يصنع التاريخ بالوثائق، التي هي الآثار المخلفة، وأفعال الرجال الماضية؛ فهي بصمة لأفكار وسلوكيات القدامى، فبدون وثائق ليس هناك تاريخ، وحتى وإن وجدت فإنه من اللازم أخذ الحيطة من خلال التعامل معها؛ ذلك أن هنالك مجموعة من الضوابط من حيث القراءة والتوثيق. لقد اهتمت الحضارات منذ القدم بالأرشيف، فاطنة بذلك لأهميته في التأريخ لمسارها على كل المستويات، شاهدًا على منجزاتها، ومستشرفًا لمستقبلها، فهو إذًا عنوان لاستمراريتها. من هنا سنحاول الحديث في هذا المقال عن أهمية الأرشيف من خلال التعريف به، وكذلك التعريج على المحطات التاريخية التي مر منها، لنخلص إلى ماهية أقسامه، وأهميته بالنسبة للبحث العلمي الأكاديمي. مفهوم الأرشيف لفظة لاتينية، أصلها: «أرشيفوم»، مأخوذة من الكلمة اليونانية: «أرخيا»، التي كانت تدل في بداية استعمالها على الوثائق المتعلقة بتاريخ عائلة أو شخص أو مجموعة، ومع التطور أصبح معناها يدل على مجموع الوثائق الخارجة عن التداول، والمخزنة عند شخص ما في مكان معين، أو عند مؤسسة ما للرجوع إليها للاستعمال كمصدر عند الاقتضاء. إن لفظة أرشيف جاءت كفعل وكاسم «archive «، فكفعل فهي تعني: ضم الأوراق والملفات في الأرشيف، والفعل الماضي archived بمعنى أرشيف، وتأتي على شكل اسم archives. ويرادف كلمة أرشيف في اللغة العربية مصطلح «الربائد»، وتعني المكان الذي تخزن فيه الكتب والسجلات والمحاضر لصيانتها. مفهوم الأرشيف اصطلاحًا هو مجموع الوثائق والمستندات على اختلاف تواريخها وأشكالها، التي تنتجها هيئة عمومية أو خصوصية أثناء مزاولة مهامها، والهدف منه هو حفظ هذه المواد، وحفظ ما يخص تاريخ الإنسان، أو تاريخ الشخصيات البارزة التي تقدم عند حفظها فائدة في توفير المصادر الأولية والأدلة والشواهد على تاريخ البلاد وأصول شعبها، وتساهم هذه العناصر في التوثيق التاريخي والبحث العلمي. تاريخ الأرشيف: كان للتطورات التي عرفتها حضارات الشرق القديم، وكذلك الإغريق والرومان، دور في بروز مجموعة من الأرشيفات، يتجلى ذلك من خلال الألواح الطينية والحجرية، وكل ما خلفه لنا الإنسان في هذه الفترات التاريخية، إما في المعابد أو القصور الملكية، لقد تميز العهد الإغريقي ببداية تنظيم الأرشيفات، التي كان يخزن فيها أصول القوانين، فلم يكد يمر قرن من الزمن حتى تم توحيد جميع مخازن السجلات اللاتينية وحصرها في مكان واحد، ألا وهو المعبد المخصص لعبادة الآلهة metron المعروفة بالمترون. أما في العهد الروماني فالفضل في إنشاء الأرشيف يعود ل: «فاليروس بو بليو كولا»، وذلك حوالي 509 قبل الميلاد، وكان موضع هذا الأرشيف في «إبراريوم» في خزانة معبد الإله زحل، وكان يحفظ القوانين والمراسيم، وأنظمة مجلس الشيوخ ومستندات المقاطعات، أما الوثائق الدولية التي كانت تأتي من خارج روما فكانت تحفظ في «الكابيتول»، لقد ضمت روما مجموعة من الأرشيفات إلى جانب أرشيف الإمبراطور الذي كانت تودع فيه جميع الأوراق التي تهم ممتلكات الإمبراطورية، المستندات الرسمية من بيع وشراء، وكذلك أرشيفات البلديات التي تسجل كل المعاملات المالية، وقضايا التبني، والولادات. اتسمت مرحلة العصر الوسيط بتعدد السلطات، فنجم عن ذلك تعدد الأرشيف؛ إذ كان لكل سلطة أرشيفها الخاص الذي يشير إلى ممتلكاتها، والامتيازات التي تستفيد منها، ولعل أهم ما ورثته أوربا من ذلك في هذه الفترة هو الوثائق الكنسية التي كانت تسلم من النهب والسلب، إلا أن الطابع المميز لهذه الفترة هو حضور نوعين من الأرشيفات؛ الأرشيفات الثابتة، والأرشيفات المتنقلة التي كانت ترافق الملوك والحكام، لكن انهزام ملك فرنسا لوي فيليب في إحدى المعارك 1194 م وضياع مجموعة من الوثائق كان سببًا في إعطاء أوامره بترك الأرشيف في باريس؛ ليُصان من التلف والضياع. تعتبر إسبانيا الدولة الأولى التي جمعت الوثائق الحكومية في مركز واحد، وكان ذلك على يد «شاركت» سنة 1545، وابتداءً من سنة 1578 أنشأت إنجلترا أرشيفها المركزي المسمى" state paper office «، وفي إيطاليا تأسس الأرشيف المركزي بروما سنة 1611، وأصبح يحمل «archivum secretum,vaticanum.» بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 أحدثت مركز الأرشيفات الوطنية بباريس les archives nationales من لدن الجمعية العامة «البرلمان»، التي كلفت البرلماني «كاموس» في شهر يوليوز 1789 بالإشراف على جمع وصيانة وثائق الدولة ومستنداتها، وقد تم فتح هذه الأرشيفات يوم 25 يونيو 1994 في وجه العموم، وكان يشرف على مراكز التوثيق موظفون متخصصون في الأرشيف، وفي 1936 صدر مرسوم الاستفادة من الوثائق، وبما أن فرنسا كانت سباقة في هذا الميدان كان من الطبيعي تأسيسُ المجلس الدولي للأرشيف بالعاصمة باريس سنة 1948. أقسام وأصناف الأرشيف: ينقسم الأرشيف إلى قسمين، هما: الأرشيف العام، والأرشيف الخاص، القسم الأول يتكون من مختلف الوثائق التي تنتجها أو تتوصل بها هيئات الأحزاب والدولة والجماعات المحلية، ومختلف المؤسسات والهيئات العمومية، يتم التعامل معها ومعالجتها وفق النصوص القانونية والتنظيمية الصادرة من المديرية العامة للأرشيف الوطني، بحيث لا يمكن التصرف فيها بمنأى عن أي إجراءات خارجة عن نطاق القانون، أما القسم الثاني فيتكون من مختلف الوثائق التي يحوزها الأشخاص أو العائلات أو المؤسسات والمنظمات غير العمومية. إن تقسيم الأرشيف إلى أصناف متعددة يعتمد بالدرجة الأولى على ضخامة المجموعات الأرشيفية وأهميتها، والأمكنة الملائمة لحفظها، وإلى كفاءة الإدارة الأرشيفية، ودقة التنظيم فيها، وكذلك يعتمد على عدد الموظفين العاملين، ومستواهم التعليمي وخبرتهم، وتبعًا لذلك تصنف الأرشيفات إلى التصنيفات التالية: الأرشيف التاريخي. الأرشيف القضائي. أرشيف الأدب والفنون. الأرشيف السياسي. الأرشيف الإداري. الأرشيف العسكري. أرشيف الهيئات والمؤسسات الدينية. الأرشيف السري. أرشيف الخرائط والأطاليس. أرشيف الأختام والشعارات والنقود. إذًا هذه هي أقسام وأصناف الأرشيفات، غير أن الاطلاع على هذه الأرشيفات والاستفادة منها رهين بالحصول على الموافقة من الجهة المسؤولة عن هذه الأرشيفات، وهي قاعدة متبعة في كل الأرشيفات الدولية التي تلعب دورًا مهمًّا في كتابة التاريخ، فما هي إذًا أهمية الأرشيف؟ وكيف ساهم في كتابة التاريخ؟ أهمية الأرشيف: للأرشيف أهمية كبرى في حياة الأفراد والدول؛ فهو يلعب دورًا مهمًّا على صعيد جميع المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية؛ إذ به يمكن استشراف جميع الأمور الإدارية أو العلمية؛ فهو بذلك يشكل قيمة إثباتية، وعليه عملت كل القطاعات الإدارية على إعطاء أهمية كبرى للأرشيف الذي أصبحت تعتمد عليه في تسييرها الإداري، باعتمادها على الوثائق والمستندات الناتجة عن التراكم، فتعمل على مقارنتها وتقويمها كيفيًّا وكميًّا؛ وذلك من أجل اتخاذ مواقف صائبة. إن الوثائق الأرشيفية في الأول تكون لها قيمة عملية وإدارية، لكن بعد فترة من الزمن تتغير تلك القيمة لتصبح ذات قيمة تاريخية للمصالح المنتجة، ولعامة الناس، ويمكن الاعتماد عليها لإنجاز العديد من الدراسات والبحوث التي تستقي مادتها الأولية من الأرشيف، وبالاعتماد عليه تدرس الأحوال الاقتصادية والسياسية، ويتعرف على العادات والتقاليد والعقليات ومختلف المظاهر اليومية من أكل وملبَس وسكن؛ فالأرشيف بذلك يشكِّل المادة الخام التي يستمد منها جل المؤرخين والسوسيولوجيون والاتثنوغرافيون والاقتصاديون واللسانيون مصادرهم الأولية لتكوين فكرة عن الواقع الماضي، وبالتالي فهو مهم؛ لأنه يحمل أخبار وتفاصيل الحياة السالفة ما لا تعادله مئات الروايات الشفوية. إن الأرشيف هو شاهد ينطق بكل ما تقوم به المصالح الإدارية على اختلاف أنشطتها، فمن خلاله يمكن تقييم ورصد منجزاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها؛ فهو خزان للمعلومات ولمختلف الأنشطة الإدارية، وللأسلوب الإداري، وللمستوى المعيشي، والوضعية الاجتماعية لكل فئات المجتمع، فعن طريق الأرشيف تمكن العديد من الباحثين في شتى العلوم من إنجاز بحوث كان لها أثر في التاريخ، مكنت من إعطاء صورة عن الواقع المعاش في كل مرحلة من مراحل التاريخ التي تبقي لكل واحدة خصوصياتها، وهو ما عبر عنه بيير شوني من خلال قوله: (أخبرني عن التاريخ الذي تكتبه، أخبرك من تكون). هكذا فمواضيع الأبحاث واهتمامات المؤرخين ومناهجهم وتقنيات دراساتهم ستتطور باستمرار، ويرجع ذلك إلى الارتباط القائم بين الخطاب التاريخي والتاريخ ذاته؛ أي: الارتباط الموجود بين الخطاب التاريخي والمشاكل التي تواجه الناس والمفكرين، وكذلك يرجع إلى التأثير فيما بين العلوم، والتداخل الحاصل بين مختلف أصحابها، الشيء الذي ساهم في بروز تخصصات تجمع التاريخ بالعلوم الإنسانية الأخرى، مما نتج عنه بروز العديد من التخصصات؛ كالديموغرافية التاريخية، الأنطربولوجية التاريخية، التاريخ الإحصائي، هكذا تمكن العديد من الباحثين من إنجاز بحوثهم، معتمدين في ذلك على الوثائق، التي يعتبرها «مارك بلوخ» عبارة عن شاهد، والشاهد بطبعه نادرًا ما يتكلم دون استنطاقه، وعملية الاستنطاق هذه لكي تكون ناجعة يجب أن تتم حسب استمارة أسئلة Questionnaires ، وبذلك يكون التاريخ حسب «فريدريك مورو». إن الأرشيف هو من الأشياء الأساسية التي يجب على كل فرد أو مؤسسة خاصة أو عامة أو إدارة: أن تولِي له أهمية في إستراتيجيتها؛ فهو دليل استمراريتها؛ فهو شاهدٌ على جميع الأنشطة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الواقع المعيش؛ فهو كما قال المؤرخ جامع بيضا - مدير أرشيف المغرب - إذن ماضٍ، تاريخ، هوية، تراث، عربون الشفافية، ويساهم في التنمية الاقتصادية للبلاد؛ فهو ضمان لاستمرارية الدولة؛ فتنظيمه وفاء للماضي، وتدبير معقلن للحاضر، وتطلع للمستقبل، وقد عبر عن ذلك جاك ديريدا «ليست مسألة الأرشيف متعلقة بالماضي فحسب، إنها أيضًا مسألة المستقبل، مسألة المستقبل بالتأكيد، مسألة جواب ووعد وشعور بالمسؤولية لبناء الغد».