فضلا عن التوجيه المركزي المتعلق بالانكباب على إصلاح الإدارة العمومية، تضمن خطاب جلالة الملك في افتتاح دورة البرلمان إشارة قوية على مختلف مكونات الدولة والطبقة السياسية أن تلتقطها وتستوعبها وتستحضر دلالاتها باستمرار، وهي تشديد جلالة الملك على أنه بصفته "الساهر على صيانة الاختيار الديمقراطي"، فهو يعيد مرة أخرى، بمناسبة هذا الخطاب، التأكيد على تشبثه ب "التعددية الحزبية". هذه الرسالة الملكية الواضحة والقوية الواردة في خطاب ملكي ألقي بالمؤسسة التشريعية عقب انتخابات برلمانية أساسية، ليست بلا دلالة، فهي بمثابة "نقطة نظام" رفعها جلالة الملك في وجه كل من يتعمد تناسي أو إغفال المكانة المركزية والمحورية للتعددية الحزبية وصيانة الاختيار الديمقراطي في بنيان النموذج الديمقراطي والمجتمعي للمملكة. وسواء داخل مؤسسة البرلمان ذاته، أو على صعيد الفضاء السياسي العام ببلادنا، أو من خلال المنظومة القانونية والممارسة السياسية والأداء الإعلامي أو علاقات الدولة ومختلف أجهزتها، فمن الواجب اليوم أن يحرص الجميع على الاستحضار الدائم لمضمون ودلالة هذا التأكيد الملكي، والعمل على حماية مسارنا الديمقراطي العام عبر صيانة التعددية وتقوية ضمانات ترسيخها. إشارة ملكية ثانية لفتت كذلك انتباه كل من استمع لخطاب جلالة الملك وتابعه، وتتعلق بتأكيده على أن "الهدف الذي يجب أن تسعى إليه كل المؤسسات، هو خدمة المواطن"، مشددا، في ذات السياق، على أنه "بدون قيامها بهذه المهمة، فإنها تبقى عديمة الجدوى، بل لا مبرر لوجودها أصلا"، ثم حث على أنه إذا كانت الولاية التشريعية الأولى، بعد إقرار دستور 2011، تأسيسية، فإن الولاية الثانية التي انطلقت الجمعة، تقتضي "الانكباب الجاد على القضايا والانشغالات الحقيقية للمواطنين". وبهذا وجه الخطاب الملكي الحكومة والأحزاب والسلطات وكل مؤسسات البلاد إلى ضرورة أن يكون المواطن في عمق كل السياسات العمومية، وأن يكون ذلك هو برنامج عمل مختلف الفاعلين في المرحلة المقبلة. وطبعا، بالإضافة إلى الإشارتين الواردتين أعلاه، ركز الخطاب الملكي على ورش إصلاح الإدارة، وقدم تشخيصا مفصلا للاختلالات واستعرض التحديات المطروحة، كما حث على صياغة حلول ومخارج لما يعانيه المغاربة، داخل الوطن وخارجه، مع المرفق الإداري العمومي في شتى القطاعات. هذا التركيز الملكي جسد منظومة برنامجية متكاملة عرضها جلالة الملك من أجل "مفهوم جديد للإدارة"، تماما كما كان قد ورد في خطاب ملكي تاريخي آخر في 12 أكتوبر1999 حول "المفهوم الجديد للسلطة"، أو على الأصح جاء خطاب 14 أكتوبر 2016 تذكيرا بمضمون وتوجيهات خطاب 12 أكتوبر1999، ودعوة ملكية لتجديد الانكباب على أوراشه، وإنجاز ما لم يتم تطبيقه بهذا الخصوص إلى اليوم. اليوم عندما ينتقد جلالة الملك البيروقراطية الإدارية، وعندما يحث على ضرورة تأهيل أداء الإدارة وكفاءة ونجاعة موظفيها، وعندما ينبه إلى غياب حس المصلحة العامة وتفضيل المصالح الذاتية والحزبية، وعدم تقدير عامل الوقت، فكل هذا هو بغاية جعل المرفق الإداري، في كل مستوياته ومجالاته، يعمل بما يستجيب لانتظارات المواطنين ويؤدي لقضاء حاجاتهم وتحسين الخدمات المقدمة إليهم واحترام كرامتهم، أي أن يكون الإنسان في صلب عمل الإدارة وفي عمق كل السياسات العمومية، بالإضافة إلى ما لعمل الإدارة من انعكاس وأثر على تطوير الاستثمار في البلاد وتقوية المنجزات التنموية لفائدة المواطنات والمواطنين. لقد عرض جلالة الملك إذن أمام الحكومة والبرلمان ومختلف السلطات والمؤسسات خارطة طريق حقيقية للمرحلة القادمة ترتكز على استعجالية إصلاح الإدارة وتأهيل مواردها البشرية وتقوية نجاعتها وكفاءة أدائها وجودة خدماتها، وبالتالي جعل المغاربة يلمسون التغيير والأثر في حياتهم اليومية وفي مستوى الخدمات المقدمة إليهم في كل المرافق العمومية التي يتوجهون إليها يوميا. إن الإصلاحات الأساسية للمرحلة القادمة يجب إذن أن تتوجه نحو الانتظارات الاجتماعية واليومية التي يعبر عنها المغاربة، والنهوض بكل الخدمات العمومية المقدمة إليهم.