في بعض الكتابات التي نقلت وقائع تظاهرة شهدها مسرح محمد الخامس بالرباط احتفاء بفلسطين وتضامنا مع النضال الوطني لشعبها، انفلت العقل وغاب موضوع اللقاء وسقطت فلسطين ولم تحضر سوى...رقصة الدبكة فوق خشبة المسرح الوطني. من حق من يكتب أن يركز على ما يريد، وأن يستثمر الحفل الفلسطيني كما يشاء، وأن يبحث في الحركات والسكنات عن مؤشرات المشهد السياسي المغربي، ولكن أن يتلخص كل هذا في كون مسؤولي أحزاب وطنية جاؤوا إلى المسرح لرقصة الدبكة، والإمعان في الترويج لهذا التيه في التقدير والنظر وفي اللغة، يثير الأسى. الحفل كان من أجل فلسطين، ودائما كان هذا الموضوع بالذات موحد كل الحساسيات السياسية المغربية، وعلى خشبة مسرح محمد الخامس هذه الليلة لم يقف فقط زعماء أحزاب الكتلة ورئيس الحكومة، وإنما أيضا مسؤول الأصالة والمعاصرة مثلا، فأي تحالف مستقبلي هذا إذا سايرنا تخيلات بعض محللي الدبكة عندنا؟ عندما يغيب الصدق والحرص المهنيين، ينفلت العقل وتفتح كل الأبواب لقول أي شيء، وحتى ما يتجاوز المعقول و...الخيال، ولا ينتبه قراء فناجين السياسة عندنا والمنظرون الطارئون إلى أن قراءة الوقائع والمؤشرات في السياسة وفي المجتمع قد تكون فعلا متعددة ومتباينة بحسب المنطلقات الفكرية والتموقعات، ولكنها دائما يجب أن تكون قراءة لها منطق داخلي ومتناغمة مع ذاتها وبلا شرود أو تيه أو نشاز. لكن ربما الحرص على مصداقية القول وجدية النظر لم يعد مغريا اليوم لبعض كتبتنا الذين ابتلوا بأسلوب تقديم الأشياء كما يوحى لهم بتقديمها وليس كما هي في الواقع. في مواقع التواصل الاجتماعي بات الجميع يكتب ويعلق ويشتم ويلعن ويعارض، وربما هذا يعتبر نتيجة تحولات المجتمع وتبدل القيم في عالم اليوم، فضلا عن الوضع التعليمي والثقافي العام، ولكن عندما نتابع ذات"التشيار"على أعمدة الصحف الورقية وببعض الصحافة الالكترونية، فهذا يجرنا كلنا إلى تأمل مستوى وأدوار وسائل إعلامنا الوطنية في تجويد حياتنا السياسية وتأهيل منظومتنا الحزبية والمؤسساتية. لمصلحة من يجري كل هذا التبخيس لعمل الأحزاب ودورها ولقيمة ... السياسة؟ عندما نروج لمعطيات غير صحيحة عن أشخاص فقط لأنهم يتولون مسؤولية رسمية أو سياسية، وعندما لا نرى في حضور زعامات سياسية وطنية لحفل فني فلسطيني سوى أنهم جاؤوا لرقصة الدبكة، وعندما ننشر وسط الناس وعبر مواقع التواصل الاجتماعي أرقاما غير حقيقية ونلصق المسؤوليات والتهم عشوائيا وسطحيا بهذا أو ذاك، فنتيجة كل هذا أننا نقدم كل من يمارس السياسة في هذه البلاد على أنه فاسد ولص ومختلس، وهذا الابتعاد الكلي عن التنسيب وعن الحقيقة ليس تحليلا، كما أنه يجر البلاد، من حيث لا يفهم المروجون، إلى... النفور والفراغ. لا يمكن أن نتحدث عن فاعلين وأحزاب كما لو أن" ولاد عبد الواحد كلهم واحد"وأن نقدم السياسة كما لو أنها شيئا مجردا مفصولا عن التفاعل وعن الواقع وعن المجتمع، فالكتابة بهذا المعنى تكون مفتقدة إلى أرجل تقف عليها. في مختلف الأحزاب والنقابات ذات المصداقية والتاريخ هناك الصالح والطالح، وتدبير شؤون البلاد والناس لا يكون من دون أحزاب أو سياسة أو مؤسسات، كما أن هذا التدبير لا يتم بمجرد التوسل إلى لغة الشعارات أو إلى الشتائم، وإنما يتم ذلك عبر المؤسسات ومن خلال برامج، وفي تفاعل مستمر مع المحيط والواقع والسياق وأيضا مع المستجدات وحوادث الطريق أثناء الممارسة، أي من خلال منهجية واقعية تنصت إلى انشغالات الناس وتسعى لتحقيقها، وليس عبر شبكات مفاهيم متهافتة، بل ضمن دينامية تقوم على العقل ووضوح النظر. إن مصلحة المغرب اليوم هي رفض التحكم والهيمنة في الحقل السياسي والمؤسساتي، وهي أيضا في رفض الخضوع الجماعي لهيمنة العدم وتبخيس كل شيء مؤسساتي، أي أن الحاجة اليوم هي للقطع النهائي مع هذه السطحية الملتفة حول حقلنا الإعلامي، والانكباب الجماعي على النهوض بممارستنا السياسية والحزبية والانتخابية و...الإعلامية وتأهيل منظوماتها المؤسساتية والعملية. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته