حوارنا مع غير المسلمين يتقدم وحوارنا مع المسلمين تقف أمامه عوائق ومثبطات ودسائس أعلن الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإسيسسكو)، أن المؤتمر العام الثاني عشر لهذه المنظمة سيُعقد في مدينة باكو في جمهورية أذربيجان في أواخر شهر نوفمبر المقبل، لاعتماد خطة العمل الجديدة التي تم وضعها والمصادقة عليها من قبل المجلس التنفيذي. وأوضح التويجري في حوار صحفي أن الوضع المالي ل»الإيسيسكو» مستقر واصفاً إياه بالجيد جدا، ومؤكدا أن هذه المنظمة من أفضل المنظمات العاملة في إطار العمل الإسلامي المشترك من حيث القدرة المالية. وأثار مفارقة تتمثل في أن الحوار الذي تجريه «الإيسيسكو» مع غير المسلمين يتقدم، بينما تقف في وجه الحوار بين المذاهب الإسلامية عوائق ومثبطات ومشاكل ودسائس؛ مبرزا أن هذه المنظمة تعمل، قدر المستطاع، مع منظمات المجتمع الدولي لتصحيح الصورة السلبية عن الإسلام. وفي ما يلي نص الحوار: ما هي الخطط الحالية لمنظمة «الإيسيسكو»؟ وما هي أبرز برامجها ومشاريعها الحالية، وما الذي يميزها عن الخطط السابقة؟ «الإيسيسكو» الآن هي على مشارف إنهاء خطة العمل الثلاثية التي اعتمدها المؤتمر العام الحادي عشر الذي عقد في ديسمبر 2012 في الرياض بالمملكة العربية السعودية، وبنهاية ديسمبر من العام الجاري سنكمل الخطة، وسينعقد المؤتمر العام الثاني عشر في مدينة باكو في جمهورية أذربيجان في أواخر شهر نوفمبر المقبل لاعتماد خطة العمل الجديدة التي ثم وضعها والمصادقة عليها من قبل المجلس التنفيذي، وقد أنجزنا الآن الصيغة النهائية لهذه الخطة الثلاثية الخاصة بالسنوات المقبلة من 2016 إلى 2018. في السنوات التي مضت منذ إنشاء المنظمة سنة 1982 حتى اليوم، نفذنا بالكامل عددا كبيرا من الخطط الثلاثية وأيضا من الخطط متوسطة المدى ومن الاستراتيجيات التي اعتُمدت من قبل المؤتمرات الوزارية المتخصصة وأيضا من قبل المؤتمر الإسلامي للقمة في الدورات المتعددة. شملت هذه الاستراتيجيات الثقافة والبحث العلمي والتعليم العالي والبيئة والشباب والمرأة وقضايا التنمية الشاملة المستدامة وغير ذلك من المواضيع التي انشغلت بها «الإيسيسكو» في إطار خطط عملها الثلاثية أو خططها متوسطة المدى. وفي إطار المتغيرات التي يعيشها العالم، وضعنا تصورا جديدا لمواجهة عدد كبير من التحديات التي برزت في الآونة الأخيرة، منها ظاهرة الإرهاب الذي يعانيه العالم الإسلامي اليوم، والذي لم يكن موجودا قبل بهذه الحدة، ولم يكن في إطار منظم وواسع. إنه إرهاب إجرامي يسيء إلى العالم الإسلامي وإلى دينه وثقافته وحضارته، ويخرّب ما هو موجود من آثار ومعالم وعلاقات إنسانية بين مكونات المجتمعات الإسلامية، أدت بها إلى صراعات مذهبية وعرقية ومناطقية وغيرها. في الخطة الجديدة هناك، إذنْ، تركيز جديد على مواجهة الإرهاب والأفكار والتنظيمات الإرهابية، بدراسة الخلفيات التي تنطلق منها والأدبيات التي تستخدمها والأساليب التي توظفها في التغرير بالكثير من الشباب لاستقطابهم وتوظيفهم في هذه الأعمال الإرهابية. وستكون هذه البرامج والأنشطة موجهة لفئة الشباب في جميع الدول الأعضاء، سواء عن طريق العمل الميداني أو عن طريق العمل التربوي والثقافي والإعلامي. هناك أيضا قضية تمكين المرأة في العالم الإسلامي فهي لم تحظ في كثير من مناطق العالم الإسلامي بما تستحقه وفق تعاليم الإسلام ووفق ما صارت إليه الأوضاع في العالم الإسلامي من تقدم في مجالات كثيرة، كي تكون المرأة مشاركا رئيسا في صنع التنمية وفي إدارة شؤون المجتمعات وفي استخدام قدراتها وطاقاتها لأجل بناء التنمية الشاملة المستدامة. وهذا جانب مهم جدا، لأننا نؤمن في «الإيسيسكو» بأنه لا يمكن للعالم الإسلامي أن يتقدم إلا إذا كانت العملية قائمة على قدمين ، ولن يتحرك المجتمع بقدم واحدة. ولذلك، أولينا العناية الكاملة بالمرأة وتمكينها وإفساح المجال لها لتمارس دورها الوظيفي والتنموي في المجتمعات الإسلامية، باعتبار ذلك ضرورة من ضرورات النهوض في العالم الإسلامي. الأمر الثالث يتعلق بالبحث العلمي والعلوم والتكنولوجيا والإبتكار ، فمن منطلق أن العالم الإسلامي لا يزال متخلفا في هذا المجال، ركزنا في الخطة الجديدة على الاهتمام بدعم البحث العلمي عبر التنسيق بين مراكز البحث والمؤسسات العلمية في الدول الأعضاء من خلال ايجاد شبكات تعاون وتكامل ومن خلال تشجيع النابغين والمبدعين الشباب في الدول الأعضاء بالجوائز وبالتحفيزات المختلفة التي تجعل منهم رموزا تُحتذى في المجتمع. فمع الأسف الشديد، أغلب الشباب يتخذون أنماطا مختلفة لا علاقة لها بالعلم والنبوغ للاقتداء والإعجاب بها، نريد أن يكون لنا في العالم الإسلامي رموز نبغت وتقدمت لكي يتأسى بها الشباب وتصبح القدوة لهم. الأمر الرابع هو إبراز الصورة الحقيقية للثقافة الإسلامية، فالعالم اليوم يظن أن الثقافة الإسلامية هي ثقافة الإقصاء والإرهاب والقتل ومجافاة الآخر وعدم الاعتراف به، وهذه أغلبها أكاذيب رُوّجت وتشويهات أصبحت حقائق للأسف الشديد عند كثير من المجتمعات في العالم. ولذلك، لابد من التركيز على تصحيح المعلومات الخاطئة عن الإسلام والمسلمين، والانفتاح على الآخر والحوار معه في إطار ملتقيات حوارية متعددة، وتبيان أن العالم الإسلامي بثقافته ودينه وحضارته هو جزء من العالم ومساهم في بنائه وتنميته. فالعالم الإسلامي ليس طارئا على العالم الأوسع، بل هو ومنذ القدم مشارك في صناعة تقدمه، فالتاريخ يشهد بالإسهامات الكبيرة التي قدمها المسلمون لتطوير الحضارة الإنسانية وإغنائها، والأمثلة كثيرة في هذا الباب. الأمر الخامس المهم أيضا في خطة العمل المقبلة يُعنى بالطفولة، فإذا لم تكن هذه الطفولة في وضع يسمح لها بأن تتلقى التعليم الجيد والتربية الجيدة والاهتمام بتنشئتها وتكوينها ومراعاة احتياجاتها في تلك السن المبكرة، كي تصبح فيما بعد عناصر قوية تساهم في بناء المجتمعات الإسلامية، فإن هذا الأمر سيصبح عبئا كبيرا على العالم الإسلامي. واليوم، يلاحظ أن الطفولة تعاني التهميش في الكثير من دول العالم الإسلامي، إذ ليس هناك اهتمام كبير بها وبقضاياها تعليماً وتربيةً وصحةً وترفيهاً إلى غير ذلك . لهذا حرصنا على أن نعقد المؤتمرات الوزارية في الطفولة بانتظام لوضع الخطط والاستراتيجيات للعناية بالطفولة ومناقشة قضاياها . وآخر مؤتمر عقدناه كان قبل سنتين في جمهورية أذريبجان، وسيُعقد المؤتمر المقبل في أبوظبي في يناير المقبل. في ظل انتشار ظواهر سلبية كالإرهاب والتطرف أو ما أسميتموه بعوامل التخريب، إلى إي حد تعيق وتصعب هذه الأوضاع عمل المنظمة؟ وهل هناك من عراقيل أخرى تواجهونها؟ ما يجري في العالم الإسلامي شيء يحز في نفس كل مخلص حريص على تقدم هذا العالم وعلى مناعته وتماسكه، هناك حروب وصراعات طائفية وإرهاب وجهل والكثير من مظاهر التخلف التي تقوض أركان هذا العالم الذي كان دائما جزءاً مهماً في بناء الحضارة الإنسانية، هذا الوضع المؤلم والخطير يؤثر بالطبع على نشاط «الإيسيسكو» في الكثير من الدول التي تعاني من صراعات، نحن لا نستطيع أن ننفذ برامج في سوريا أو في ليبيا أو اليمن أو أفغانستان أو الصومال. في العراق نفذنا بعض الأنشطة لكن في مناطق معينة فقط كبغداد، فلا نستطيع أن نذهب لمدن أخرى، وهذا طبعا يعوق عمل المنظمة في هذه الدول، لكنه ليس الحاجز الذي يمنع من أن نعمل في دول أخرى. فعدد الدول الأعضاء في «الإيسيسكو» بلغ 52 دولة، نحن نعمل مع باقي الدول بشكل منتظم وواسع، لكننا نتمنى أن تزول تلك الأوضاع المتردية والخطيرة، وأن تعود هذه الدول لصفائها واستقرارها، وأن تنعم شعوبها بالأمن والسلام والديمقراطية والحرية وتزول الأوضاع التي تجبرها على الهجرة والهروب أو أن يقتل أبناؤها في معارك. وصراعات مدمرة. وهي أوضاع تتمنى «الإيسيسكو» أن لا تراها في العالم الإسلامي، لكنه واقع يجب أن نتعامل معه بكل حكمة وحسن تصرف؛ وإذا لم نستطع أن ننفذ برامج في دولة معينة بسبب أوضاعها ننفذ لها برامج في الدول المجاورة لها، أملا في أن تزول هذه الأوضاع الخطيرة والمتردية لتعود برامجنا إلى تلك الدول بشكل مباشر. والمطلوب اليوم أن تتضافر جهود الدول الأعضاء كافة لإيجاد حلول للمشاكل التي توجد في العالم الإسلامي، وأن لا ننتظر الغريب ليأتي من بعيد ليحل مشاكلنا. وأنا أعتقد أن مَن جاء مدّعياً أنه يريد حل مشاكلنا فإنه في الواقع يعمل على تعميقها وإدامتها. اليوم، الحرب على الإرهاب في العراق وسوريا كما يدّعون تجاوزت السنة، لم يقض على الإرهاب، بل توسع وتمدد. إذنْ، هناك خلل في هذه العملية. ولا بدّ أن يعي العالم الإسلامي بأن حلّ مشاكله يجب أن ينطلق من عنده ومن داخل مؤسساته، لا أن يأتي من الغريب الذي يفاقم بتدخله الأوضاع ويزيدها سوءاً. في إطار الحديث عن العراقيل والمثبطات التي تعوق تنفيذ البرامج إلى أي حد تفي الدول الإسلامية بالتزاماتها تجاه المنظمة؟ هل هناك وضعية مالية مريحة تسمح بتنفيذ المشاريع والخطط والطموحات؟ «الإيسيسكو» هي من أفضل المنظمات العاملة في إطار العمل الإسلامي المشترك من حيث القدرة المالية، فلم تتوقف المساهمات من الدول الكبيرة والمهمة ومن عدد كبير من الدول الأقل دخلا. صحيح أن هناك بعض الدول غير قادرة على تسديد مساهماتها، وهي معروفة ونعذرها، لأن أوضاعها الاقتصادية لا تسمح لها بأن تساهم ماليا، لكنها تساهم سياسيا وبوسائل أخرى لإنجاح رسالة المنظمة. فوضعنا المالي مستقر وأصفه بالجيد جدا، وليس هناك أي نقص في تنفيذ البرامج والخطط، لم نتوقف يوما عن تنفيذ برامجنا منذ أن أنشأت المنظمة في 1982 إلى اليوم، صحيح أنه كانت هناك بعض الفترات التي حصل فيها بطء معين في بعض الجوانب، ولكن المنظمة استطاعت أن تتجاوز تلك الفترة، وأن تنطلق في تنفيذ برامجها وخططها. يضاف إلى هذا أيضا أننا ربطنا «الإيسيسكو» بشبكة علاقات واسعة مع العديد من المنظمات الإقليمية والدولية التي تشترك معنا في تنفيذ عدد كبير من الأنشطة والبرامج في الدول الأعضاء، فنحن نرتبط بعلاقات تعاون مع "اليونيسكو" و"منظمة الصحة العالمية" و"اليونيسيف" و"المنظمة الدولية للفرانكفونية" ومع "برنامج الأممالمتحدة للنشاطات السكانية" ومع "برنامج الأممالمتحدة للبيئة" ومع الكثير من المنظمات الأخرى الكبرى في العالم ومع منظمات عربية وإسلامية مثل "الأليكسو" و"البنك الإسلامي للتنمية" ومع منظمات غير حكومية مثل "قطر الخيرية" و"الهيئة الخيرية الإسلامية" في الكويت و"جمعية اقرأ" في المملكة العربية السعودية وعدد أخر من المنظمات غير الحكومية التي تساهم في تمويل بعض البرامج والأنشطة التربوية والعلمية والثقافية. هذا التنوع بالطبع في الحصول على مصادر التمويل جعل المنظمة تنطلق بشكل مريح في تنفيذ برامجها ولم يحصل في سنة من السنوات أن توقفنا عن تنفيذ البرامج، بل إن تقارير المجلس التنفيذي والمؤتمر العام كلها تؤكد على أن نسبة التنفيذ التي حققتها المنظمة في جميع الخطط التي تم تنفيذها لم ينقص عن 80 في المائة، وهذه نسبة كبرى مقارنة مع منظمات دولية بعضها تصرف أكثر على التسيير والموظفين مما تصرفه على البرامج والأنشطة. لذا، نحن في وضع جد جيد ومريح، وأتمنى أن يتحسن بشكل أفضل، لأن مشاكل العالم الإسلامي وتحدياته ومتطلباته كثيرة ومتنامية. لا نتدخل في الجانب السياسي المحض المنظمة تعنى بكل المكونات الثقافية التي تنشأ في بيئة إسلامية، لكنها تصدر أحيانا مواقف سياسية؟ لماذا؟ ميثاق المنظمة يتيح لها أن تتدخل في قضايا سياسية تمسّ الجوانب العلمية والتربوية والثقافية، فعندما يحصل عدوان من جهة معينة على معالم و آثار حضارية تدخل في إطار اهتمامات واختصاصات «الإيسيسكو» نصدر بيانا نند فيه بتلك الاعتداءات، وعندما يُعتدى أيضا على المساجد والمدارس وعلى المؤسسات العلمية أيضا يكون لنا موقف، وعندما تشجع دولة على نشر الطائفية واختراق مجتمعات العالم الإسلامي لإحداث الفتنة في مجتمعات استقرت فيها المذاهب مثل غرب وشمال إفريقيا حيث يوجد المذهب المالكي، وفي شرق أسيا حيث يوجد المذهب الشافعي، إذا جاءت جهة معينة وأرادت أن تخترق هذه المجتمعات طائفيا لإحداث الفتنة وتمزيق هذه المجتمعات وزعزعة الاستقرار فيها هذا بالطبع يجعل «الإيسيسكو» تتدخل، لأن من مهامها أن تحافظ على سلامة المجتمعات الإسلامية ثقافيا ودينيا، نحن لا نتدخل في الجانب السياسي المحض، فهذا من اختصاص "منظمة التعاون الإسلامي" لكننا نتقاطع معها في ما يمس الجوانب التربوية والثقافية والحضارية، فحين يُعتدى على أطفال مثلا وبشكل وحشي فالمنظمة تهتم بالطفولة، بل الطفولة تعتبر من أهم الميادين التي تشتغل عليها، فلابد أن نصدر بياناً في هذا الجانب. أحيانا يظنّ بعض الناس أن «الإيسيسكو» تتدخل سياسيا، لكنه تدخل في إطار اختصاصاتها التربوية والعلمية والثقافية وبما يتفق مع ميثاقها . في إطار التقاطع بين ما هو ثقافي وسياسي ومذهبي ، من بين المحاور الكبرى في المنظمة هناك التقريب بين المذاهب الإسلامية، وشق آخر متعلق بالحوار ما بين الديانات السماوية، إلى أي حد حققتم تقدما بهذا الخصوص؟ في ما يتعلق بالتقريب بين المذاهب الإسلامية، نشطت «الإيسيسكو» منذ عام 1990 في هذا الجانب، وكانت أول ندوة عقدت في هذا الإطار وشارك فيها عدد كبير من العلماء من المذاهب المختلفة، ثم ندوة أخرى عقدت في 1992، ومنذ ذلك الحين انطلقنا في مسار إعداد إستراتيجية لتقريب المذاهب بمشاركة عدد كبير من العلماء من المذاهب الإسلامية السنية الأربعة والمذهب الأمامي الإثني عشري الشيعي والمذهب الزيدي والمذهب الإباضي، واعتمدت هذه الإستراتيجية في مؤتمر القمة الإسلامي العاشر في ماليزيا سنة 2003. وبعد اعتماد هذه الإستراتيجية وضعنا برامج تفصيلية لنشر ثقافة التقريب ومحاربة كل مظاهر تشويه المذاهب والإساءة لمعتقدات أتباع المذاهب المختلفة داخل الأسرة الإسلامية، وأنشأنا المجلس الأعلى للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي تكوّن من عدد كبير من كبار علماء المذاهب وعقد عدة اجتماعات، لكن المؤسف أننا في مسارنا هذا، ونحن منطلقون بنية حسنة وبروح مخلصة لمعالجة قضية الاختلاف المذهبي وجمع المسلمين على كلمة سواء ومنع عوامل التفرقة والإساءة والتحريض، وجدنا أن هناك تياراً آخر يعمل لنشر الطائفية ولاختراق المجتمعات الإسلامية وإحداث التوترات باسم التقريب. ووجدنا أن جهودنا التي نبذلها يوجد من يعاكسها فيرسل الدعاة لنشر مذهب معين داخل مناطق استقرت فيها المذاهب السنية، ولو كان هذا الذي ينشر مذهبه يقصد إلى مناطق ليس فيها مسلمون لما تكلمنا أو احتججنا؛ لكنه مع الأسف يعمد الى المجتمعات السنية ليحوّل بعض أبنائها إلى مذهبه مستغلا الفقر والجهل والبطالة، فأصبح تقريبه تخريباً. الإستراتيجية التي وضعنا لا تزال قائمة، لكنها تواجه بمثل هذه الحركات غير البريئة، وأكرر أنها غير بريئة، لأن وراءها مخططا مدروسا ينفذ بدقة لاختراق المجتمعات الإسلامية السنية وإنشاء بؤر تتبع مذهبا معينا لإحداث التوترات، ولتصبح تلك البؤر قوة يتم استخدامها في أوقات معينة، وقد رأينا أمثلة كثيرة في هذا الاتجاه، مع الأسف الشديد . نتمنى أن تتوقف هذه الأعمال الهدامة وغير المخلصة لأنها تحدث البلبلة، وأنا زرت عددا كبيرا من الدول الإفريقية، ورأيت تشكّلاً لمثل هذه الحركات التي أُنشئت في بلدان لم تكن تعرفها ووصلت أعداد الذين انضووا تحت هذا التغيير أحيانا إلى مئات الألوف ويمول عملهم ولهم مدارس ومراكز ومؤسسات مختلفة. إن الاختلافات المذهبية يجب أن تكون في إطار الصواب والخطأ وليس في إطار الإيمان والكفر، لأننا جميعا ننهل من قرآن واحد وسنة واحدة، ونتجه نحو قبلة واحدة ، وديننا يجمعنا وفق هذه المقومات الكبرى . والاختلافات في الفروع نتسامح فيها ولا تشكل عائقا بيننا. لكن، إذا وصلت الأمور لأن ندخل قضايا الإيمان والكفر في صلب المذهب، ويُقال من لم يؤمن بأصول هذا المذهب فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار أو انه أشرّ من اليهود والنصارى وأنجس من الكلاب يجوز شتمه وسبه ولعنه، كما في أمهات كتب أحد المذاهب، فهذا شيء نرفضه رفضا تاما لأنه مخالف للقران وصحيح السنة. وأركان الإيمان واضحة. لا لَبْس فيها، إذا اتفقنا على هذه الأركان فكل من آمن بها فهو مسلم معصوم الدم والمال والعرض ولا يمكن أن يُكفَّر ويُساء إليه. أما فيما يخص الحوار مع الآخر، فقد نشطنا بشكل كبير في مجال الحوار بين الثقافات وأتباع الأديان، ولنا علاقات واسعة مع العديد من الهيئات الدولية: مع "مبادرة الأممالمتحدة لتحالف الحضارات" و"اليونيسكو" و"المنظمة الدولية للفرانكفونية" و"مجلس أوربا" و"مجلس الكنائس العالمي" و"الفاتيكان"، وكان أخر نشاط عقدناه في بيونس أيرس حول التضامن واحترام التنوع الثقافي والديني بين شعوب العالم في الشهر الماضي، وهو نشاط مشترك بين «الإيسيسكو» و"المجلس البابوي للحوار بين الأديان"، وشاركت معنا "المنظمة الإسلامية لأمريكا اللاتينية والكاريبي"، و"معهد الحوار الأرجنتيني". هذا العمل يسير بشكل سريع ومثمر، وهنا أشعر بحسرة فحوارنا مع غير المسلمين يتقدم وحوارنا مع المسلمين، تقف أمامه العوائق وتختلق المثبطات وتنشر المشاكل والدسائس وهذا شيء مؤلم، يجب أن يكون البيت الإسلامي منظما وأن تكون العلاقات بين المسلمين أكثر قوة وأكثر حميمية من العلاقات مع الآخرين. إنه مؤلم حقا أن ننجح في حوارنا مع الآخر، ولا ننجح في حوارنا مع الأخ والشقيق! وهذه قضية على قدر كبير من الأهمية لا بد أن يعالجها أهل الفكر وأهل العلم وأهل الرأي في المجتمعات الإسلامية لمواجهة هذه النزعات التي تريد التخريب وتريد الهيمنة وتريد ضرب المجتمعات الإسلامية وإحداث الفرقة ، فالإسلام للجميع وليس هناك معصوم بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والبقية مجتهدون، ومن اجتهد بعلم وبإخلاص فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد والاختلاف في الرأي في هذه الموضوعات لا يفسد للود قضية، والمعول عليه كما يقول فقهاء المسلمين هو صحة الدليل، لكن أن يأتي جاهل أو مغرض ويستخدم النصوص في غير محلها ويخرج باستنتاجات لا أصل لها ولا عقل يقبلها عندئذ تحدث المشاكل، فلهذا أقول إن نشاطنا بين المسلمين خاصة مع المخالفين من المذاهب الأخرى لم يحقق الهدف الذي كنا نسعى إليه حتى الآن. وحوارنا مع الآخر يتقدم ويحقق الكثير من النتائج أخرها مؤتمر بيونس أيرس الذي اقمناه مع الفاتيكان والذي يدعو إلى احترام المقدسات الدينية واحترام التنوع الديني، والتعاون بين أتباع الأديان في نشر قيم التسامح والتضامن والاحترام المتبادل، والعمل على حماية المجتمعات الإنسانية من عوامل التخريب والانهيار الخلقي، والحرص على تماسك العائلة، والتأكيد على أن المجتمعات الإنسانية متجانسة من حيث انها تنتمي إلى أصل واحد، فجميعنا بشر ولم نأت من كواكب مختلفة ، والإنسانية تجمع كل شعوب العالم . والاختلاف في الأديان والأشكال واللغات يجب ألا يكون عائقا، وإنما يجب أن يكون جسرا للتواصل والتعاون فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض . المشترك الإنساني رغم نجاح الحوار مع الآخر (كما أشرتم إلى ذلك)، نلاحظ أنه على المستوى الكرونولوجي منذ تأسيس المنظمة إلى يومنا هذا، وقعت أحداث كثيرة في العالم عملت على تشويه صورة الإسلام، وأبرزت مفاهيم جديدة منها "الإسلاموفوبيا". فحين ننزل من خطاب النخبة المتحاورة إلى عامة الناس في المجتمعات الغربية، نجد صورة مشوهة عن الإسلام وخوفا من كل ما هو آت من وراء البحار، كيف تتعاملون في «الإيسيسكو» مع هذا الواقع؟ وما هي أبرز الأهداف التي سطرتموها لتحسين هذه الصورة؟ يجب أن نعترف أن هناك مِن بين المسلمين مَن يشوّه صورة الإسلام بتصرفاته الإرهابية والإجرامية التي لا يقبلها الإسلام، بل يجرمها ويعاقب عليها. هؤلاء يتحدثون باسم الإسلام، ويفعلون اجرامهم في بلدان المسلمين أكثر من غيرها ، كما أن هناك بعض المتعصبين من أبناء المسلمين ممّن يعيشون في البلدان الغربية يتصرفون تصرفات تسيء إلى الإسلام. والملاحظ أن الإعلام الغربي، في أغلبه، يركّز على هذه النماذج الشاذة، ويضخمها ويبرزها للمجتمعات الغربية على أنها تمثل الإسلام، ويغفل للأسف الشديد المساحة الأكبر والصورة الأكثر إشراقا لدى مئات الملايين من المسلمين في دول العالم الإسلامي الذين هم مسالمون ويعيشون حياة طبيعية ويعملون وينتجون ويسافر كثير منهم في أنحاء الكرة الأرضية ويتحاورون مع الآخر ولا يدعون إلى الإرهاب ويحترمون التعددية الدينية والثقافية واللغوية وليست لديهم أية عقد او شعور بالدونية . معظم الإعلام الغربي يركز على "داعش" و"القاعدة" و"طالبان" و"بوكوحرام" وغيرها من الجماعات الإرهابية والنماذج الشاذة التي وراءها قوى مريبة تحركها وتمولها وتحافظ على استدامتها، وهي لازالت موجودة، مع أنهم يدعون أنهم يحاربونها؛ إذا كانت هذه العصابات محدودة العدد ومحصورة في أماكن معينة، فكيف يصعب القضاء عليها؟ أكيد أن وراء ذلك أسرارا لا نعلمها. أيضا، هناك في الغرب أناس متعصبون، إما مفكرون أو إعلاميون أو سياسيون أو أحزاب يمينية متطرفة تكره الإسلام والمسلمين وتشوه صورتهم ، وتريد أن تنغلق على مكوّناتها وثقافاتها اليهودية المسيحية ، وترفض وجود الآخر معها بل تدعو الى طرده من بلدانها . اننا مقتنعون بأن الحياة الإنسانية متعددة الأشكال والألوان، ويمكن أن يستفيد كل طرف من الآخر، من ثقافته وعلومه وإبداعه، في إطار المشترك الإنساني لكن دعاة العنصرية والكراهية يعملون عكس ذلك . أنا أعتقد أن وراء تنامي ظاهرة "الإسلاموفوبيا" دوائر كارهة للإسلام والمسلمين، نافذة في العمل السياسي والإعلامي والثقافي، بينما لا يصل الصوت الآخر إلى وسائل الإعلام، وإن وصل فهو خافت، أو لا تُعطى له الفرصة الكاملة ليعبر عن موقفه كما تُعطى للآخرين. لكننا مع هذا نعمل، قدر المستطاع، بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني لتصحيح تلك الصورة السلبية. ومن ذلك اننا سنعقد اجتماعا مهما في برلين في الأسبوع المقبل لبحث سبل معالجة العداء للإسلام والخوف منه. وسبق أن عقدنا لقاءات مع إعلاميين متعددي الاتجاهات والأديان وخاصة من المسيحيين، في مدينة ليل بفرنسا وميلانو بإيطاليا وغيرهما من المدن الغربية وبهذا يتضح أن نشاطنا واسع في هذا المجال، لكنه بالطبع لا يكفي. "الإيسيسكو» لا يمكنها أن تقوم بهذا العمل الكبير والمهم بمفردها ولذلك نريد أن نتعاون مع العديد من المؤسسات الإعلامية والثقافية في الدول الأعضاء وفي البلدان الغربية من أجل دحض تلك الأفكار المشوهة والأكاذيب الملفّقة، وتصحيح بعض المعلومات التي قد يكون فيها شيء من الصواب وكثير من الخطأ، لأنه لا يمكن لومُ الإسلام بسبب ما يقوم به بعض المسلمين من أعمال إجرامية. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لوم المسيحية إذا قام بعض المسيحيين بأعمال إجرامية، والشيء نفسه ينطبق على اليهودية والبوذية وغيرهما من الأديان . .فالإجرام والإرهاب لا دين له والمجرمون والإرهابيون يوجدون في جميع الأديان والثقافات الإنسانية. فمثلا عندما قام أحد الشبان الأمريكيين في ولاية "أوريغن" بالهجوم على إحدى الكليات وقتل عددا من الطلاب وهو يسألهم عن دينهم، لم يُقَل الإعلام الغربي عنه إنه إرهابي مسيحي، بل قيل إنه يعاني مشكلات نفسية. لكن، لو قام بهذا العمل شخص مسلم لقالوا "إرهاب إسلامي " ألمْ يقبضوا على شاب سوداني لا يتجاوز سنه 16 عاما في إحدى الولاياتالامريكية قبل أسابيع، وهو يُرِي ساعة من اختراعه لأستاذته في مدرسة ثانوية فقالوا إنه يحمل قنبلة؟ صحيح أن الرئيس أوباما استنكر ذلك ودعاه إلى البيت الأبيض، لكن العنصرية تجاه المسلمين موجودة بقوة في الغرب عموما ، فهم يتعاملون مع المسلم بلُغة، ومع غير المسلم بلغة أخرى! لننتقل إلى الجرح الذي تشكو منه الأمة الإسلامية والمتمثل في فلسطين التي تعاني من طغيان صهيوني. ما هي الأعمال التي تقوم بها «الإيسيسكو»، ولا سيما من أجل الحفاظ على الهوية والكينونة والتراث الفلسطيني؟ تعد القضية الفلسطينية في صلب اهتمامات «الإيسيسكو» منذ إنشائها. إنها القضية التي على أساسها قامت "منظمة التعاون الإسلامي" في مؤتمر القمة الأول الذي عُقد في الرباط عام 1969، حيث كانت تحمل اسم "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وانبثقت عنها عدة منظمات ومن ضمنها «الإيسيسكو». منذ إنشاء «الإيسيسكو» عام 1982 والى اليوم، وُجِّهً جزءٌ كبيرٌ من عملها إلى القضية الفلسطينية بالتعاون مع السلطة الوطنية الفلسطينية التي هي السلطة المعترف بها عالمياً والتي هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، والممثل له أيضا في المجلس التنفيذي والمؤتمر العام للإيسيسكو. فهناك تعاون وثيق بيننا وبين اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، إذْ نقدم دعما مستمرا للمؤسسات التربوية والعلمية والثقافية الفلسطينية؛ وساهمنا في ترميم بعض المعالم الحضارية في القدس، وقدمنا أيضا دعما ماليا لمؤسسات أهلية فلسطينية لمساعدتها على الصمود في فلسطين وعدم التأثر بالضغوط التي تمارسها سلطات الاحتلال الصهيوني في محاولة منها لتفريغ القدس من سكانها الفلسطينيين وإحلال اليهود مكانهم؛ كما أنشأنا لجنة للخبراء الآثاريين تابعة للإيسيسكو ويتمحور عملها على المعالم الإسلامية والعربية في فلسطين المحتلة، والمساهمة في الحفاظ عليها والتعريف بها، وسيزورنا قريباً وزير التربية الفلسطيني والأمين العام للجنة الوطنية الفلسطينية للمشاركة في اجتماع سنعقده هنا في «الإيسيسكو» للجنة المذكورة، بهدف رصد ما تقوم به "إسرائيل" حالياً، في ظل الانتفاضة الثالثة، من عدوان على الحرم المقدسي من خلال إدخال اليهود المتطرفين في ساحاته ومحاولة تقسيم الأوقاف بين المسلمين وبين المستعمرين اليهود في هذا المكان المقدس الذي يخصّ المسلمين وحدهم؛ وأنشأنا كذلك لجنة خاصة بتتبع جرائم الحرب التي ارتكبتها "إسرائيل" في فلسطين، وهناك ملف متكامل أعدته هذه اللجنة المكونة من خبراء ومحامين وقانونيين من دول عربية وأجنبية خاصة من بريطانيا وإسبانيا وفرنسا، وسنتعاون مع السلطة الفلسطينية لكي يقدّم هذا الملف الجاهز إلى المحكمة الجنائية الدولية، لأن جرائم "إسرائيل" في فلسطين فاقت كل الجرائم التي ارتُكبت ضد الإنسانية في العالم كله عبر التاريخ، فما تعرّض له الشعب الفلسطيني ويتعرض له حاليا من طرف الصهاينة يفوق ما تعرض له اليهود من طرف النازية، ولكن النظام العالمي جائر وغير منصف ويرى بعين واحدة متغافلا عن الحقائق الأخرى. كل هذه الأعمال التي تقوم بها «الإيسيسكو» مع كثرتها ومع استمراريتها لا تكفي أبداً، لأن القضية الفلسطينية تحتاج إلى جهود العالم الإسلامي كله وإلى جهود جميع المخلصين في أنحاء العالم كافة، للوقوف في وجه هذه الهجمات المتغطرسة لسلطات الاحتلال الصهيوني التي لا تراعي القانون الدولي ولا تعترف به وتضرب به عرض الحائط، كما أنها لا تعترف بالكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، بل تمارس أبشع أنواع الظلم والعدوان والبطش بالشعب الفلسطيني أمام أنظار العالم ومسمعه. لكننا نعيش اليوم في عالم مختل ليس فيه عدالة ولا إنصاف ولا قانون واحد يطبق على الجميع، بل ثمة موازين مختلة، فعندما تعربد "إسرائيل" وتعتدي على المتظاهرين السلميين وتحرق الأطفال في بيوتهم وتدنّس المقدسات الإسلامية والمسيحية، يظل العالم صامتا لا يحرك ساكنا. وعندما يرمي طفل فلسطيني حجرا على صهيوني مدجج بالسلاح، يصبح ذلك إرهاباً! العناية بالشباب تعدّ فئة الشباب في العالم الإسلامي من الفئات المستهدفة أكثر من الخطط والشراكات ومن عمل المنظمة. في السنوات الأخيرة، اهتز العالم العربي على ثورات ما سمّي ب"الربيع العربي" التي أحدثت صدمة إيجابية، طُرحت معها تساؤلات من طرف مفكرين وسياسيين وناس عاديين... فهل قامت منظمة «الإيسيسكو» بوقفة تأمل في هذه المحطة التاريخية؟ وهل أخذت بعين الاعتبار فورة الشباب، وراعت هذا المعطى التاريخي في خططها المقبلة؟ نعم، نحن تفاعلنا مع ما جرى من تحركات بدأت في تونس، ثم انتشرت في عدد من الدول العربية الأخرى. لقد كنا دائما ندعو إلى تمكين الشباب والاستماع إليهم وإفساح المجال لهم للمساهمة في بناء مجتمعاتهم وإدارة شؤونهم. إننا نرى أنه لا يمكن أن تتقدم الدول الإعضاء إلا إذا اعتمدت الحكامة الرشيدة المبنية على العدل والإنصاف والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وإفساح المجال للمواطنين على اختلاف أنماطهم للإسهام في بناء أوطانهم بكل حرية وكرامة. كانت هناك أنظمة ضاغطة وتسلّطية، ولا يزال بعض منها قائما رغم جرائمه ضد شعبه وتخندقه في الطائفية بدعم من قوة إقليمية واُخرى دولية ، فالعالم الإسلامي ليس عالما مثاليا، ففيه الكثير من العيوب، لكننا ما زلنا نطالب بأن يكون الاهتمام بالشباب أولوية في خطط عمل الدول الأعضاء في «الإيسيسكو» وفي سياساتها العامة، لأن الشباب هم عماد الوطن، وهم الذين تقوم عليهم النهضة في مجتمعاتهم. وإذا كُوِّنُوا تكويناً جيّداً واحتُرمت حقوقهم واعتُرف بقدرتهم على الإسهام في بناء أوطانهم وأتيح لهم المجال لذلك، عندئذ ستتغير الأوضاع. لا يمكن أن نغفل قضية مهمة في هذا الجانب، وهي أنه إذا كان الشباب متروكا لتغيرات الزمان، دون رعاية ولا توجيه واهتمام فسيحدث ما نراه اليوم من انحرافات ومن إرهاب وضياع وبؤس ويأس... مما يدفع طائفة من الشباب إلى الانخراط في أعمال ضالّة ومخربة أو إلى الهجرة وترك الأوطان والتعرض للموت في قوارب تمخر عباب البحار. إذا لم تهتم دولنا بالشباب وتحرص على وضعهم في صلب سياساتها التنموية، فحينذاك ستشيخ هذه الدول وتصل إلى مرحلة من الضعف، ولن يجدي بعد ذلك أي حل ترقيعي. ولذلك، وضعت «الإيسيسكو» برامج للعناية بالشباب، وعقدت مؤتمرات كبيرة خصصت لهم، وجلّ نشاطاتنا موجّه للشباب في المدارس المتوسطة والثانويات والجامعات، لأن هذه الفئة تشكل الجزء الأكبر من السكان في عالمنا الإسلامي، كما تكشف ذلك الإحصاءات الأخيرة. لدينا ، فإذا لم يكن الشباب على قدر مهم من التعليم ومن الثقافة والمهارة والقدرة العلمية، وإذا لم يكن منفتحا فكريا ومتسامحا أخلاقيا مع الآخرين، فإن المستقبل سيكون مظلما بدون شك. ومن هذا المنطلق حرصنا ان نضع في خطة العمل الجديدة التي سنبدأ في تنفيذها بداية من عام 2016 إن شاء الله، برامج كبيرة للعناية بالشباب واهتماماتهم. وخلال هذا العام، بل اننا أرسلنا قبل أسابيع قليلة مجموعة من الشباب من دول أعضاء في الإيسيسكو إلى الأممالمتحدة، لحضور اجتماعات الجمعية العامة، لأتاحة الفرصة لهم ليتعرفوا على هذه المنتديات الدولية وما يجري فيها وماذا يفعله السياسيون هناك، لعل الشباب يكتشفون أشياء جديدة لا يرونها إلا في وسائل الإعلام. فمشاركة الشباب في أيّ مكان يفيدهم ويساهم في تنمية قدراتهم وهو مطلب ضروري وفي صلب اهتمامات «الإيسيسكو». تبعاً لهذه النقطة، نلاحظ وجود حالة فقدان أمل في عمل بعض المنظمات والاتحادات العربية والإسلامية، فكثيرا ما تتم مقارنتها مع اتحادات أوربية أو عالمية، ربما نجحت أكثر في تذويب الخلافات وفي إحداث حالة توحد تام وكلي، سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا... ما مدى حقيقة هذا التوصيف الذي يشير إلى ضعفنا إزاء تفوّق الآخر، على سبيل المثال الاتحاد الأوربي؟ بالطبع، يجب أن نعترف بأنهم متفوّقون علينا من جوانب معينة ، وإلا سنكون مغرورين إذا قلنا إننا نضاهيهم أو إننا أحسن منهم، هذا غير صحيح. الاتحادات الغربية في وضع مختلف. أولا، الدول الغربية استقرّت سياسيا وديمقراطيا وبرلمانيا، فهناك تناوب للسلطة وهناك مؤسسات دستورية وهناك استقلالية للقضاء ومحاسبة وشفافية في التعامل مع القضايا التي تهمّ المجتمعات الغربية. أما في العديد من بلدان العالم الإسلامي فالأوضاع مختلفة تماماً. أنا أعتقد أن هذا الأمر يرتبط بالوضع السياسي، فإذا كانت الممارسة السياسية تقوم على أسس ديمقراطية وإدارة رشيدة فستنجح المؤسسات الأهلية وغير الأهلية. وإذا كانت غير ديمقراطية وغير رشيدة فسيتساوى الجميع في الضعف أو على الأقل في عدم القدرة على القيام بما هم مؤهلون للقيام به. فنحن، في منظمات العمل الإسلامي المشترك، نعمل في ظل هذا الوضع الذي نعيشه، ونحاول قدر الإمكان أن نحقق أكبر نسبة من النجاح. ولذلك، فعلاقاتنا مع المنظمات الدولية في إطار الأممالمتحدة تتميز بقدرة «الإيسيسكو» على التنافس وعلى تقديم المفيد، وعلى أن تكون شريكا يفي بالتزاماته ، وهم يعترفون بأننا شركاء جادون. وقد قالت المديرة العامة "لليونيسكو " عن «الإيسيسكو»، في أكثر من مناسبة، إنها المنظمة المثالية بالنسبة للتعاون مع "اليونيسكو" والمنظمة العالمية للفرنكفونية تؤكد الشيء نفسه، ومجلس أوربا تربطنا به علاقات قوية، إنهم يحترمون «الإيسيسكو» ويرون فيها منظمة تلتزم بما تتعهد به وتنفذه. هذا يسرّنا كثيراً، ولكننا نريد أن يكون ذلك سائدا في عالمنا الإسلامي كله، نريد أن تتحسن الأوضاع فيه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وأن يُرَكَّزَ على التمكين للحُكم الرشيد، فالقمة الاستثنائية الثالثة التي عُقدت في مكةالمكرمة عام 2012، أكدتْ في بيانها الختامي على ضرورة تطبيق الحكم الرشيد في الدول الأعضاء في "منظمة التعاون الإسلامي"، وعلى احترام حقوق الإنسان والتنوع الثقافي والمذهبي... هذا كلام جميل، لكن أين هو في التطبيق؟ نريد أن نراه مطبقا، نريد حكومات رشيدة تحكم بشكل يحفظ تماسُك المجتمع، ويحقق المساواة ويمنع الظلم والفساد والمحسوبية وتبذير الأموال وإضاعة الجهود في ما لا ينفع. نريد أن نرى الذي يقصّر في تدبير قضايا الشأن العام يُحاسب ويُعاقب على تفريطه في المسؤولية وإضاعته لمقدرات الشعوب، نريد أن نرى الشخص المناسب في المكان المناسب بقدرته وبعلمه وإنجازه وليس بعلاقاته، نريد أن نرى تكافؤ الفرص في مجتمعاتنا وأن يكون هذا المبدأ مبنيا على ظروف متماثلة ونزيهة تتيح للجميع الحصول على حقوقهم دون أية تدخلات من هنا أو من هناك... هذه قضايا جوهرية توجد في البلدان الغربية بشكل أفضل مما لدينا. وحين نصل إلى هذا الوضع السليم والنظيف في مجتمعاتنا الإسلامية، سيكون لذلك أثر إيجابي على عمل كل منظّماتنا. هذه القيم والمبادىء موجودة في ديننا ولكنها مع الأسف الشديد غير مطبقة في حياتنا. ولذلك يجب أن ينشغل بها المجتمع في كل دولة من الدول الأعضاء من خلال المؤسسات المدنية والنقابات والإعلام والمفكرين والمثقفين الذين هم أيضا سلطة مهمة في التوعية ونشر الفكر البناء والتنبيه إلى الأخطاء والانزلاقات التي قد تقع في هذه الدولة أو تلك. وما أشرتم إليه في السؤال صحيح، لأننا لا نستطيع أن نقارن أنفسنا بمنظمات في إطار الاتحاد الأوربي مثلا الذي استطاع، خلال وقت قصير جدا، أن يجمع هذه الدول الأوربية المختلفة في مذاهبها الدينية وفي لغاتها وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في إطار متناسق ومتكامل، وأن تصبح كتلة قوية في العالم لها وزن واحترام وتأثير، وأن تكون هناك عملة واحدة أيضا وتأشيرة واحدة في عدد واسع من الدول الأوربية. نحن لم نستطع أن نفعل ذلك في إطار ضيق، وليس في العالم الإسلامي كله، إذ لم نستطع أن نحقق ما حققته المجموعة الأوربية. يجب أن نتواضع ونتعلم من غيرنا، وأن نستلهم النماذج الناجحة في العالم ونستفيد منها. أخيرا، أي دور يقوم به الإعلام بأشكاله التقليدية والحديثة في تجسيد القيم التي تسعى "الإيسيسكو" إلى تحقيقها؟ في الحقيقة، يقوم الإعلام بدور كبير في هذا المجال، فمن خلال متابعتي لما ينشر في الصحف المقروءة والإلكترونية وعبر وسائط التواصل الاجتماعي، يمكنني أن أؤكد أن جزءا كبيرا من هذا الإعلام فيه كثير من التأثير النافع، لأنه يتوجه إلى قضايا جوهرية في مجتمعاتنا، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وغير ذلك من القضايا التي تندرج ضمن تطلعات شعوب العالم الإسلامي. لكن، هناك بعض أنماط الإعلام التي تعتمد على الإثارة، للأسف الشديد، بهدف استقطاب أكبر عدد ممكن من المعلنين. فالمهنية والمسؤولية الإعلامية تتوارى هنا قليلا أو تتلاشى تماماً. *عن جريدة "القدس العربي"