تناقلت الصحف في الأيام الأخيرة معطيات سجلها تقرير رسمي، تؤكد أن عدد الجمعيات بلغ في بلادنا 136.000 جمعية عام 2016، وذلك مقابل 116.000 جمعية قبل سنتين، كما تضمن التقرير المشار إليه عديد مؤشرات أخرى لها علاقة بمستوى انتشار منظمات المجتمع المدني والحركية الجمعوية في بلادنا ومجالات العمل والتمويل العمومي وغير ذلك. ليس مهما هنا تحليل محتوى التقرير ومناقشة معطياته، وإنما المراد إبراز أهمية هذه الدينامية المدنية بالذات التي بقيت دائما ميزة لبلادنا ضمن جوارها الإقليمي. بالفعل الجمعيات في بلادنا، إذا استثنينا ما درج عليه المغاربة من قبل كتعبيرات شعبية تقليدية، أو لاحقا التعاونيات والوداديات السكنية، كانت في الغالب ثقافية وفنية أو رياضية أو شبابية أو تناضل في الميدان الحقوقي ومن أجل المساواة بين الجنسين وللدفاع عن حق العاطلين في الشغل، خصوصا من ضمن خريجي الجامعات، ولكن فيما بعد تنامت حركيّة الجمعيات في مجالات جديدة من حقوق الإنسان مثلا، كحقوق الطفل والأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة وضحايا سنوات الرصاص والمعتقلين السياسيين السابقين وأسرهم والتربية على المواطنة وسوى هذا...، وإجمالا بقيت هذه الدينامية مرتبطة بما هو سياسي أو حقوقي، بالمعنى الواسع لهذين التصنيفين، والجمعيات استمرت تُمارس التنشيط والإشعاع وإنماء الوعي، فضلا على الترافع والتعبير عن المطالَب وإعلان المواقف، ولهذا انتظمت في كثير من المحطات التاريخية إلى جانب القوى الديمقراطية والتقدمية، وعانت مثلها من تبعات سنوات الرصاص. العمل الجمعوي الجاد والمناضل تم كذلك استهدافه بالإجراءات القمعية والتضييقية، وشكل واجهة صراع أساسية، كما برزت المقاومة المضادة لإشعاعه وتعددت مناورات التدجين والالتفاف والتبخيس التي لفته بأغلالها. في السنوات الأخيرة تطورت الحركية الجمعوية، في الأشكال والتعبيرات ومجالات التحرك والعمل، وشملت المشاريع التنموية المدرة للدخل وقضايا البيئة ومكافحة المخدرات ومساعدة المرضى المعوزين ونشر الوعي القانوني والاقتصادي، بالإضافة إلى التنمية البشرية وحماية المال العام ومحاربة الرشوة والفساد والتربية على المواطنة ونشر قيم التسامح ومحاربة التطرّف والإرهاب، ثم تطورت أيضا التنسيقيات المحلية والجهوية والموضوعاتية، وبدأ يتنامى نوع من "التخصص"....، وكامل هذه الدينامية الجمعوية المغربية امتلكت عبر تاريخها الكثير من الاستقلالية عن السلطة، خلافا لعدد من التجارب العربية مثلا، وهذا هو السر الأول والكبير في استمرار كثير من الجمعيات الحقوقية والنسائية والثقافية إلى اليوم واحتفاظها بمصداقيتها و... نضاليتها. وهذا هو الدرس الجوهري الذي يجب أن تستحضره اليوم أجهزة الدولة وكل الطبقة السياسية عندنا، أي الوعي بكون الجمعيات المدنية المستقلة هي، إلى جانب الأحزاب الحقيقية والنقابات المستقلة والصحافة، صمامات الأمان الحقيقية التي تحفظ لنا تفرد مسارنا الديمقراطي العام. وطبعا من مسؤولية الدولة وواجبها تأمين الدعم المالي واللوجستي لهذه الجمعيات ضمن قواعد الشفافية والمساواة والشراكة، علاوة على توفير المراكز والمؤسسات والبنيات التحتية الضرورية، لكن في المقابل يجب على هذه الجمعيات الالتزام من جهتها بمقتضيات الشفافية والانخراط في العمل من أجل أهدافها المعلنة. التحدي إذن هو تقوية الانتشار الجغرافي والعددي لجمعيات المجتمع المدني وتطوير مجالات نشاطها، بالإضافة إلى تمتين تأهيلها التدبيري وانفتاحها على مختلف قضايا وانشغالات المواطنات والمواطنين، كما أن الدولة مطالبة هي أيضا باحترام استقلالية الجمعيات والتفاعل مع ترافعها وضغطها. الأفق الدستوري الذي تأسس في البلاد عام 2011، وتنصيصه على العرائض الشعبية مثلا، ثم تزايد المطالب ذات الصِّلة بسلامة العمليات الانتخابية والشفافية في تدبير شؤون المجتمع ومحاربة الفساد وتحقيق الإصلاحات، كل هذا يفرض اليوم تعزيز دينامية الجمعيات الجادة والمستقلة وحماية التعددية الجمعوية، ثم لا يجب التفريط في السر الجوهري، أي استقلالية الجمعيات.