة الوطنية، وكل هذا ضمن مقاربة متكاملة والتلقائية تكتسب مكانة المعركة الوطنية، أي قضية دولة ومجتمع. طبعا، لا يمكن التفكير في كسب رهان هذه المعركة الاستراتيجية والمصيرية بدون استحضار ما وصله العالم اليوم من تطورات تكنولوجية وتواصلية وتبدلات في القيم والسلوك، ولكن يجب بناء أرضيات تفاعلية تحرص على التكامل بين الواجهتين. وأن يجري تسخير الجهد بكامله لتحقيق هدف مركزي هو تثقيف شعبنا ورفع سيف الأمية والجهل عن عنقه، وأن يمتلك الإقبال المكثف على القراءة واستهلاك المنتوج الإعلامي والثقافي والفكري. سؤال الثقافة وإشعاع القراءة يكتسب اليوم إذن راهنية واستعجالا كبيرين في بلادنا، ويجب التعاطي معه بكثير من الجدية والشمولية. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته